بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
قلم الإمام يخشي الله منصور
قال الله سبحانه وتعالى:
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: ٧١)
قراءة المزيد: الضفة.. مستوطنون إسرائيليون يحرقون مركبتين شمالي رام الله ويخطون
ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله أن قوله تعالى “الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” يشير إلى أرض الشام، وهي المنطقة التي تشمل فلسطين وما حولها، وتعرف بخصوبتها وكونها موطنًا للأنبياء والرسل عليهم السلام.
أما سيد قطب رحمه الله، فقد فسر في كتابه في ظلال القرآن أن البركة في تلك الأرض لا تقتصر على خصوبة التربة وجمال الطبيعة، بل تشمل بركة القيم والرسالة، فهي أرض مباركة لأنها كانت مركز انبثاق الوحي ونور الإيمان للبشرية جمعاء.
وأوضح العلّامة الإندونيسي الأستاذ الدكتور قريش شهاب في تفسير المصباح أن البركة المقصودة في الآية مستمرة ودائمة، وتشمل الجوانب الروحية والمادية، مشيرا إلى أن الأرض المباركة في الآية هي فلسطين وما جاورها.
تشير كلمة “لِلْعَالَمِينَ” في الآية الكريمة إلى أن منفعة الأرض المباركة ذات طابع شامل وعالمي، يتجاوز حدود العِرق والقوم والزمن. فالبركة التي أنعم الله تعالى بها لا تقتصر على قومٍ أو جيلٍ بعينه، بل تشمل البشرية جمعاء عبر العصور.
قراءة المزيد: الرئيس الفلسطيني يطلع نظيره العراقي على الأوضاع الإنسانية بغزة
ويتفق المؤرخون على أن الشواهد الأثرية تؤكد أن أرض فلسطين كانت مأهولة قبل مجيء النبي إبراهيم عليه السلام بقوم الكنعانيين، وهم أسلاف الشعب الفلسطيني في عصرنا الحاضر.
ومع ذلك، فإن الأرض المباركة أي فلسطين بعد أن أقام فيها النبي إبراهيم عليه السلام، لم تصبح ملكا لقوم بعينهم، بل كانت منحة إلهية للعالمين كافة، لتكون موطنًا لنموّ الحياة والعدل والقيم الإنسانية السامية.
لقد منح الله سبحانه وتعالى هذه الأرض المباركة رحمة وأمانة، وجعل على البشرية جمعاء واجبًا أخلاقيًا واجتماعيًا يتمثل في استثمار مواردها الطبيعية بما يحقق الخير للإنسانية كلها.
تؤكد الرسالة العالمية في الآية الكريمة أيضًا أن البركة التي أنعم الله تعالى بها على تلك الأرض مقرونة بمسؤولية الحفاظ عليها وحمايتها من جميع أشكال الفساد والظلم والاعتداء بين البشر.
قراءة المزيد: “الصحة العالمية” تطالب بإطلاق سراح كوادر طبية اختطفوا في الفاشر
لمحة عن حضارة قوم كنعان
يعدّ قوم كنعان السكان الأصليين لأرض فلسطين، وقد عاشوا فيها منذ آلاف السنين قبل مجيء النبي إبراهيم عليه السلام. ويعرفون بأنهم من أقدم الشعوب في بلاد الشام (التي تشمل فلسطين ولبنان وسوريا وجزءا من الأردن).
تشير الاكتشافات الأثرية والسجلات التاريخية إلى أن قوم كنعان قد بنوا مجتمعا منظمًا وحضاريا منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتظهر إحدى أقوى الأدلة على تقدمهم في مدينة أريحا، التي تعدّ من أقدم المدن في العالم بحسب علماء الآثار.
استنادا إلى الأبحاث الأثرية البريطانية التي قامت بها كاثلين كينويون في خمسينيات القرن الماضي، أظهرت الطبقات الترابية في موقع أريحا أن المدينة قد سكنت منذ حوالي تسعة آلاف سنة قبل الميلاد، وكانت مركزا للمستوطنات الدائمة تحيط بها أسوار دفاعية وأبراج حجرية، وتمتلك نظاما زراعيا متقدما.
قراءة المزيد: المغرب يعلن محاكمة مئات المحتجين بـ”شروط قانونية عادلة”
كما يظهر تقدم قوم كنعان في مجالي الزراعة والتجارة، حيث استغلوا خصوبة وادي الأردن لزراعة القمح والشعير والزيتون والعنب، كما قاموا بتربية الماشية على نطاق واسع.
ويشكل موقع فلسطين الاستراتيجي بين بلاد ما بين النهرين ومصر عاملا مهما في جعل قوم كنعان جزءا أساسيا من شبكة التجارة الدولية القديمة. وقد وجدت في مواقع مستوطناتهم آثار للبضائع مثل الفخار والمعادن والتوابل والنسيج القادمة من مصر وبابل، مما يدل على وجود تبادل اقتصادي وثقافي بين الشعوب.
وفي مجال التخطيط العمراني، طور قوم كنعان نظاما تحضريا مخططا بعناية، حيث امتلكت مدن حاصور ومجدو ولخيش تحصينات، وأبواب مدن، ومعابد، وأنظمة للصرف الصحي، مما يعكس تقدمهم في الهندسة المدنية.
وفقا للأثري أميهاي مازار، تظهر الهياكل الحضرية لقوم كنعان وجود هيكل سياسي وإداري معقد، قادر على تنظيم القوى العاملة على نطاق واسع. ويشير ذلك إلى أن قوم كنعان قد امتلكوا حكومة محلية فعالة قبل ظهور الممالك الكبرى في المنطقة.
قراءة المزيد: قدم.. الاتحاد يثأر من النصر ويطيح به من بطولة كأس ملك السعودية
كما كان للغة وثقافة كنعان تأثير كبير على تاريخ العالم القديم. فقد شكلت اللغة الكنعانية أساس اللغة الفينيقية والعبرية، التي تطورت لاحقا لتصبح جزءا مهمًا من اللغات السامية الغربية.
وتشير سجلات الرسائل الأمَرناوية من مصر (حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد) إلى أسماء حكام كنعان وأنشطتهم الدبلوماسية مع فرعون مصر، مما يدل على أن هذا الشعب لم يكن منعزلًا، بل كان له علاقات سياسية وثقافية مع القوى الكبرى في العالم القديم.
وقد خلص مؤرخون مثل ويليام إف. ألبرايت وجون برايت إلى أن قوم كنعان كانوا يتمتعون بحضارة متقدمة، وكانت حلقة وصل حضارية بين الشرق والغرب القديم، إذ نجحوا في دمج عناصر الثقافة المصرية وبلاد ما بين النهرين والثقافة المحلية في فلسطين ضمن هوية مميزة.
تعززت هذه الرؤية من خلال الاكتشافات الأثرية في مواقع مثل بيت شِعان وجيزر، حيث عثر على قطع أثرية معدنية، ونقوش، وبقايا معمارية ضخمة تعكس حياة مجتمع متقدم وشامل.
قراءة المزيد: شيخ الأزهر يحث إيطاليا على الاعتراف بدولة فلسطين
وبالتالي، فإن قوم كنعان ليسوا مجرد أسماء واردة في النصوص القديمة، بل هم صورة حقيقية لحضارة أصيلة تركت أثرا طويل الأمد في الأرض المباركة.
وصول الصهاينة وإعلان بلفور
كما يشير المؤرخ الفلسطيني رشيد خالدي في كتابه الحرب المائة على فلسطين:
“هذا الصراع ليس بين أمتين لهما حقوق متساوية في الأرض، بل بين مستعمر قادم من الخارج وسكان أصليين عاشوا على هذه الأرض لآلاف السنين.”
قراءة المزيد: 20 آلية إسرائيلية تتوغل داخل ريف القنيطرة بسوريا
ظهرت حركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر كمشروع استعماري حديث يهدف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
وفي عام ١٩١٧، أصدر وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور إعلانا شهيرا يعرف باسم إعلان بلفور، أعرب فيه عن دعم بريطانيا لإقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، مع أنّها كانت مأهولة بالعرب الفلسطينيين حينها.
أصبح إعلان بلفور بداية الاحتلال الجديد لفلسطين. في ظل الانتداب البريطاني، دفعت آلاف المهاجرين اليهود من أوروبا للمجيء والاستيلاء على أراضي الشعب الفلسطيني. وبلغ الأمر ذروته في عام ١٩٤٨، عندما أعلنت الصهيونية الإسرائيلية دولة إسرائيل من جانب واحد، وطردت أكثر من ٧٥٠ ألف فلسطيني من منازلهم خلال النكبة.
وبذلك، يتضح أن وجود الصهاينة في أرض فلسطين ليس امتدادًا للتاريخ، بل نتيجة مشروع استعماري حديث مدعوم من القوى الغربية الكبرى.
قراءة المزيد: الموساد يدعي كشف هوية مسؤول إيراني يقف وراء محاولات هجمات بعدة دول
الادعاء بأن فلسطين هي الأرض التي وعد الله بها اليهود ليس إلا رواية دينية مُحرفة لأغراض سياسية بحتة. ولا يوجد أي دليل تاريخي أو أخلاقي يبرر طرد أو قتل شعب آخر باسم وعد إلهي.
وأشار أحد أبرز مهندسي الدبلوماسية اليهودية الدولية، الدكتور نهوم غولدمان (١٨٩٥–١٩٨٢)، إلى أن اليهود لم يختاروا فلسطين بسبب التوراة، ولا بسبب احتواء البحر الميت على موارد معدنية وغير معدنية تقدر بمليارات الدولارات، ولا بسبب احتياطيات النفط فيها التي تعادل عشرين ضعف احتياطي الولايات المتحدة.
وأضاف أن السبب الرئيسي وراء رغبة اليهود في السيطرة على فلسطين هو موقعها الاستراتيجي عند ملتقى طرق أوروبا وآسيا وأفريقيا، إذ تُعد فلسطين مركزاً رئيسياً للقوة العالمية وماكراً عسكرياً استراتيجياً للتحكم في العالم.
ووصف المفكر الفلسطيني المسيحي البارز، إدوارد سعيد، ما يُسمى بـ “حل الدولتين” بأنه وهم سياسي مضلل، لأن العدالة لشعب فلسطين لن تتحقق ما دامت بنية الاستعمار الصهيوني قائمة.
قراءة المزيد: محكمة غزة”.. خبراء يناقشون صمت النظام الدولي تجاه جرائم إسرائيل”
أكد سعيد أن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا بإلغاء نظام الفصل العنصري والاحتلال الإسرائيلي. وفي السياق الإسلامي، فإن السلام بدون عدالة ليس سلاما حقيقيا، وسوف يؤدي فقط إلى السماح باستمرار الاستعمار والظلم.
كما أن العديد من الشخصيات الأكاديمية والدولية رفضت أيضا ادعاءات الصهاينة على الأراضي الفلسطينية. ومن بين هؤلاء، البروفيسور ريتشارد أ. فالك، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة بشأن فلسطين، الذي أكد أن احتلال إسرائيل يمثل شكلا من أشكال الاستعمار الاستيطاني الحديث، ويعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي.
حل الدولتين ليس طريق العدالة
في مختلف المنتديات الدولية، اقترح العديد من الأطراف ما يعرف بحل الدولتين، أي إقامة دولة إسرائيل ودولة فلسطين تعيشان سويا بسلام. ومع ذلك، فإن هذا الحل لا يعالج جذور المشكلة الحقيقية.
قراءة المزيد: “ناشطون بأسطول الصمود يدلون بشهاداتهم في “محكمة غزة
حل الدولتين يعني إضفاء الشرعية على الاحتلال القائم، وهو بمثابة الاعتراف بنتائج الاستعمار على أنها شرعية، بينما يمنح الشعب الفلسطيني المطرود جزءا ضئيلا فقط من أرضه.
لا يمكن تحقيق السلام على أساس شرعية الظلم والاستعمار. لا وجود لسلام حقيقي ما دامت الانتهاكات مستمرة. الحل الصحيح يكمن في إعادة الحقوق إلى أصحابها الشرعيين، أي الشعب الفلسطيني.
فلسطين ليست مجرد قضية سياسية أو حدودية، بل هي قضية عدالة وإنسانية، وتمثل مصدر سلام للبشرية جمعاء. ففي النظرية الجيوسياسية، هناك عبارة تقول: “السلام في فلسطين، سلامٌ للعالم”.
يحق للشعب الفلسطيني أن يعيش على أرضه، كما يحق لأي شعب أن يعيش حرّا في بلده. ويجب أن يقوم تحقيق العدالة في الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية على رفض الاستعمار، واستعادة الحقوق الأرضية، والاعتراف بالتاريخ الحقيقي.
ولا ينبغي أن تكون دولة فلسطين مجرد رمز على الخريطة أو حكومة دمية تدار من جهات أجنبية. بل يجب أن تتمتع بالسيادة الكاملة على أراضيها ومواردها وحياة شعبها.
نسأل الله أن تتحقق الحقيقة والعدالة قريبا لشعب فلسطين، ليكون الوريث الشرعي لأرض الأنبياء، الأرض المباركة، ولتعمّ السلام الحق جميع الأمم.
السلام في فلسطين، سلام للعالم.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ











Mina Indonesia
Mina Arabic