شرح حديث: أي الأعمال أفضل؟
الخميس 29جمادى الثانية 1437// 8 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
شرح حديث: أي الأعمال أفضل؟
• عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله))، قال: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قال: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرورٌ)).
وفي رواية: ((إيمانٌ بالله ورسوله)).
• وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله))، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفَسُها عند أهلها، وأعلاها ثمنًا))، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تُعين صانعًا، أو تصنع لأخرق))، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعُفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكُفُّ شرك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك)).
• وعن عبدالله بن مسعودٍ، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة لوقتها))، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، فما تركت أستزيده إلا إرعاءً عليه.
أولًا: ترجمة رواة الأحاديث:
أبو هريرة – رضي الله عنه – تقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان.
وأما أبو ذر – رضي الله عنه – فتقدمت ترجمته في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإيمان.
وأما ابن مسعود – رضي الله عنه – فتقدمت ترجمته في الحديث الحادي والثلاثين من كتاب الإيمان.
ثانيًا: تخريج الأحاديث:
حديث أبي هريرة أخرجه مسلم حديث (83)، وأخرجه البخاري في “كتاب الإيمان” “باب من قال: إن الإيمان هو العمل” حديث (26)، وأخرجه النسائي في “كتاب الإيمان” “باب ذكر أفضل الأعمال” حديث (5000).
وأما حديث أبي ذر فأخرجه مسلم حديث (84)، وأخرجه البخاري في “كتاب العتق” “باب أي الرقاب أفضل” حديث (2518)، وأخرجه النسائي في “كتاب الجهاد” “باب ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل” حديث (3129)، وأخرجه ابن ماجه في “كتاب العتق” “باب العتق” حديث (2523).
وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم حديث (85)، وأخرجه البخاري في “كتاب المواقيت” “باب فضل الصلاة لوقتها” حديث (504)، وأخرجه الترمذي في “كتاب الصلاة” “باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل” حديث (173)، وأخرجه النسائي في “كتاب المواقيت” “باب فضل الصلاة لمواقيتها” حديث (609).
ثالثًا: شرح ألفاظ الأحاديث:
(إيمانٌ بالله): إذا جاء في الأحاديث اللفظ مقصورًا على (الإيمان بالله) فإن المقصود (إيمان بالله ورسوله)، وهو المنجي من النار؛ ولذا جاء في الرواية الأخرى: (إيمان بالله ورسوله).
(حج مبرورٌ): قال ابن عبدالبر في إيضاح المبرور قال: “هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث، ولا فسوق، ويكون بمال حلال…”؛ [انظر: التمهيد (22 /39)]، وسيأتي مزيد بيان وتوضيح عن الحج المبرور في كتاب الحج بإذن الله تعالى.
(أي الرقاب): جمع رقبة، والمراد الرقيق، والمعنى: أي عتق الأرقَّاء أفضل؟
(أنفسها عند أهلها)؛ أي: أرفعها وأجودها، وقيل: أكثرها رغبة عند أهلها، بالإضافة إلى الأكثر ثمنًا، فإن جمع هاتين الصفتين هو الأكمل.
(فإن لم أفعل)؛ أي: فإن لم أستطع.
(تعين صانعًا): جاء عند البخاري (ضائعًا) بدل (صانعًا)، قال النووي: “والصحيح عند العلماء رواية الصاد المهملة”؛ وذلك لمقابلتها بالأخرق، وهو الذي لا صنعة له حتى يتقنها؛ ولذا يقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء، والمعنى لا صنعة له، أما الصانع فهو الحاذق المتقن لصنعته؛ [انظر: شرحه لمسلم حديث (84)].
(إن ضعفت عن بعض العمل)؛ أي: لم أستطع عمل الخير الذي أشرت إليه.
(إلا إرعاءً عليه)؛ أي: إلا الإشفاق عليه والرفق به.
رابعًا: من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
الأحاديث دليل على حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على الخير؛ حيث إن الأحاديث في سؤالهم عن أفضل الأعمال كثيرة.
الفائدة الثانية:
أحاديث الباب دليل على أن الأعمال مراتبُ في الفضل، بعضها أفضل من بعض، فلا شك أن الإيمان بالله ورسوله أعظمها، بل لا يصح شيء من الأعمال بدونها، وكذا الصلاة أفضل من الجهاد في سبيل الله؛ لأن تارك الصلاة كافر، كما تقدم؛ فهي عمود الدين، وهي لازمة للمكلف في كل أحيانه، وأما تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، فلأن الجهاد في سبيل الله متوقف على إذن الوالدين إذا كان فرض كفاية؛ فهو محمول على الجهاد الكفائي لا العيني، وأما إذا كان الجهاد فرض عين فلا شك أن المرتبة أعلى وأفضل.
قال القرطبي: “وقد يكون الجهاد في بعض الأوقات أفضل من سائر الأعمال، وذلك في وقت استيلاء العدو وغلبته على المسلمين، كحال هذا الزمان، فلا يخفى على من له أدنى بصيرة أن الجهاد اليوم أوكد الواجبات، وأفضل الأعمال؛ لِما أصاب المسلمين من قهر الأعداء، وكثرة الاستيلاء شرقًا وغربًا، جبر الله صدعنا، وجدَّد نصرنا”؛ [انظر: المفهم (1/276) حديث (65، 66، 67)].
وجميع الأحاديث المذكورة في حديث الباب إنما ذكرت لعظيم قدرها وبيان فضلها.
الفائدة الثالثة:
في أحاديث الباب وفي غيرها من الأحاديث اختلفت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال؛ ففي حديث أبي هريرة أفضلها: ((إيمان بالله ورسوله))، وفي حديث أبي ذر: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله))، وفي حديث ابن مسعود: ((الصلاة لوقتها))، وفي الصحيحين من حديث ابن عمرو: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرَفت ومن لم تعرف))، وعنه في الصحيحين أيضًا: أي المسلمين خير؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سلِم المسلمون من لسانه ويده))، وعند البخاري من حديث عثمان: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))، وغير هذا من الأحاديث في المفاضلة بين الأعمال كثير، فكيف الجمع بينها في جواب النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجمع بين هذه الأحاديث – كما قال أهل العلم – من وجهين:
الوجه الأول: أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم اختلف لاختلاف أحوال السائلين وأوقاتهم، بأن علم ما يحتاجه كل قوم، وبما لهم فيه رغبة واجتهاد وما هو لائق بهم؛ فاختلف الجواب لاختلاف حال السائلين.
والوجه الثاني: أن المراد بالأحاديث بأفضل الأعمال ليس على إطلاق اللفظ، وإنما هناك محذوف، والتقدير: (من أفضل الأعمال كذا)، والوجه الأول أقرب للصواب، والله أعلم.
الفائدة الرابعة:
حديث أبي ذر دليل على أفضلية عتق الرقبة، وأن أفضل العتق عتق رقبة نفيسة عند أهلها وثمنها كثير، فهذه هي الأعظم أجرًا في العتق، ولكن من كان عنده مال كثير يسع لأن يعتق به رقبتين فأيهما يفعل بهذا المال يعتق رقبة واحدة نفيسة أو رقبتين؟ على قولين:
• قيل: رقبة واحدة نفيسة؛ لحديث أبي ذر في الباب.
• وقيل: رقبتين؛ لأنها أكثر عددًا، والشارع متشوف لتخليص الشخص من ذل الرِّقِّ، والجماعة أفضل من الواحد، واختاره النووي، وهو الأظهر، والله أعلم؛ [انظر: شرح النووي لمسلم حديث (84)].
وأما حديث الباب فهو محمول على من عنده مال لكنه لا يسع إلا لرقبة واحدة، فإنه بماله لا يبحث عن الأقل ثمنًا، وإنما يبحث عن الأكثر، فهذا هو الأفضل له؛ لحديث الباب.
الفائدة الخامسة: حديث أبي ذر دليل على أفضلية إعانة الناس فيما يحتاجونه، سواء كان حاذقًا فيُعانُ، أو كان جاهلاً فيصنع له.
الفائدة السادسة: حديث أبي ذر دليل لمن قال: إن الترك يعتبر من الفعل الذي يؤجر عليه، خلافًا لمن قال من الأصوليين: إن الترك نفي لا يدخل ضمن التكليف، وحديث الباب دليل على دخوله؛ حيث يؤجر العبد الذي يكف الشر عن الناس؛ فقد اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم صدقة منه على نفسه، وذلك إذا احتسب كفَّ شرِّه عن الناس.
قال القرطبي: “غير أن الثواب لا يحصل على الكف إلا مع النيات والمقصود، وأما مع الغفلة والذهول فلا، والله أعلم”؛ [انظر: المفهم (1/278) حديث (66)].
الفائدة السابعة: الأحاديث دليل على حِلم النبي صلى الله عليه وسلم على المستفتي، حتى لو أكثر السؤال عليه، بل جاء في رواية مسلم الأخرى في حديث ابن مسعود أنه قال: “ولو استزدته لزادني”.
الفائدة الثامنة: حديث ابن مسعود دليل على أدب من آداب طالب العلم، وهو رفق السائل بالعالم، وشفقته عليه، بتجنب ما قد يضايقه، فلا يكثر عليه السؤال حتى لا يمل، قال ابن مسعود: “فما تركت أستزيده إلا إرعاءً عليه”؛ أي: شفقة عليه ورفقًا به؛ لهذا امتنعت من استزادتي السؤال عن أفضل الأعمال.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)
-الألوكة-