شهر رمضان.. بناء للشخصية المسلمة

الأربعاء30 شعبان1436//17 يونيو/حزيران 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بقلم أ.د. حسن أبوغدة/أستاذ الفقه الإسلامي بجامعة الملك سعود
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أيها الناس، قد أظلَّكم شهرٌ عظيم مبارك، شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، شهر جعل الله صيامَه فريضة، وقيام ليله تطوُّعاً، من تقرَّب فيـه بخَصلة من الخير كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه، وهو شهرُ الصبر، والصبرُ ثوابُه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد في رزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعِتقَ رقبتِه من النار، وكان له مثلُ أجره، من غير أن يَنقُص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله، ليس كلُّنا يجد ما يُفطِّر الصائم ؟قال: يُعطي الله هذا الثوابَ من فطَّر صائماً على تمرة، أو على شَربة ماء، أو مَذقَةِ لبن. وهو شهرٌ أولُه رحمة, وأوسطُه مغفرة، وآخرُه عِتق من النار…).
1ــ رمضان… موسم للسمو الصادق والعطاء المتجدد:
إذا أمعنا النظر في هذا الحديث الشريف، نستطيع أن نتبصَّر قيمةَ شهر رمضان، وأن نرى حِكَمه وأسراره التشريعية مجسَّدة أمام أعيننا، ونستطيع أن نُدرِك تماما مقاصد الإسلام في هذا الشهر العظيم.
ولنَعُد معاً إلى البداية: في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة، فرَض الله تعالى صيام شهر رمضان، ونزل قوله سبحانه في الآية / 183 من سورة البقرة: ( يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيامُ كما كُتِب على الذين من قبلكم لعلَّكم تتَّقون ).
والتقوى في لغة العرب: لفظٌ مشتقٌ من الوِقاية، وهي تعني: حفظَ الشيء وصيانتَه من الأذى، والحيلولة بينه وبين المكروه والضرر.
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي نتَّقيه بالصوم ؟ وما الذي نجنيه منه ؟ وما هي مواطن العظمة وصورها في هذا الشهر العظيم؟ وهل تقتصر مواطن العظمة على الأمور المذكورة في الحديث الآنف، أم أنَّ ما ذُكِر فيه نماذجُ وأمثلةٌ يُمكِن أن تتجَدَّد أشباهُها ونظائرُها، وأن تَتَّخِذ لها صوراً أخرى مشروعة في كل زمان ومكان لبناء الشخصية المسلمة ؟
2ــ الصوم دورة تربوية في الصبر وتحرير الإرادة:
من المقاصد التي توخَّاها الإسلام في تشريعه الصوم شهراً كاملاً، الارتقاءُ بتهذيب النفس وتربيتها على مزيد الخشية من الله تعالى في السر والعلن، إذ لا رقيب على الصائم سوى ربه، فإذا أحسَّ بالجوع أو العطش أو تراءت له الملذات والشهوات، صبر عليها وأحجم عن تناولها والانسياق وراءها، وتسامى عنها بدافع من إيمانه العميق وشعوره القوي بأن الله تعالى يراه، ويُؤكِّد هذا المعنى الحديثُ القدسي الذي رواه البخاري: ( يَتركُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به ).
وهكذا إذا حرَّر المسلم إرادتَه وتعوَّد الصبرَ والامتناعَ من الطعامِ والشراب ونحوه من المباحات مـن أجل الله تعالى، فهـو حَرِيٌّ أن يتحكَّم في إرادته ـ في كل زمان ومكان ـ ويبتعد عن المحرمات والتجاوزات المتصلة بحقوق الله تعالى أو بحقوق الناس، مما يصح أن يُطلَق عليه: الظلم الفردي والاجتماعي، فلا يكذب، ولا يشتم، ولا يغش، ولا يرتشي، ولا يعتدي، ولا يفسد بين الناس، ولا يقصِّر فيما أُوكل إليه من واجبات وظيفية ونحوها…
3ــ شهر رمضان بذل وتضحية وجهاد:
انتشرت في بعض المسلمين عادة الكسل والخمول في شهر رمضان، فصاروا يتقاعسون فيه عن أداء بعض واجباتهم الوظيفية والمعيشية والدراسية، وربما الدينية، بحجة أنهم صائمون، وكأن الله تعالى فرض علينا هذا الصوم لنتوانى فيه عن أداء الواجبات وفعل المكرمات، وبناء المجتمعات وإشادة الحضارات، وما علم هؤلاء البسطاء أن الأمة الإسلامية ـ عبر عصورها المديدة ـ سطَّرت أعزَّ وأكرم آيات المجد والنصر في هذا الشهر العظيم، فقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم معركة بدر في شهر رمضان، وفتح مكة المكرمة في هذا الشهر العظيم، كما أن معركة عين جالوت ضد التتار والمغول كانت في شهر رمضان، وكذلك كانت معركة حطين ضد الصليبين، وفي العصر الحديث خاض المسلمون حربا طاحنة ضد اليهود المغتصبين في شهر رمضان… وهكذا كان رمضان ولا زال شعار عز في حياة المسلمين، الذين أبلوا بلاء حسناً وهم يخوضون معارك الكرامة، حماية لمقدساتهم ودفاعاً عن حقوقهم.
4ــ الصوم التزام بالنظام العام وممارسة للسلم الاجتماعي:
يعتبر الصيام وسيلة فعَّالة في حمل النفس على الالتزام والانضباط، وتنمية المشاعر الجماعية لديها وتعويدها على ذلك، وتحفيزها إلى احترام النظام العام وعدم تجاوزه، ولو في ممارسة حقوقها الفطرية الشخصية، أو الخاصة جداً، ويتجلَّى هذا في تحديد الشرع للأوقات التي يُباح فيها الأكل والشرب والاتصال الجنسي بين الزوجين، وفي تحديد الأوقات التي يُمتَنَع فيها عن ذلك، إذ في هذا إشارةٌ إلى أنه ليس للإنسان أن يفعل ما يريد متى شاء، ولو كان هذا مباحاً أو حقاً من حقوقه الخاصة، بل عليه أن يُضحِّي أحياناً بحقوقه ورغباته الشخصية، لتتكامل وتتناسق مسيرتُه مع مسيرة المجتمع المسلم الذي ينتمي إليه، والذي يأمن فيه على نفسه وماله وأهله، ويتنعم فيه بخيراته وأرزاقه. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في الآية / 187 من سورة البقرة : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون …). وتأمل انتهاء الآية بقوله تعالى: ( حدود الله… لعلهم يتقون ). وحدود الله : يرادفها ما يُعبَّر عنه اليوم في الأنظمة المعاصرة : بحقِّ المجتمع، أو النظام العام.
كما يظهر هذا الانضباط أثناء الصوم، فيما دعا إليه الإسلام من ممارسة السِلم الاجتماعي وحُسن التعايش مع الآخرين، وذلك بالتزام آداب الصيام وكف اللسان ومنع الأعضاء والجوارح عما لا ينبغي من فُحش القول وسوء الفعل وانحراف الممارسة، بل ومجاراة الآخرين في الرد على جهالاتهم واعتداءاتهم، روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم ).
وللحديث صلة

اقرأ أيضا  حديث: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله...
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.