عجز الرأي العام الجديد بعيني “عمران”

أيمن نبيل

كاتب وباحث يمني

الثلاثاء 20 ذو القعدة 1437/  23 أغسطس/ آب 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية  “مينا”

انتشر فيديو الطفل السوري عمران دقنيش وهو مشدوه تماما بعد نجاته من قصف جوي على حلب، وقد جابت صورته المؤلمة -كما حدث مع الطفل إيلان من قبل- وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية مثيرة نقاشات أضحت تقليدية ومكرورة.

وما ينبغي الالتفات إليه في رأينا ليس مادة النقاشات الغربية حول مجازر الأطفال في سوريا فحسب، بل يتوجب كذلك التفكير باتجاه عكسي، أي رؤية العالم الجديد وإيديولوجيته الراهنة عبر التراجيديا السورية ومن خلال عيني أحد رموزها وهو هذا الطفل الناجي من القصف والموت المحقق.

ترجمة الأخلاقي إلى سياسي
ربما كان أول الدروس المستفادة من ردات الفعل الاجتماعية الأوروبية على إبادة الشعب السوري هو أن على السياسيين والمثقفين العرب مراجعة تصوراتهم حول مدى تأثير “الرأي العام” في المجتمعات الديمقراطية الرأسمالية.

فقد اتضح أنه بعد احتلال العراق تم في المجتمعات الديمقراطية الاستعاضة عن الحراك الشعبي الإيجابي بالتنفيس العام السلبي في سياق التفاعل مع قضايا الشعوب “الأخرى”.

عمليات التنفيس هذه تتولاها وسائل الإعلام شعبية الطابع، وهي تقوم بدور حيوي في تخفيف معاناة الوعي الجمعي من خلال حصر الموضوع في البكائيات على الطفل “عمران” على سبيل المثال كالقول بأن منظره “يقطع القلب” -وهو كذلك فعلا- كما قالت إحدى وسائل الإعلام الألمانية. ولكن السيطرة المطلقة لرأس المال على الإعلام في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية تجعلنا نرى أن هذه الحملات هي فقط مجرد تخفيف من ألم الضمير عند هذه المجتمعات، وليست عامل تحشيد لأن فكرة الحشود التي يبعثها الواجب الأخلاقي يبدو أنها قد تجمدت وتكلست، وغياب الحراك والضغط الاجتماعي هذا يحتاج إلى وقفة تحليلية.

ظاهرة شبه انعدام أي حشد اجتماعي حقيقي في أوروبا والولايات المتحدة بخصوص التراجيديا السورية يعود إلى أربعة عوامل:

الأول هو أن ثقافة التنظيم الشعبي على أسس سياسية أخلاقية في العالم كله تقريبا -رأينا هذا في الثورات العربية كذلك- ذوت وبهتت مع انكماش قوى اليسار واندثارها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ وهي التي كانت أدبياتها مرجعا على المستويين النظري والعملي في موضوع التشكيلات والتنظيمات الشعبية وحشد قطاعات اجتماعية على أسس أممية.

العامل الثاني والمتصل بالأول هو أن منظمات المجتمع المدني حلت محل الأحزاب السياسية في كثير من نقاشات الشؤون الإنسانية ما وراء الحدود الرسمية للدولة، وهذه المنظمات لا تريد الاضطلاع بتشكيل كتل اجتماعية بإمكانها الضغط بقوة على الحكومات، ولا تطيق القيام بهذا حتى لو أرادت، وهذا يرجع لعدة أسباب. منها أن بناءها التنظيمي محلي ومناطقي -أي أنه ينتمي للمقاطعة أو الولاية أو المحافظة- وليس دوما ممتدا على كامل الجغرافيا الوطنية، ولا تحتاج لهذا الامتداد أساسا، وهي أيضا تنقسم إلى اختصاصات كجزء من الثقافة العالمية في المجالات كافة والتي تنحو باتجاه التخصص الضيق، وبالتالي فجزء منها فقط من يهتم بحقوق الإنسان من ناحية، وتوجهها يخص الشأن الحقوقي الداخلي بالدرجة الأولى من جهة أخرى.

اقرأ أيضا  رايتس ووتش تنتقد استبعاد إسرائيل والتحالف العربي من قائمة العار

هذا بالإضافة إلى أن تمويل هذه المنظمات وبرامجها في الأغلب الأعم يأتي إما من الشركات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى أو من الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وهذا المصدر الأخير يجعل من المنظمات المحلية تلتزم عموما بـ”الإيديولوجية” التي تكرسها الأمم المتحدة عبر هيئاتها، وهي إيديولوجية، في إحدى زواياها، تحتفي بالفلكلوري والشكلي على حساب السياسي، وهذا هو السياق -المتكون من هذين العاملين- الذي نفهم من خلاله ظهور حملات مدنية كبيرة لإنقاذ حيوان الباندا أو إيقاف اصطياد الفيلة على سبيل المثال مع هروب نفسي وعملي من مقاربة شؤون إبادة البشر وحرقهم.

العامل الثالث، وكنتيجة للمقدمة المذكورة آنفا، تم احتكار النشاط الحقوقي من قبل الأمم المتحدة بفعل إمكانات التمويل المهولة وشبكات العلاقات السياسية المعقدة التي تتحرك من خلالها هيئاتها، واتضح أن العمل الحقوقي لم يتم تأميمه بل تمت “مكتبته”، أي تم احتواء الواجب الأخلاقي والنشاط الإنساني الحقوقي في بناء بيروقراطي دولي.

وهذا الأخير له ممولون كبار وأساسيون ويخضع لموازين القوى السياسية الكبرى في العموم، وهكذا أزاحت “الأمم المتحدة” المسؤولية الأخلاقية عن المجتمعات الديمقراطية، ومن ثم قامت بدورها باختزالها في عمل بيروقراطي مثل إصدار تقارير وصفية دقيقة لحالة “أطفال سوريا” على سبيل المثال أو الدعوة لإدخال المساعدات الغذائية أو التصريحات المعربة عن “القلق” والتي أضحت عند كثير من الناس في العالم الثالث عامة والعربي خاصة محورا للطرف والنكات المرة.

كل هذه العوامل قامت بشل المجتمع وسلبه القدرة على المبادرة في أي منعطف أخلاقي كالذي وضعتهم فيه صورة عمران المشدوه من الدم والقصف، ونفهم هذا إذا ما قارنا العجز الاجتماعي الكبير الراهن بحراك هذه المجتمعات سياسيا في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين حتى فيما يخص شؤونها الداخلية.

انتعاش الدولة القومية
العوامل الثلاثة السابقة في المحور الأول عوامل عامة تراكمت واستفحل أثرها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن عاملين آخرين ظهرا مع بداية القرن الحالي، وهما: هجمات 11 سبتمبر، والأزمة الاقتصادية في عام 2008.

قاد هذان العاملان إلى تغيرين كبيرين يتغذيان تبادليا في الوقت الراهن وهما صعود اليمين المتطرف، وانتعاش الدولة القومية وسطوتها.

بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت آراء كثيرة وسديدة تتحدث عن ذبول الدولة القومية وارتخاء قبضة سيطرتها على المجتمع خاصة بعد تطور رأس المال متعدد الجنسيات وثورة الاتصالات التي وسعت الهامش الحرياتي للأفراد بصورة غير قابلة للردع تقريبا.

اقرأ أيضا  اجتماع طارئ

ومع ظهور “عقيدة” العولمة أضحى هذا الرأي ثابتا في نقاشات الفكر السياسي والاجتماعي، ولكن يبدو أن الدولة القومية الأوروبية والأميركية قد عادت للانتعاش من جديد بعد العمليات الإرهابية والتفجيرات التي طالت المدنيين، وبإمكاننا رصد هذا الانتعاش في مستوى تدخل أجهزة الأمن والشرطة في حياة الناس وتحسن صورة الشرطي في نظر قطاع من المجتمع والذي لاحظه مبكرا المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، ويمكننا كذلك أن نراه في السلوكيات الأخيرة لعدة بلدات فرنسية تقوم أجهزة شرطتها بمراقبة الشواطئ للقبض على النسوة اللواتي يرتدين “البوركيني”:

إننا نتحدث هنا عن بيروقراطية دولة تراقب وتتدخل وتحدد ماذا يرتديه الناس!، وهذا في رأينا أكثر علامات شراسة الدولة القومية الأوروبية وضوحا، بعيدا الآن عن المحمول القيمي التفصيلي لهذا السلوك.

مجتمعيا نستطيع قياس ملامح توتر الشعور القومي -الذي ظن كثيرون أنه قد انتهى مع العولمة والتقدم التكنولوجي والليبرالية الجديدة- من خلال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتمكن دونالد ترامب من الترشح رسميا للانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. أما اليمين المتطرف وتوغله في المجتمع فيكفي لكي نقيسه مبدئيا أن ننظر لنتائج الانتخابات المختلفة (رئاسية ونيابية وبلدية) ونقارن بينها خلال السنوات العشر الأخيرة في النمسا وفرنسا وألمانيا وشرق أوروبا.

لا هامش واسعا لتأدية الواجب الأخلاقي تجاه “عمران” في مجتمعات تتعافى سيطرة الدولة القومية عليها وتتسع قواعد اليمين المتطرف الاجتماعية فيها كل يوم. لأن هذا المركب المزدوج (الانتعاش الجزئي لسيطرة الدولة القومية/ اتساع قواعد اليمين المتطرف) كارثي أخلاقيا فهو ينتج شبكة من الظواهر:

في ظل ترهل اليسار التحرري والهروب من السياسي إلى المدني- المنظماتي كما أشرنا في المحور الأول، يحتكر اليمين المتطرف الحشد والضغط الشعبيين لأسباب كثيرة تخص صلابة التنظيمات السياسية والحماسة الدينية التي تميز الشعور القومي المتطرف.

هذا المركب ينتج كذلك ظواهر البحث عن “غريم” يبرر عبره فشل السياسات المالية والتدهور الطبقي وأزمات الاقتصاد، والغريم هنا هو المهاجرون واللاجئون، وهكذا يتم زرع استعداد في قطاعات اجتماعية معينة لتقبل سلوكيات غير أخلاقية تجاه هذه الفئات.

من خلال هذه الرؤية نستطيع جزئيا فهم ظواهر كبيرة وتفصيلية، مثلا فهم كيف استطاع رسام كاريكاتير في جريدة شارلي إيبدو أن يسخر من طفل مات غرقا وأن يقوم بصياغة تنميطات غير أخلاقية لمجموعة كاملة من البشر دون أن يقلق من ردة فعل اجتماعية وسياسية غاضبة عليه، فالمناخ العام مهيأ جيدا لمثل هذه الممارسات.

والعالم في زواياه كلها تقريبا يشهد تشكل الإيديولوجية التي تقول بأن العدو الأول هو التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش، ولا مانع من التعاون مع إرهاب الدولة العربية في المعركة معه، وهكذا لا يصبح أمام الشعب السوري منفذ للخلاص: فلا هو مرغوب به كلاجئ هارب، ولا ملمح في الأفق لتوافق دولي ينهي مأساته في بلده. ولهذا تصبح لبكائيات وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية على إيلان وعمران وغيرهما من ضحايا القتل والتعذيب والتشريد على يد النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تلك الوظيفة التنفيسية الحيوية.

اقرأ أيضا  واجب الأمة نحو تعليم القرآن والمشتغلين بحفظه

دروس للمستقبل
إذا نظرنا لخريطة العالم اليوم، سنجد مراكز ثقله تتجه يمينا وبعنف:

في المجر، وفي النمسا التي كاد يميني متطرف أن يصل لمنصب الرئاسة فيها في مايو/أيار الفائت، الجبهة الوطنية في فرنسا، “البديل” في ألمانيا، تيريزا ماي في بريطانيا، ترامب في الولايات المتحدة، إيران وإسرائيل وهما بلدان لهما صفة يمينية بنيوية مدسترة، والمثل الأكبر والداعم والحليف لليمين في العالم روسيا البوتينية.

هذا المناخ المتوتر مضفورا بتحليلنا في المحورين الأول والثاني يجعل الثقافة الاجتماعية مستعدة لتقديم القومي على الأخلاقي، والمدني على السياسي، والدولتي على الجماهيري، والأمني/الاقتصادي على الحرياتي، وفي جو مصمت كهذا لا مكان لعمليات الإبادة المدعومة دوليا بصور مباشرة أو غير مباشرة في الوعي الجمعي في الدول الديمقراطية.

وعليه، فإن أول الدروس للقوى السياسية السورية والعربية هو أن الحل في سوريا ولئن كان قد انفلت من بين أيدي السوريين ليصبح بين يدي توافق روسي أميركي، إلا أن التعويل السطحي الواهم الذي حكم سلوك المعارضة مبكرا على القوى الغربية للتدخل عسكريا يجب أن ينتهي، ويتوجب على السوريين خاصة، والعرب عامة أن يعرفوا أن المعارك في أروقة الأمم المتحدة معارك سياسية في الأساس تحتاج الحشد والضغط وليس فقط التقارير الحقوقية والتي تلعب فقط دورا مساعدا، وأن “الرأي العام” العالمي لا يعول عليه بمجرد عرض صور المجازر والضحايا، فهو اليوم عاجز عن الحشد إلا القائم على أساس قومي أو مدني شكلي.

وبالتالي فالدخول لمعركة كسب رأي عام في دول رأسمالية هذه ظروفها يحتاج إلى جهود ضخمة وكبيرة إعلاميا وتنظيميا لتقارع كل هذا الشراسة اليمينية، أما التعويل فقط على أثر البكائيات على “عمران” وغيره من الضحايا في دفع وتحويل الحس الأخلاقي عند المجتمعات إلى حراك سياسي شعبي فلا محل له من التفكير الواقعي والعقلاني.

المصدر : الجزيرة.نت

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.