حماس… ضررات المراجعة والتقييم
مؤمن بسيسو
كاتب فلسطيني
الثلاثاء، 3 ربيع الأول 1437 الموافق 15 ديسمبر / كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
الحركات الكبرى لا تخشى المراجعة والتقييم، لذا فإن الذكرى الـ28 لانطلاقة حركة حماس التي مرت منتصف الشهر الجاري تشكل فرصة مواتية لتقييم العمل والأداء في ظل الأخطاء والمنزلقات التي أصابت الحركة في السنوات الأخيرة.
لا تتسع المساحة المحدودة للمقال لتقييم حركة بحجم ووزن حركة حماس التي عاشت تحولات كبرى في التفكير السياسي والجهادي منذ انطلاقتها وحتى اليوم، وأحدثت أثرا كبيرا في حياة الشعب الفلسطيني ومسارات قضيته الوطنية إلا أن جلال اللحظة التاريخية التي تمر بها حماس يفرض علينا الإشارة إلى أبرز مواضع الخلل والإخفاق في مسيرتها، فضلا عن توجيه العديد من النصائح الأساسية المستمدة من رحم الواقع المعاش.
أخطاء ومنزلقات
لعل أبرز هذه الأخطاء والمنزلقات تتمثل في التالي:
أولا: السقوط في فخ الانقسام
لا يجادل كثيرون في أن الاحتراب الداخلي الذي سبق أحداث الانقسام الأليمة منتصف عام 2007 كان مفتعلا، وأن فصوله قد حبكت بعناية عبر توجيه خارجي لإفشال تجربة حماس الجديدة في الحكم آنذاك، إلا أن الاضطرار إلى المعالجة الأمنية الموضعية ذات الظرف الزمني المحدود التي تستهدف تطهير بعض الجيوب والمجموعات المتمردة شيء، والحسم الأمني الشامل المتبوع بحسم سياسي واضح شيء آخر تماما.
منذ اللحظة الأولى التي أعقبت فوز حماس في الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006 كان واضحا أن الحركة قد ولجت معتركا صعبا لم تخبر تضاريسه وتعرجاته من قبل، وأن قدرتها على مجابهة الصعوبات المتولدة عنه تبدو بالغة المحدودية والضعف.
ويتعلق ذلك خصوصا بانتقالها الفجائي من مقاعد المعارضة إلى تبوؤ مقاليد الحكم من دون أي تهيئة أو مقدمات، مع ما يعنيه ذلك من توقعات طبيعية بنشوء إشكاليات ذات بال تتعلق بمدى مرونة تسليم الحكم والإدارة من قبل حركة فتح التي تشكل العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، وتوقن بأنها صاحبة مشروع نشأة وتأسيس السلطة والأحق بتولي أمرها من دون منازع.
لم تدرك حماس أن الوضع الفلسطيني الداخلي يسير على رمال متحركة، وأن الألغام المنزرعة في مفاصله وجنباته المختلفة كفيلة بتفجير الموقف بين عشية وضحاها، وأن أصول الحكمة تقتضي الدراسة المتأنية لكل خطوة وموقف بعيدا عن الانجراف في دوامة المخطط الذي رسمه البعض لتوريطها في أوحال مستنقع الفتنة الداخلية.
وهكذا انجرفت الحركة بعفوية مفرطة وراء سياقات الأحداث من دون تمحيص كاف لتجد نفسها في كل لحظة أمام وقائع جديدة غير متوقعة، وتنتهي بها الأمور في نهاية المطاف إلى السيطرة على غزة عسكريا في ساعات معدودات.
وبطبيعة الحال تبرز أسئلة كثيرة حول سر التهاوي السريع للقوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في ذلك الوقت، إلا أن ذلك يبدو هينا أمام السلوك اللاحق الذي أحال الحسم الأمني الحاصل إلى حسم سياسي ترتبت عليه تداعيات كبرى دفعت القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني جراءها ثمنا باهظا طوال سنوات البؤس والحصار والعدوان الماضية.
ثانيا: ضعف الحكم والإدارة
منذ انخراط حركة حماس ضمن إطار النظام السياسي الفلسطيني عقب فوزها في الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006 وما أعقب ذلك من تداعيات سياسية -إقليميا ودوليا- وجنوح النظام الإقليمي والدولي نحو فرض الحصار على الشعب الفلسطيني -خصوصا في قطاع غزة- واستدعاء شروط “الرباعية” المعروفة كان واضحا أن الحركة قد دخلت عمليا في عنق الزجاجة، وأن المأزق الذي تواجهه في كفة، وكل ما واجهته الحركة سابقا من مآزق في كفة أخرى.
تأسست قناعة حماس من وراء انخراطها في صلب النظام السياسي الفلسطيني على كون ذلك وسيلة من وسائل التخفيف عن الناس وإدارة شؤونهم اليومية وتغطية ظهر المقاومة سياسيا، فيما تبقى المقاومة حجر الزاوية ضمن المشروع الفلسطيني النهضوي، والخيار الإستراتيجي لاستعادة الحقوق المشروعة والأرض السليبة.
لكن انغماس الحركة في العمل الحكومي، وما واجهته من ظروف قاسية وتحديات على مختلف الصعد ولد لديها قناعة كاملة أن الأمر ليس سهلا كما تصورته في البداية، وأن ولوجها إلى مرحلة الحكم المباشر -خصوصا في مرحلة ما بعد سيطرتها على قطاع غزة عام 2007- كفيل بإصابتها بالكثير من الخسائر التي لم تكن ضمن أجندتها الوطنية وحساباتها الحزبية.
وفعل ضعف الخبرة السياسية والإدارية لحركة حماس في إدارة شؤون الحكم على مستوى التعاطي مع القضايا السياسية والخدماتية المختلفة فعله في الحركة، مما جعلها في مرمى نقد شرائح مهمة من المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة الذين وضعوا أداء الحكومة التي شكلتها الحركة على المقصلة، وحاكموا تجربة الحركة انطلاقا من الصعوبات الكبرى التي أصابت الوضع الاقتصادي وقسوة الظروف المعيشية التي عايشها أهالي القطاع في مرحلة الحصار الذي أعقب سيطرة الحركة على مقاليد الأمور هناك.
ثالثا: فقدان الظهير الإستراتيجي
ليس من المبالغة في شيء القول إن حماس قد فقدت سندا أساسيا وظهيرا قويا إثر انهيار العلاقة مع إيران عمليا بفعل فك الارتباط مع النظام السوري، وبالتالي توقف الدعم المالي الإيراني الذي تجاوزت به الحركة جزءا كبيرا من آثار الحصار المالي المضروب على القطاع سنوات طويلة.
ولعل المعضلة التي واجهت الحركة آنذاك تكمن في خطأ الحسابات السياسية التي رسمتها على إيقاع التضاريس المتقلبة التي أفرزها واقع الثورات العربية، وجنوحها نحو اتخاذ مواقف مبدئية -قطعية ونهائية- لم تترك لها أي فسحة أو هامش سياسي بما يتناسب مع خصوصية القضية الفلسطينية، وضرورات الحفاظ على حدود التواصل وتحشيد الدعم من لدن القوى الفاعلة في الأمة ومكوناتها المختلفة.
وجاءت التحولات المتسارعة التي طرأت على الساحة المصرية على إثر الانقلاب على جماعة الإخوان، وضعف إدارة حماس لملف العلاقة مع مصر لتترك حماس بلا أي داعم أو ظهير إستراتيجي حتى اليوم.
رابعا: تزعزع المكانة الداخلية
لم تعش حماس علاقة غير سوية مع شرائح مهمة من الجماهير داخل قطاع غزة كما هو الوضع اليوم، ولم تعش ظروفا صعبة على أرض الضفة الغربية كما هو الحال اليوم.
فقد فعلت تجربة الحكم فعلها في عدد كبير من أبناء القطاع الذين حاكموا تجربة الحركة وممارساتها الإدارية في سياقات موضوعية بحتة بعيدا عن المؤثرات الخارجية التي تجسدت في ثوب الحصار.
وعلى الرغم من قناعة هؤلاء بوجاهة موقف حماس في مواجهة الحصار فإنهم ينكرون عليها الإصرار على التصدي لتجربة الحكم وسياسة أمور الناس في ظل استمرار الحصار الشرس الذي أحال حياة أهالي القطاع إلى جحيم لا يطاق.
ومع كل يوم كانت تمضيه حماس في الحكم كان رصيدها الشعبي يتناقص باطراد كونها من يتحمل مسؤولية العجز عن تقديم الخدمات الناس في ظل اشتداد الحصار.
بل إن حماس واجهت أزمة جديدة عقب إبرام اتفاق المصالحة وتشكيل حكومة التوافق الوطني من خلال أزمة رواتب موظفي حكومتها السابقة الذين طمأنتهم بالأمان الوظيفي في الوقت الذي أعلنت فيه حكومة التوافق خضوعهم لمعايير البحث القانوني والهيكلة الإدارية.
فوق ذلك، فإن حماس أهملت معايير العدالة في علاقتها مع المواطنين، بل طال الأمر قطاع الموظفين في حكومة هنية السابقة الذين يشكل عناصرها أغلبيتهم الساحقة.
نموذج مغاير
لذا تحتاج حركة حماس إلى تقديم نموذج وطني راق ومسؤول مغاير لما كان عليه الحال سابقا، لعل أحد أهم أشكال الخلل التي نخرت في صلب التجربة السياسية لحركة حماس على مدار المرحلة الماضية تكمن في أخطائها المتكررة وضعف استجابتها لنصح الناصحين.
لا نريد لتجربة حماس اليوم أن تنهار، ولا لمشروعها أن ينكسر، فقوتها كما قوة فتح هي قوة للشعب والأمة، وضعفها ضعف للشعب والأمة.
لا نتحدث عن الجانب المقاوم الذي قدمت فيه حماس إسهامات مشرفة، لكننا نطرق أساسا الجانبين السياسي والإداري اللذين اعتورهما الكثير من أوجه الخلل والقصور.
من الصعب إقناع الجماهير بمدى جدية وأهلية التجربة السياسية لحماس مستقبلا بعيدا عن تقديم مقاربة وطنية جديدة واضحة وصريحة ومكشوفة يتم في إطارها تصويب الخلل وتقويم الأداء ووضع الأمور في نصابها على أساس وطني سليم.
من السهل تبسيط الأمور ووضعها في قالب سياسي بحت، والقول بضخامة الهجمة التي تشن ضد الحركة وسلطتها الحاكمة، وصعوبة إحداث المكاشفة الصريحة والتقويم العلني وفقا للتقاليد والأصول الوطنية، وعدم الرغبة في إظهار الأخطاء وأشكال القصور على رؤوس الأشهاد كمبرر للتهرب من الاستحقاقات الوطنية والنزول عند مقتضيات المساءلة المطلوبة والعلاج المنشود.
إن حماس اليوم تعيش تجربة لها استحقاقاتها التي لا يمكن تجاوزها إن أرادت أن تكرس انتقالها من الإطار الحركي المعروف إلى الإطار الحاكم المسؤول عن حياة ومصير الشعب الفلسطيني، لكنها ما زالت تحمل العقلية الحركية الضيقة في التعاطي مع الشأن العام ومسألة الحكم والإدارة، وتنسى أن التصدي لشؤون الحكم يضع أصحابها تحت مطرقة الحساب والمساءلة الشعبية على الدوام.
لا خلاف على حساسية الظروف ودقة الأوضاع، لكن خوض معترك الحكم والإدارة، وتقلد المسؤولية عن حياة ومصير الناس، وما يتطلبه ذلك من التزام صارم بمقتضيات القانون شيء، والبقاء في مقاعد المعارضة شيء آخر تماما.
نصائح واجبة
النصيحة الأولى تتمثل في استفراغ الوسع وبذل كل ما من شأنه طي صفحة الانقسام البغيض مع حركة فتح، حتى لو اضطرت حماس لتقديم تنازلات حزبية، لأن التنازل الحزبي لصالح الوطن يشكل عنوان الفضيلة وذروة التلاحم مع هموم ومصالح الفلسطينيين الذين يعيشون ظروفا بالغة القسوة في قطاع غزة على مختلف المستويات.
فيما تكمن النصيحة الثانية في إيلاء الأهمية القصوى للتواصل وبسط جسور الإخاء والوداد مع الناس، والحرص الدائم على حل مشاكلهم وتخفيف معاناتهم الكبرى جراء الحصار والعدوان الإسرائيلي.
أما النصيحة الثالثة فتركز على تعزيز البعد التربوي ضمن أجندة أولوياتها التنظيمية الداخلية، وضخ مزيد من الكفاءات المدربة في دواليب العمل التربوي، لأن عوائد الجهد والعمل التربوي قد تراجعت بوضوح في غمرة انغماس الحركة في العمل السياسي، وهو ما وجد تجسيداته السلبية على أرض الواقع.
النصيحة الرابعة تعنى بأهمية استخلاص العبر من العثرات ونقاط الخلل إبان تجربة الحكم طوال السنوات الماضية، خاصة لجهة إنفاذ معايير العدالة وعدم المساس بالحريات العامة في المجتمع الغزي.
وتكمن النصيحة الخامسة في إحداث مراجعة جدية لملف العلاقة مع مصر، بما يعمل على ترطيب الأجواء معها، ويقود إلى بلوغ خلاصات مرضية تطوي صفحة الأزمة وتنهي معاناة أهالي القطاع.
وتتعلق النصيحة الأخيرة لحماس بضرورة استعادة الثقة التنظيمية الداخلية لعناصرها عبر مراجعة أسس ومعايير العدالة داخل الحركة، لأن سلامة ومتانة الصف الداخلي تشكل الركيزة الأولى لمواجهة سائر التحديات التي تواجه الحركة هذه الأيام.
ما سبق يعبر عن تشخيص جزئي لحالة حماس ونصائح سريعة لحل مشكلاتها الراهنة، وهو ما ينبغي على الحركة استدراكه والعمل بمقتضياته من دون أي تأخير للخروج من المأزق الراهن بأقل الخسائر والتكاليف.
المصدر : الجزيرة.نت