غثائية الأمة في أظهر تجلياتها

الجمعة 5 ذو الحجة 1436//18 سبتنبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
بسام ناصر
تكاثرت المصائب على الأمة الإسلامية، وازدادت الفتن والمحن في أقطارها، واشتعلت المعارك الداخلية بين أبنائها، وغابت عنها الصفة الجامعة، فلم تعد الأمة أمة واحدة، ولم يعد الدين الجامع جامعا لها وموحدا لصفوفها، بل انقلب في أعرافهم وسلوكياتهم إلى سبب مفرق، فأبناء الأمة يتقاتلون بذرائع وحجج دينية، وتحركهم مذاهبهم وتؤزهم أزا لقتال إخوانهم في الدين والعقيدة.
بات وصف الغثائية هو الوصف الأكثر دقة في انطباقه على حال الأمة هذه الأيام، وإن كان قد انطبق عليها من قبل، لكن انطباقه عليها اليوم اكتمل في أظهر تجلياته، فالأمة بأعدادها المليارية تقف عاجزة عن نصرة المسجد الأقصى، والذب عن حرماته وحياضه المقدسة، فقطعان الصهاينة يدنسونه ليل نهار، ويقتحمون ساحاته وباحاته، على مرأى ومسمع أمة المليار، ويعتدون على حرائره العفيفات الطاهرات، فتسمعهم يجعجعون من غير أن ترى طحنا، ويتسابقون في هجو بعضهم بعضا، فأوسعوا الجناة البغاة شتما ولعنا وأودوا بالأقصى وفلسطين كلها.
يدرك عقلاء العالم جميعا أن قوة أي أمة، تكمن في وحدة أبنائها، واجتماعهم على أفكار وهموم ورؤى مشتركة، بعد اعتصامهم بهويتهم المميزة لهم عن غيرهم، وتمسكهم بها والتفاهم حولها، وأمة الإسلام لديها من مقومات الوحدة والاجتماع، ما لا يوجد عند كثير من الأمم الأخرى، فالهوية الإسلامية هوية جامعة وموحدة، والدين عامل وحدة واجتماع، “وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ” (المؤمنون: 52).
كثيرة هي الأوامر الإلهية التي تأمر المسلمين بالاعتصام بحبل الله جميعا، وتنهاهم عن التفرق كما في قوله تعالى “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (آل عمران: 103). يمتن الله تعالى على هذه الأمة في ظهورها الأول حينما ألف بين قلوب أبنائها بعد أن كانوا أعداء تقوم بينهم المعارك على أتفه الأسباب وأخسها، فتجلت نعمته عليهم بالتأليف بين قلوبهم بسبب الإيمان الذي خالطت بشاشته قلوبهم، ونقلتهم من عالمهم الجاهلي إلى عالم القيم والمثل الأخلاقية السامية الموجهة لكل خير.
هذا السر في قوة الأمة واجتماعها، أدركه أعداء الأمة تمام الإدراك، فقامت مخططاتهم على إضعاف الإيمان في نفوس المسلمين، وإشاعة الفاحشة والرذائل الأخلاقية بكل صورها بين أبنائهم، وفي الوقت نفسه العمل على إثارة الفتن الداخلية بينهم، وتأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية في مجتمعاتهم، وها هي نتائج مخططاتهم تظهر للعيان.
ماذا يريد أعداء الأمة أكثر من هذا الذي يحدث الآن في دول العالم العربي؟ صراعات داخلية مدمرة، ومواجهات عسكرية دامية، أهلكت البلاد، وقتلت العباد وشردتهم داخل أوطانهم وخارجها، دول عربية تفقد كل مقومات الدولة الحديثة، وتعود بها القهقرى إلى عقود خلت، بتدمير مقدراتها وممتلكاتها، وتخريب منجزاتها، مدن حضارية جميلة تحولت إلى أكوام من البنايات والعمارات المدمرة، اقتصاديات منهارة، خراب يعم البلاد، هروب اضطراري، ولجوء هنا وهناك، وعذاب وموت في رحلة البحث عن ملاذ آمن.
تنفس أحرار الأمة الصعداء، مع هبوب رياح الربيع العربي على أوطانهم، وتخلص بعضها من الديكتوريات التي استوطنت في بلادهم لعقود خلت، وباتوا يحدثون أنفسهم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كان الشعب السوري يهتف بذلك ويحلم به وتداعب أبناءه خيالات جامحة في التخلص من الظلم والقهر والاستبداد، لكن الأحلام كلها تطايرت على وقع الصواريخ والبراميل المتفجرة، التي اغتالت حق الإنسان السوري الحر في الحياة، وحرمته من الأمن والأمان والاستقرار في وطنه، فيمم وجه شطر المنافي ودول الجوار لاجئا يبحث عن مكان يأوي إليه بأمان بعيدا عن رائحة الموت التي تلاحق الإنسان هناك في كل مكان.
اشتعلت النار وتأججت المعارك في سوريا واليمن، وقبلها في العراق، وعنوانها الأبرز صراع هوياتي طائفي سني شيعي، أدخل معه المنطقة برمتها في أتون تلك الصراعات، فباتت أموال الأمة ومقدراتها موظفة في تلك المواجهات والصراعات، وليس بمقدور أحد التراجع بعد انهماكه وتورطه في مستنقع المواجهات، إيران تتزعم المعسكر الشيعي، فتحرض وتحشد وتمول وتسلح وتخطط، والسعودية (ومعها دول الخليج والتحالف) تتزعم المعسكر السني، فتدعم وتمول وتسلح وتوظف كل إمكاناتها وقدراتها، النزيف مستمر، والحريق ما زال مشتعلا، ويبدو أنه لن يتوقف حتى يستنزف مقدرات الدول العربية جميعها، ويجردها من كل أسباب قوتها ومقوماتها.
في ظل الانفجار تجردت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، من كل الأخلاق والقيم، وتحولت إلى دول بوليسية مدججة بالقمع والتعذيب والقتل والاعتقال، فلم تعد للإنسان قيمة تُذكر، وبات الاعتداء على حياته أمرا اعتياديا، وغدا التهجم على حريات الناس وانتهاك حرماتهم، والاعتداء على أعراضهم في أقسام الشرطة وأقبية السجون، من وقائع الحياة اليومية في بعض الدول العربية، ما جرأ عدو الأمة الأول “دولة الصهاينة” على ممارسة ما كان يتحاشى فعله علانية وأمام الكاميرات، ولسان حالهم يقول ما دامت الأنظمة العربية تفعل بمواطنيها كل هذا، فلماذا لا نفعل كما يفعلون، ولماذا لا نقتحم المسجد الأقصى ونفعل به ما نريد، وبعض الأنظمة العربية لم تتورع عن حرق المساجد وتدميرها؟
لحظة تاريخية فارقة، تجسدت فيها غثائية الأمة الإسلامية في أظهر تجلياتها، فالسلاح الذي تنفق عليه دولها مئات المليارات، هو مخصص لصراعاتها الداخلية، ومعد لتأجيج المعارك بين طوائفها المختلفة، ولا يسمح لها بتوجيهه صوب الصهاينة، لعلها بذلك تهيئ المناخات لتحقق تلك الرؤية التي قالها يوما الشيخ محمد الغزالي “إن زوال إسرائيل وتحرر فلسطين، قد يسبقه زوال أنظمة عاشت تضحك على شعوبها، ودمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم والوهن، قبل أن يستذلها العم أو الخال، وقبل أن ينال من شرفها غريب..”.
-السبيل

اقرأ أيضا  السفير الفلسطيني : سياسة إندونيسيا بشأن فلسطين لن تتغير في ظل الرئيس القادم
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.