سلطان القرآن

الجمعة 10 محرم 1437//23 أكتوبر/تشرين الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
عبدالرحمن شاهين
في ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان الماضي، في جامع الناصر بمدينة الرياض، وقبيل صلاة التهجد؛ جلس بجانبي شاب هندي، فسلّم علي، وسألني بالانجليزية: أين وصل الإمام في القراءة؟ فأجبته أننا في بداية سورة الزخرف. ثم حصل حوار قصير سألته خلاله: هل تفهم من القرآن ما تسمعه خلال الصلاة؟
أجابني متنهداً: لا! لكني سأقرأ الترجمة من الجوال هذه الليلة، وقد كنت أصلي خلف الإمام، وأشعر بالحزن لأني لا أدري لمَ يبكي الإمام أحياناً، والمصلون أحيانا أخرى.
كبّر الإمام، وكبّر صاحبي، وكبر المصلون.. قرأ الإمام آيات خاشعة من سورة الزخرف، فإذا صاحبنا يجهش بالبكاء بشكل ملفت !!
التفتُّ إلى نفسي فقلت: سبحان الله! هذا قرأ الترجمة فقط؛ فانتابه هذا البكاء الذي يسبب القشعريرة، فكيف لو كان من أهل العربية مثلي؟!
هذا الموقف جعلني أبكي على نفسي؛ إذ لم أبك من خطاب ربي!!
إنه بلسان عربي مبين!! لكن القلب بحاجة إلى قلب.
إنه “تنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين”، قال سبحانه “على قلبك” لأن القلب موضع التأثر والصلاح في الإنسان، كما ثبت في الحديث النبوي: “.. ألا وإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ”.. وفي آية أخرى قال سبحانه: “لنثبِّت به فؤادك”، قال القرطبي في تفسيره: “نقوي به قلبك؛ فتعيه وتحمله”.
إنه الكتاب الذي وصفه الجبار جل في علاه بقوله: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله”
يقول كبير المفسرين ابن جرير الطبري: “يقول جلّ ثناؤه: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل)، وهو حجر، (لرأيته) يا محمد (خاشعًا) يقول: متذللاً متصدّعاً من خشية الله على قساوته، حذراً من أن لا يؤدّي حقّ الله المفترض عليه في تعظيم القرآن، وقد أنزل على ابن آدم وهو بحقه مستخفٌّ، وعنه عما فيه من العِبَر والذكر مُعْرض، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقراً”.
إننا في زحمة هذه الحياة المليئة بالملهيات؛ لنفقد من صفاء القلب ورقته قدرا كبيرا يكون كفيلا للحيلولة دون وعي خطاب رب السماوات، ليكون واقعا عمليا نحيا به حياة طيبة، وتحيا به قلوبنا. فعلى المسلم أن يتدارك قلبه فيسقيه بماء حياته ومادة صلاحه، الذي هو كلام الله، كما قال ربنا سبحانه: “يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين”.
إنك لتسمع شكوى متكررة من فئام عريضة من المسلمين؛ يشكون قلة تأثرهم بكتاب ربهم، وعدم قيام الخشوع في قلوبهم عند قراءة أو سماع كلام باريهم، وهذا في ذاته دليلٌ على حياة القلوب التي تستشعر النقص في وقودها، والجوع إلى قوتها، وهي بشرى خير، وإن كان ظاهرها العذاب، فأول مراحل علاج الداء؛ معرفته والاعتراف بوقوعه.
وحتى يقع القرآن موقعا مؤثرا في القلب؛ فعلى المؤمن أن يهيئ قلبه لتلقي كلام ربه، فيستشعر أثره، ويتلذذ بتلاوته، ويحيا به، فيرق القلب، وتسيل الدمعة، ويقشعر الجلد.
ويكون هذا بأمور، أذكر منها:
1- أن يخصص وقتاً شريفاً من سنام وقته، لا من فراغه، لا يتنازل عنه، طال أو قصر، يكون فيه خالي الذهن من أي مشغل أو مزعج، كفترة ما بعد صلاة الفجر، أو قبيل النوم، لتلاوة أو سماع ما تيسر من القرآن، بحسب ما يجد هو من اقبال نفسه.
2- أن يستشعر عظمة ربه وخالقه، ففضل كلام الله على سائر كلام البشر؛ كفضله تبارك وتعالى على خلقه.
3- أن يختار من الآيات ما يحرك قلبه، ويستفتح بالآيات التي فيها ذكر عظمة الله، كآية الكرسي، وعظمة كلامه، كخواتيم سورة الحشر، ولا يدعها تمر حتى يعرف معانيها من خلال بعض التفاسير الميسرة، ويكرر السماع أو التلاوة، فهي تجلو القلب بكثرة تكرارها.
4- يبدأ بالسور المكية، والمفصل تحديدا، فإنها الطريقة التي ربى الله فيها نبيه وأصحابه، إذ كان المفصل – وهو السور من (ق) حتى آخر المصحف – يبني تعظيم الله في قلب العبد، وهي أول السور التي خلبت لب أساطين أهل البيان من قريش، فقال قائلهم: “والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته”، وقال الآخر – جبير بن مطعم -: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية “أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون. أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون” كاد قلبي أن يطير.
5- الاستعانة بكتب التفسير المختصرة لمعرفة الألفاظ والمعنى الإجمالي للآية، وهي كثيرة سهلة التناول، مثل المختصر في التفسير، أو التفسير الميسر، ويثنّي بتأملات أهل العلم فيها، فهم كالغواص الذي ينتقي أثمن الجمان من قاع البحر.
وأخيراً؛ فعزة القرآن وسلطانه تسلتزمان من العبد أن يكون أهلاً لهما، حتى ينعكس أثرهما على نفسه وقلبه، وتكون هذه الأهلية بتطهير النفس من الذنوب، ومتابعة الاستغفار، والتوبة، ودعاء من بيده ملكوت كل شيء؛ أن يجعل القرآن ربيع قلب المؤمن، ونور صدره، كما كان حال ودعاء من أُنزل القرآن على قلبه صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده.
السبيل

اقرأ أيضا  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.