طريق السعادة في القرآن الكريم

طريق السعادة في القرآن الكريم(masrawy.com)
طريق السعادة في القرآن الكريم(masrawy.com)

الإثنين،25 شعبان 1435الموافق23 حزيران/يونيو2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
أحمد دعدوش
سؤال جوهري لابد أن يؤرق كل شاب وفتاة مقبلين على دروب النضج؛ فعليه تتوقف سعادة الإنسان، وبه ترسم الأهداف، وعليه تدور كل صور الحياة، إنه السؤال الذي ما زال يعبث بعقول الفلاسفة، ويلهب خيال الشعراء، ويدير دفة التاريخ، وقلَّما اهتدى الإنسان إلى جوابه، بل لطَّخ تاريخه الطويل بالمحن التي ما كانت لتنزل به لو أنه أحسن السعي في طلبه والاهتداء إليه. فما أكثر لجوئه إلى الأساطير التي فر إليها من مواجهة الحقيقة، وما أقبح خيانته للأمانة التي حملها على عاتقه طائعاً غير مكره {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:32]

إنه سؤال الوجود الكبير، سؤال: كيف، ولماذا، ومن أين، وإلى أين، السؤال الذي يكاد يلاحق الإنسان حيثما أدار وجهه وهو يشق طريقه في هذه الحياة، وهو السؤال ذاته الذي ما فتئ الإنسان يصطنع الأعذار للإفلات من قبضته، بعد أن زين له الشيطان طول الأمل، فغمس نفسه في الشهوات غير عابئ بما كان وما يكون، يقول ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): “ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع، صعُبت المجاهدة، إلا أنه من انتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه، فإن فتر في الظاهر بطّن له مكيدة وأقام له كمينا”[1].

هذا السؤال هو الذي يجب أن يقف كل منا عنده، وأن يبذل كل جهده في سبيل الخلوص إلى جواب محكم عليه، كي يتصالح مع نفسه وقلبه، ويعيش حياة متوازنة توصله بثقة وثبات إلى بر الأمان، أما المتغافل عن حقيقة وجوده، وحكمة خلقه فهو كالذي شبهه الدكتور البوطي برجل دخل مغارة مظلمة في مكان موحش، فوجد عند مدخلها بقايا لجثة إنسان، فما كان منه إلا أن وضع رأسه وأسلم جفنيه للنوم، غير آبه بما يحتمل أن يكون في جوف هذه المغارة من وحوش ضارية، وهو يمنّي نفسه بالفرار إذا استيقظ، مع أن الموت قد يفاجئه في أية لحظة.

ولخطورة الأمر ولإلحاح عجلة الزمن، أرى أن أخوض معكم أحبتي القراء غمار هذا السؤال العنيد، ولا أقصد بذلك أن نخرج في هذه العجالة بجواب قاطع يريح العقول ويهدئ النفوس، فكل منيتي أن نضع أقدامنا معاً على درب النجاة، وأن نواجه شيطان الهوى بالسعي الدؤوب بحثاً عن الحقيقة، عسى أن نصل بإذن الله – تعالى – إلى مفاتيح السعادة في الدنيا والآخرة.

كيف نبدأ؟
لا شك في أننا جميعاً نؤمن بوجودنا الحقيقي ضمن هذا الزمان والمكان؛ فلم يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض السفسطائيين الذين أمتعوا دارسي الفلسفة بخزعبلات شكوكهم التي لا تنتهي، فبداية بحثنا عن الحقيقة يجب أن تنطلق من تحديد مكاننا على طريق البحث، وهو واحد من احتمالات ثلاثة[2]:
1 – أن يكون أحدنا قد آمن بالله وكل ما جاء به رسوله بالفطرة والبداهة، ولم يخطر بباله شيء من الشك في أصول عقيدته، وهو مشغول بعمله والسعي في رزقه، فهذا الإنسان قد وصل إلى طريق النجاة بأقصر الطرق، ولن نكلفه شيئاً من البحث كي لا نفسد عليه إيمانه، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يطالب العرب بأكثر من الإيمان، ولم يكلف أحداً بمعرفة البراهين العقلية الموصلة إليه.

2 – أن يكون قد وصل إلى الإيمان بفطرته، ولكنه يتمتع بذكاء قد يحرك في عقله دائماً نوازعَ الشك والتساؤل حتى اهتزت طمأنينته، فعليه إذن ألا يتغافل عن هذه الشكوك، بل يبحث عن الحقيقة عند أهلها بالحجة والبرهان حتى تطمئن نفسه.

3 – ألا يكون الحظ قد حالفه في الوصول إلى الحقيقة بعد، فهو إما باحث عنها راغب فيها، وهو من نسعى للأخذ بيده وهدايته، وإما معاند مستكبر قد ختم الله على قلبه، فلا بد من ملاطفته بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ لأن الهداية نور من الله يرسلها إلى من يشاء من قلوب عباده، ولا سلطة لنا على ما وراء ذلك.

وبعد أن يحدد كل فرد منا مكانه على هذه الخارطة، ينبغي عليه الانتقال إلى المرحلة التالية، فإن كان من الفئة الأخيرة، فعليه أن يبدأ إذن بالبحث الجدي عن حقيقة وجوده، وعن حقائق الكون الكبرى، وعن علاقته بكل المكونات من حوله، فإذا وصل معنا إلى الطمأنينة بالإيمان الكامل بالله – تعالى – خالقاً ومدبراً لهذا الكون بكل ما فيه، وبأن هذا الكون قد خُلق لغاية عظمى قد تَخفَى على عقولنا، وأن غاية وجودنا تتلخص في السعي إلى مرضاة الله – تعالى – بإعمار أرضه، والقيام بحقوقه، وحقوق عباده، آن له إذن البحث معنا عن الوسيلة التي يصل بها إلى تحقيق هذه الغايات الكبرى، وهي التي تقوم عليها فلسفة السعادة التي ضل عنها معظم البشر، وجاء بها القرآن الكريم في أكمل صورة وأبلغ بيان.

طريق السعادة:
لكي يصل الإنسان إلى طريق السعادة، بعد أن أدرك حقائق الوجود الكبرى، عليه أن يتطلع إلى الكشف عن الطريقة السليمة للتعامل مع المحاور الرئيسة لهذا الوجود، وهي: الله – جل وعلا – الإنسان، والكون[3]. ونبدأ بالموجود الأول الذي تخضع له كل الموجودات؛ فبعد أن يتعرف الإنسان إلى الله – سبحانه – من خلال ما ورد عنه في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الخاتم – صلى الله عليه وسلم – أو من خلال الأدلة البرهانية التي أبدعها علماء الكلام بطريق المنطق والفلسفة، فإنه سيستنتج بالبداهة حقيقة الوجود الأولى، وهي أن السعادة في الدارين منوطة برضاه – تعالى – والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده.

اقرأ أيضا  الأوامر العملية في سور الروم ولقمان والسجدة والأحزاب

أما المحور الثاني وهو الإنسان، فلعله من أكثر الألغاز استغلاقاً على العقول منذ القدم، ولا يقتصر ذلك على مرحلة ما بعد سقراط الذي صرف الفلاسفة عن البحث في الكون إلى البحث في الإنسان، بل إن البحث في الكون نفسه لم يكن عند القدماء الذي لم يصل إليهم نور الوحي إلا إسقاطاً لطبيعة الإنسان على ما حوله من ظواهر الوجود، بدءاً من التصور الحيوي للطبيعة – وكأنها مخلوق عاقل – ووصولاً إلى أنْسَنَة الآلهة المتعددة. أما القرآن الكريم فقد وضع للإنسان منهجاً متكاملاً ليتبصر ذاتَه عبر إدراكه للحقيقتين التاليتين:
1 – أنه مخلوق تافه، أصله من تراب وماء مهين، ومصيره إلى جثة هامدة، وهو فيما بينهما يحمل النجاسة في جوفه، ويستقذر كل ما يخرج من بدنه. يقول الله – تعالى – {قُتِلَ الإِنْسِانُ مِا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ. مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 17- 21].

2 – أنه مع ذلك مكرم على سائر المخلوقات الأخرى[4]؛ فقد أمر الله الملائكة بالسجود لأبيه آدم، وسخّر له الأرض والدواب، وأكرمه بالعقل الذي صنع به المعجزات، قال – تعالى – {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70].

فجوهر الإنسان إذن لا يمكن فهمه إلا بتصور هاتين الحقيقتين معاً، وبهذا التصور يستقيم التوازن القائم على الإيمان بأن كل ما يحققه الإنسان من مجد، وعز، ومال، وعلم، وغير ذلك؛ فإنه ليس إلا من فيض الله – تعالى – عليه، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التي يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع، والعمل الصالح، وأنه على الرغم من ضعفه وتفاهته إلا أن الله – تعالى – قد أكرمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التي لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَّحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] وإذا أخل الإنسان في إيمانه بشرط التوازن بين الحقيقتين، فإما أن ينصرف ذهنه إلى حقيقته الأولى؛ فلا يرى من نفسه إلا جسداً قذراً شهوانياً لا هدف له ولا غاية، فيقبل على ملذاته كالبهائم حتى يقضي على نفسه بإذلالها كما هو حال الماديين (الماركسيين) الذين لم يروا في الإنسان أكثر من آلة. أو أن تطغى على فكره الحقيقة الثانية فتؤدي به إلى التكبر والتأله كما هو الحال عند الوجوديين[5].

وبعد أن يدرك الإنسان حقيقة وجوده، تتطلع نفسه إلى التأمل في كُنْهِ الحياة التي جُبل على التعلق بها؛ فهي الأساس الذي تقوم عليه كل ملذات الدنيا ومباهجها، وعليها يقوم الأمل في تحصيل ما ترغب فيه النفس وتميل إليه. وإذا عاد مرة أخرى إلى القرآن الكريم ليستشف منه تعريف الحياة فسيجد نفسه أمام منهج تربوي كامل يقوم على محورين:
الأول: أن الحياة ليست إلا جسراً تمر عليه الكائنات في طريقها نحو الآخرة، وأن هذه الدنيا في قصرها وسرعة زوالها لا تساوي شيئاً يذكر في جنب الخلود الذي سيعقبها، ثم إن الآخرة على امتدادها اللانهائي متوقفة على ما يكون عليه حال الإنسان في هذه الحياة الأولى.

فهو إذن في مرحلة امتحان دائم، وكل ما يراه من حوله من مباهج، وملذات، ومتع أو من مآسي، وجراح، وكوارث، فإن هذا كله ليس إلا أياماً قليلة سرعان ما تنقضي، وستوضع بكل ما تحتويه في كفة الميزان لتحدد مصيره الأبدي، قال – تعالى – {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. أما المحور الثاني فهو مكمل لهذا الأول، إذ يعمل على إعادة التوازن لهذه الرؤية، فلا تهون الحياة في نظر الإنسان، ولا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم، والعمل إلى التقشف وانتظار الموت. قال – تعالى – {هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكُ} [القصص: 77]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وقال المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم))، وأعلن أن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم.

وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة في نظر المسلم كنزاً ثميناً يتوجب عليه استثماره، فهي في جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسراً للسعادة الأبدية، ثم إنه في الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها لقدسيتها، وقيمتها العظيمة عند الله – تعالى – {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. أما المباهج وألوان المتع التي تصادفه فيها فليست إلا زخارف تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكرَه أيضاً لِـذاتها إذا ما أحسن استخدامها {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يوْمَ الْقِيَامَة} [الأعراف: 32]. وبهذا الفهم يخوض المسلم غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن في سعي دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلي بأن ما امتلكه منها في قبضة يده وليس في قلبه {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وهكذا فهم السلف الصالح الزهد أنه قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء[6].

اقرأ أيضا  مقدمة حول محور العقيدة في القرآن الكريم

وبهذا ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود، وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله – تعالى – {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه إلى التفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته، وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضاً من إدراك حقيقتين متكاملتين: الأولى هي حقيقة أن الله – تعالى – قد سخَّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ إن تفضيله عليها ليس مقتصراً على تمتعه ببعض الميزات فقط، بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته. قال تعالى {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة وَّبَاِطنَةً} [لقمان: 20]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونُ} [النحل: 12]، {هُوَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون، واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به؛ فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضاً ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة، أما الحقيقة الثانية فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا أن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته؛ فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضاً مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها، ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.

وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك تماماً لمكانته المتميزة بين جميع المخلوقات، حيث جعله الله – تعالى – مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى، وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب، ولكنه مع ذلك مدعوّ إلى البحث والفضول؛ فقد حث القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل – عليه السلام – عندما سأل ربه أن يريَه كيفية إحياء الموتى، لعلمه بأن التطلع إلى معرفه هذه الأسرار لا يتناقض والإيمان بها على الرغم من استغلاقها.

النتيجة:
بهذا الإيمان يتصالح المسلم مع خالقه ونفسه والكون الذي من حوله، فهو مدرك أولاً لحقيقة عبوديته لله – تعالى – وقائم بما يلزم عنها من واجبات، ومدرك ثانياً لقيمة نفسه كمخلوق أكرمه الله بتسخير الكائنات له، وأنه قد هبط إلى الأرض ليمتحن فيها قبل أن يعود إلى الجنة التي خُلقت له، فهو مكلف بإعمار هذه الأرض {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، ومكلف أيضاً بترويض نفسه للأخذ من الشهوات ضمن قيود الشرع وحدود الحاجة.

فإذا انتهينا إلى هذا الفهم المتكامل للخالق – سبحانه – وللنفس والكون، فقد حقّ لنا الآن أن نتساءل عن النتيجة العملية التي يمكن أن نجنيها من تطبيق هذا المفهوم، ولعل خير إجابة عن هذا السؤال تتخلص في استقراء الواقع الذي عايشه أشخاص سبق لهم أن طبّقوه، ولن نجد مثالاً أفضل من الصحابة – رضي الله عنهم -.

لقد نشأ الرعيل الأول من أمة الإسلام على تربية قرآنية فريدة؛ فهي لا تقتصر في عرض المفهوم الشامل للوجود -السالف بيانه- على الجانب الفكري فحسب، بل تخاطب كُلاً من العقل والوجدان في تناسق بديع معجز، وقد لخص أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – هذا المنهج في وصيته لخليفته عمر بقوله “ألم تر يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه”[7]، فكان الصحابة يقرؤون القرآن على حال من الرغبة والرهبة، وقلوبهم تتفطر شوقاً إلى لقاء الله وخوفاً منه في آن معاً[8].

اقرأ أيضا  الإعجاز السنني في القرآن الكريم

وكان القرآن الكريم يتنزل تبعاً لتدرجهم في هذه التربية، فبعد أن انتصروا في أول غزوة لهم في بدر ووجدوا بين أيديهم الكثير من الغنائم، وكانوا قد تركوا لقريش أموالهم وهاجروا إلى يثرب محتسبين أجرهم على الله، عندها تنازع الشيوخ الذين بقوا تحت الرايات مع الشباب المحاربين في اقتسام الغنائم، فما أن لجؤوا إلى رسول الله ليقسم بينهم حتى تنزل الوحي ينهرهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ. إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ. الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 1-4]، عندئذ ارتدعوا جميعاً -رضي الله عنهم- وتركوا الغنائم للرسول فرحين بنصر الله تائبين إليه، وما أن عادت الطمأنينة إلى قلوبهم الطاهرة، وطردوا عنها علائق الدنيا حتى تنزل الوحي بقسمة الغنائم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وابنِ السَّبِيلِ…} الآية [الأنفال: 41].

وما أن نضج المفهوم المتكامل للإيمان في قلوب تلك الأمة حتى خرجوا ليفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، غير آبهين بزخارف الدنيا التي انبسطت تحت أقدامهم، إلى أن دخل ربعي بن عامر بثوبه المرقع على قائد الفرس رستم وهو يمزق البُسط الفاخرة برأس رمحه، ويقف رافع الرأس وهو يتحسر على الرعية التي طأطأت الرؤوس للقائد قائلاً “أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة”، فيتهامس الجلوس من كبار القوم “والله لقد تحدث بكلام طالما تطلع إليه عبيدنا”.

أما اليوم، فلن نفاجأ كثيراً بنتائج الاستقصاء الذي أجرته مجلة النيوزويك الأمريكية عن أكثر شعوب العالم سعادة، حيث تربّع الشعب النيجيري الفقير ذو الأغلبية المسلمة على رأس القائمة التي تضم خمساً وستين دولة، وتلته شعوب كل من المكسيك، فنزويلا، سلفادور وبورتوريكو، في حين احتلّت الدول المتقدمة – أمام دهشة معدّي التقرير- مراكز متأخرة على سلم السعادة. ولكننا قد نقف طويلاً أمام اعتراف معظم الأمريكيين المستجوبين في التقرير بأن السعادة لا تتعلق بالغنى والمال[9]، وهو ما يبدو مستغرباً في مجتمع براغماتي قام في تأسيسه على أكثر صور الرأسمالية تطرفاً. الأمر الذي دفع المجلة ذاتها فيما بعد لتقصي ظاهرة عودة الدين إلى الانتشار في الولايات المتحدة[10]، لتدور التساؤلات من جديد عن السعي اللاهث للأمريكيين في البحث عن السعادة، عبر وصفات التأمل العابرة التي تؤخذ كجرعات لعلاج النفوس المتعبة.

أما التساؤل الذي لم يجرؤ أحدهم على طرحه فهو: ماذا عن العلاج المتكامل الذي يفي بحاجات كل من الروح والجسد والمجتمع عامة في تناسق تام، ويهدي الإنسان إلى طريق السعادة الحقيقية في هذه الحياة، ثم يضمن له السعادة الأبدية في ما بعدها؟

هذا هو السؤال الذي ما زال الإنسان مصرّاً على التفلسف فيه، بعيداً عن مصدره الأصيل. قال تعالى {يَا حَسْرةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [يس: 30].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن الجوزي، تلبيس إبليس، السطور الأخيرة من الكتاب.
[2] الإمام الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، دار غار حراء، دمشق، ص 9- 13، بتصرف.
[3] هذا التصنيف مأخوذ بتصرف عن كتاب منهج الحضارة الإسلامية في القرآن الكريم للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فيرجى الرجوع إليه للاستزادة.
[4] يرى جمهور العلماء أن الإنسان مكرم حتى على الملائكة، انظر شرح العقائد النسفية ص 501.
[5] قد يظن القارئ لفكر الوجودية للوهلة الأولى أنها كرّمت الإنسان بجعله محور الوجود، وبقصرها للحقيقة على الإنسان وحده، بل على الفرد بحد ذاته، ولكني أرى أن تطرف هذا الفكر عند سارتر وأتباعه قد أدى إلى النقيض، وذلك بانطلاق سارتر في فلسفته من منح الفرد حريته المطلقة، وهو ما أدى به إلى الاعتراف بأن الوجود الإنساني ليس إلا مأساة، وأن حياته مجرد عبث تتصارع فيه الظروف القاسية مع الحرية التي لا تعترف بالقيود وهذا يؤدي إلى الصراع النفسي الذي عايشه كل الفلاسفة الوجوديين الأحرار وفاضت به آدابهم من أمثال سيمون دوبوفوار وأندريه جيد وفرانسواز ساغان، ولعل كتاب (الغثيان) لسارتر يغني عن الشرح.
[6] هذه المقولة للتابعي الجليل سفيان الثوري.
[7] الجاحظ، البيان والتبيين، 2/45.
[8] لمزيد من التفصيل عن هذا الموضوع، انظر كتاب: منهج تربوي فريد في القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، ط1، ص 61 وما بعدها.
[9] نيوزويك، الطبعة العربية، 3/8/2004 ، ص 58.
[10] نيوزويك، الطبعة العربية، 6/9/2005.

المصدر:الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.