رفع العقوبات عن السودان.. مخاطرة لا مهرب منها
عبد الله علي إبراهيم
أستاذ التاريخ الإفريقي والإسلامي بجامعة ميزوري
متى نظر الوطني السوداني في خطاب العقوبات الأميركية على السودان، التي تقرَّر رفعها جزئياً ابتداء من 12 كتوبر/تشرين الأول الجاري؛ أصابه الهوان والسأم معاً. فالهوان لأن هذه العقوبات التي تكبدها السودان -بغض النظر عمن كان السبب- جعلته في قول أهله “جضماً (صفحة الوجه) مَعلَّم على الصفق”.
عقوبات متوارثة
فلم يمر رئيس على أميركا -منذ رونالد ريغان- لم يصفق السودان بعقوبة، سوى الرئيسين جورج بوش الأب وباراك أوباما. وحتى مع اقتراب موعد الرفع الجزئي للعقوبات القديمة؛ وجد السودان نفسه مرشحاً للمزيد منها بعد وضع أميركا له في القائمة السوداء لتقاعسه في مكافحة عمليات الاتجار في البشر.
بل ويتهدده الآن أن يوضع ضمن لائحة استهداف الأطفال في اليمن كطرف في التحالف العربي مع السعودية والإمارات. أما عن إصابة الوطني السوداني بالسأم فلأن هذه العقوبات شكلت -بتواترها وغربة مصدرها ولغته- سودان العقود الأخيرة، بدون أن نعرف ما إن كانت أميركا قد تأكدت من أن تلك العقوبات ستنجح في تحقيق أغراضها منها.
وحق السؤال هنا: وأغراض من هي؟ هل هي للحكومة الأميركية، أم للكونغرس، أم للوبي حقوق الإنسان؟ فبينما اتفق لمنظمة الأزمات الدولية أن المقاطعة الاقتصادية لم تفِ بالغرض؛ نجد طائفة غزيرة في الكونغرس ومنظمة “كفاية” لا تزال تعتقد أن رفع العقوبات سابق لأوانه، حتى تحقق الحكومة السودانية أغراضاً لهم. فتورط السودان في هذه الخصومة الأميركية مدعاة للسآمة لأنك لن تعرف -حتى لو أردت- متى أحسنت.
تعود المقاطعة الأميركية للسودان إلى عهد الرئيس ريغان ثم تفاقمت في عهد دولة الإنقاذ (منذ 1989)؛ فحَرم ريغان السودان في 1984 و1988 من العون الاقتصادي الثنائي لأنه لم يمتثل للإصلاحات الاقتصادية التي وصّى بها البنك الدولي. ثم اطردت المقاطعة في عهد الإنقاذ.
بدأ الأمر بعقوبات عاجلة لمجرد انقلاب الإنقاذيين على نظام ديمقراطي، حسب قانون أميركي يجرم مثل هذا الفعل. ثم وضعت الخارجية الأميركية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1997 لإيوائه أسامة بن لادن. ووصف القرار التنفيذي تحت حكم بيل كلينتون يومها السودان بأنه “المهدد الاستثنائي لأمن أميركا وسياستها الخارجية” لفظاظته في حرب الجنوب.
وجرّت عليه نفس الحرب ويلات قانون السودان (2002) الصادر عن الكونغرس. ودفعت فداحة حرب الجنوب، وتفجر الوضع في دارفور الذي وصفت الإدارة الأميركية إخماده بواسطة الحكومة بالإبادة الجماعية؛ إلى إصدار قرارين تنفيذيين في 2006 بحق حكومة السودان وطائفة من موظفي الدولة السودانية، وقادة “متمردي” الجنوب.
ناهيك عن عقوبات الأمم المتحدة التي فُرضت على السودان والموحى بها من أميركا في 2006 و2009، واتهام الرئيس البشير بواسطة المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور. وقد شملت العقوبات الأميركية حجب قروض المؤسسات الدولية عن السودان، ومنعه كذلك من السوق الأميركي، وتجميد أصول الحكومة المالية في أميركا، ومنعها من حق التصرف فيها.
بدأ التلويح بجزرة رفع العقوبات للسودان بعد إعمال طويل للعصا عليه عام 2011، في سياق حفزه للتعاطي الإيجابي مع استفتاء جنوب السودان الذي قضت به اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان (2005).
وجرى الاستفتاء بسلام إلا من تطورين: أولهما توتر العلاقات بين السودان ودولة الجنوب الجديدة، وثانيهما اندلاع الحرب في ما عُرف بـ”المنطقتين”، وهما جبال النوبة في وسط غرب البلاد، والنيل الأزرق في شرقي وسط البلاد. والمنطقتان ذواتا ارتباط سياسي وثيق بالحركة السياسية في الجنوب.
خريطة المسارات
ونتيجةً لهذين التطورين السلبيين؛ امتنعت أميركا عن رفع المقاطعة حتى دعا داعي حرب الإرهاب الإدارة الأميركية في 2015 لتبتدر مفاوضات أخرى مع السودان لرفع العقوبات. وتواضعا في 2016 على خريطة طريق ترفع بها أميركا العقوبات عن السودان متى التزم بحرفية الخريطة.
وشملت الخريطة أجندة خمسة عرفت بـ”المسارات”؛ التزم السودان بأن يحسّن أداءه فيها لنيل مراده. والمسارات منها:
1- التعاون الوثيق مع أميركا في حرب الإرهاب.
2- ضمان السودان وصول المساعدات الإنسانية لبقاع سودانية.
3- تأمين الاستقرار والسلم في النطاق الإقليمي بالامتناع عن:
أ- دعم “المتمردين” على حكومة جنوب السودان.
ب- التوقف عن دعم جيش الرب الأوغندي.
4- وقف الحرب في مناطق النزاعات بدارفور و”المنطقتين”.
وبعد استعراضٍ لأداء السودان في هذه المسارات؛ قرر الرئيسُ أوباما -عند عتبة الخروج من البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 17- الرفعَ الجزئي المؤقت للعقوبات عن السودان الذي متى استكمل جوانب نقص مأخوذة عليه، حصل على رفع كامل لها في يوليو 2017. وجاء يوليو/تموز غير أن إدارة دونالد ترمب تذرعت بجدتها في دست الحكم؛ فأرجأت البت بشأن استدامة رفع العقوبات إلى ستة شهور أخرى.
هذه خلفيات للقرار الصادر في 5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري من وزارة الخارجية برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان لتَحَسُّن أدائه في المسارات الخمسة المذكورة.
وإذا أردنا أن نعطي درجة لنجاح السودان في امتحانه -حسب بيان وزارة الخارجية الأميركية- لقدرناه بـ”-c”، أي “سي ماينس” التي يسميها الأميركيون “الدرجة اللئيمة”، بمعنى أن تُنجّح من اضطرك إلى ذلك اضطرارا. وعليه فقد احتفظت أميركا لنفسها بعقوبات للضغط على السودان لمزيد من ترقية أدائه.
ومن ذلك احتفاظها بالأمر التنفيذي لعام 2006 الذي قضى بتجميد أموال كل من تورط من الحكومة والحركات المسلحة بالاسم في توتير الوضع بدارفور، أو أعان فيه بالمال والسلاح.
وسيبقى السودان كذلك على قائمة الدول الراعية للإرهاب مما سيقيّد استفادته من الاستثمار فيه. وقال أحدهم إن في بقاء السودان على قائمة الإرهاب -بعد بذله المشهود (والمتهافت في رواية أخرى) للتعاون الوثيق في هذه الجبهة مع أميركا منذ 2001- نوعا من الدجل.
ومن مظاهر الدرجة اللئيمة التي حصل عليها السودان أن من قررها من الرؤساء استعار منها؛ ولذلك سأل الصحفيُّ كمال عباس: لماذا فرضت أميركا العقوبات بقرار تنفيذي ثم رفعتها ببيان من وزارة الخارجية؟
فلا يبدو أن أياً من الرؤساء الذين اضطروا إلى رفع جزئي ومشروط للعقوبات عن السودان، يريد أن يُرى وهو يفعل ذلك. فالرئيس أوباما أعطى الإذن برفع العقوبات وهو على عتبة مبارحة البيت الأبيض، وهو توقيت رئاسي يعفو فيه الرئيس المغادر عن مساجين اصطفاهم حباً وكرامة. وبدا أن الخارجية -كما رأينا- هي التي أعفت الرئيس ترمب من المشقة.
عقبة اللوبيات
وسبب تواري الرئيسين المشاهد عن إعلان نتيجة إلغاء العقوبات على السودان، هو أن ثمة مصححاً خارجياً بالمرصاد لهم هو اللوبيات المختلفة المهتمة بالسودان. وكانت اختطفت علاقة السودان بأميركا فجردتها من كل مغزى سياسي وجعلتها قميص عثمان إنسانياً.
وترفض هذه اللوبيات -من عتوّها الإنساني هذا- حتى استحقاق السودان للجلوس لامتحان البراءة. ولمّا بدا لها أن ترمب ربما جنح جنوح أوباما؛ أمسكت به من يده التي توجعه وهي استظهاره بالمحافظين المتدينين.
فركزت على خرق السودان للحقوق الدينية للمسيحيين مستندة إلى قرار للكونغرس (1998) خوّل الرئيس الأميركي اتخاذ ما يراه من خطوات لتأمين الحرية الدينية في العالم. فنشر جون برندرغاست من منظمة “كفاية” مقالة في “يو أس آند ورلد ربورت” (2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) عليها صورة لكنيسة تجاويف صليبها المنزوع واضحة.
وذكّر وزارة الخارجية بأنها هي من قال إن “السودان ضالع في اضطهاد المسيحيين”، وإنه الدولة الخامسة في سلم اضطهادهم العالمي، حسب تقريرها السنوي عن الحرية الدينية. ولما ناشد أعضاءُ من الكونغرس الرئيسَ ترمب ألا يرفع المقاطعة عن السودان؛ طمأنهم بأن حرية التعبد للمسيحيين ستكون قيد اعتباره، علماً بأن تأمينها ليس ضمن المسارات الخمسة التي أتينا عليها.
ربما كان رفع العقوبات الاقتصادية الجزئي عن السودان -حتى بحصوله على الدرجة اللئيمة- هي النصر المؤكد الوحيد للبيروقراطية الأميركية على الرئيس ترمب.
إذ قلّ من ظن أنه سيقبل برأي طاقم الخارجية والأمن نظرا لمجيئه الرئاسة فوق موجة تدين محافظة كبيرة، ترعرع أهلها عقودا في الدفاع عن مسيحيي السودان ضد اضطهاد حكومته الإسلامية، صح أو لم يصح. ولما لم يعترض -في الواضح- قيل لتعليل ذلك إنه غير مشغول بأفريقيا، فتركها لمن هم دونه بكثير ليركز على إيران وكوريا الشمالية.
فلم يتفق له أن يجعل من السودان موضوعاً لصناعة الدول بنشر الديمقراطية كما يريد لوبي حقوق الإنسان، فليس صنع الدول من عقائده كما أكد مراراً. ولكن ترمب لا يرسو على برّ من عقائده؛ ففي يوم رفع العقوبات عن السودان كان يخطب في جمهرة من أصول إسبانية يعدهم بتحرير كوبا وفنزويلا من شرور الاشتراكية.
طالت العقوبات الأميركية واستطالت (وستطول جزئياً) حتى صارت من أهم حقائق الحكم والمعارضة في السودان؛ فالحكومة تتذرع بها لتغطية محنتها الاقتصادية، بينما سعت المعارضة لاستثمارها لإضعاف الحكومة حتى القضاء عليها.
ووجدت في تقرير أخير لمنظمة الأزمات العالمية كلمة مثلى تخرجنا من عوارنا السياسي المشاهد؛ فقد شدد التقرير على وجوب أن تأخذ أميركا التقدم الذي أحرزه السودان في المسارات الخمسة بعين الاعتبار.
فلو تغاضت عنه لتنصلت الخرطوم، واعتزلت أميركا، فيضعف التأثير عليه. وستستبدل طاقم الحكومة البراغماتي الحاضر طغمةٌ متطرفة تتبنى خطة مسلحة نهائية للقضاء على الحركات المسلحة التي دب الوهن إليها. وزكّت المنظمة رفع العقوبات كمخاطرة لا بد من الخوض فيها، مع إبقاء سيف العقوبات الأخرى مصلتاً على الحكومة.
المصدر : الجزيرة.نت