غزة… معادلة الهدنة وأمن المقاومة
مهنا الحبيل – كاتب وباحث إسلامي ومحلل سياسي
الخميس 19 ذو القعدة 1436//4 سبتمبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”
لأول مرة يطرح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل أساسيات مسارات التفاوض الصعبة غير المباشرة مع الإسرائيليين، لاتفاق هدنة يستمر عشر سنوات، وعادة لا يكشف أبو الوليد مثل هذه الخلاصات إلا بعد تحقيق تقدم في هذه المفاوضات.
وإجمالا، فإن تحقيق اختراق نوعي لمصلحة غزة، في ظل هذه الظروف، يعد إنجازا سياسيا نوعيا لحركة حماس والمقاومة.
كما أن حراك المكتب السياسي الأخير، وخاصة كسر الجمود مع الرياض وجولات مشعل العربية، أتى في وقت دقيق تحت آفاق سياسية مهمة لوضع غزة ومستقبل المقاومة، وتحويلها إلى قواعد دبلوماسية لصالح غزة في هذه الهدنة، التي تمر بمضيق مفاوضات صعبة جدا، ولا يُضمن إتمامها حتى اليوم، وإن كان تصعيد فريق رام الله والرئيس عباس قد تزايد مؤخرا خشية هذا الاتفاق، وهو موقف عجيب حيث يُرعبه أي نصر أو إنجاز سياسي لغزة التي خذلها كثيرا، بل وشارك في خنقها.
الاتفاق يقوم على قاعدتين أصليتين: هدنة كاملة بين المقاومة في غزة والكيان الصهيوني، مقابل ممر مائي دولي مستقل لغزة تُشغله تركيا، ومطار، وفتح باب الإعمار بضمانات دولية تصادق على التزام تل أبيب بالاتفاق، وحصل مشعل على دعم عربي ضمني لهذا الاتفاق، مقابل عداء جناح عربي شرس آخر ضده، يرفض أي متنفس لغزة.
ولترتيب الأفكار الرئيسية في هذه القضية الحيوية الحساسة لمستقبل غزة، بل وفلسطين والمقاومة، نطرحها في هذه النقاط:
1- أنجزت غزة ومقاومة الضفة بقيادة حركة حماس مشروعا تاريخيا، أعادت به توجيه بوصلة المقاومةكفاعل مؤثر في معادلة الصراع، وأسست بناء ديموغرافيا له بعقيدة صلبة، كان من أهداف مشروع الشرق الأوسط الكبير في 1993 تصفيتها كليا، بينما هي تتعزز اليوم جغرافيا وديموغرافيا.
2- هذا الإنجاز والمشروع يمر حاليا بواقع هو الأصعب بعد اغتيال الربيع العربي، والإعلان الرسمي المتكرر لنظام الرئيس السيسي أن غزة وحماس كيان معاد، وما أعقبه من سلسلة لا تتوقف من التضييق والخنق لحالتها المدنية.
3- تعتمد تل أبيب على هذا الدعم الضخم لخنق غزة والمقاومة، بينما تمارس هي دورها عبر سلطة رام الله، أو ما تقوم به هي ذاتيا كفاعل مباشر وراع أصلي للحصار، ومعتد مركزي محتل على الشعب الفلسطيني، وتُدير كل عناصر دولية وإقليمية ممكنة تحقق لها هذا الخنق.
4- لكن إسرائيل في ذات الوقت، تخشى من إمكانيات هذه المساحة المسحوقة المعزولة التي تُحقق كل مرة تطورات جديدة في معادلة توازن الرعب، وتُثبت كتائب القسام إنجازات نوعية تربك إستراتيجية الحرب الصهيونية رغم إمكانياتها المحدودة جدا، واستهدافها من معبر رفح، وإعادة تصنيع طائرة التجسس الصغيرة لصالح القسام دليل قوي على قدرات الإبداع للمقاومة الفلسطينية.
5- للمرة الثانية يُدفع بداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) إلى غزة لتحقيق احتراق داخلي يستنزف المقاومة، وقد نجحت الكتائب في ضرب الخلية التي رعتها شبكة مخابرات عربية معادية لغزة، وحيدت المقاومة داعش فلسطين الموجه ضد القسام.
6- ورغم صلف خطاب نتنياهو واستعلاء الحديث الإسرائيلي، فإن واقع الحرب النفسية التي يعيشها الكيان، وقطار عودة الهجرة المعاكس، وضعف قدرات تثبيت المستوطنين من اليهود الأوروبيين، حيث تستمر عودتهم أو البقاء فترة في دولهم الأصلية قائم، وذلك بعد نجاح معادلة توازن الرعب في تسجيل حضور يخيف ويربك النفسية الصهيونية رغم إرهابها ووقاحة خطابها.
7- ولذلك يخشى نتنياهو أو أي حكومة مقبلة -سواء من اليمين أو اليسار الصهيوني- من تأثير هذه المعادلة على الأمن الاجتماعي المزروع بعنفهم ضد أهل فلسطين، لكنه أمن يهتز مع مفاجآت القسام، ولذلك تسعى تل أبيب لهذه الهدنة، تحت ضغط معادلة المقاومة الوحيدة.
8- هنا في مثل هذه السياقات الدقيقة، والظروف الصعبة، والحصار غير المسبوق عالميا، فإن سياسة الحرب وبقاء الموقف الإستراتيجي ورعاية المنجز الذي حققته غزة وحماس، لا بد أن يستثمر هذه المساحات الضيقة التي تُتاح في توقيت دقيق.
9- كما أن وضع غزة الإنساني وقرار مقاومتها وإسناد الشعب للقسام، لا يعني تركه تحت حصار قهري وأوضاع بائسة، بل فتح كل طاقة لحياة كريمة له، ولشهدائه وجرحاه وذويه
10- معركة الصراع طويلة وإستراتيجياتها المرحلية ستتعدد لطبيعة الحرب الأممية المساندة لوجود الكيان وإيمان المركز الغربي ببقائها إلى أطول مهلة مزروعة في أرض العرب وتنتزع مقدساتهم، واستثمار استنزافها لهم.
11- وعليه، فإن إستراتيجية حماس المرحلية هي ضمن إدارة المعركة وخدمة شعب المقاومة وهي في الاتجاه الصحيح، وإن لم تُضمن النتائج، فهذه مسارات وظروف صعبة وضاغطة، لا تتحمل الحركة تطوراتها المفاجئة، وهي معزولة إلا من رعاية الله ثم سلاح القسام وعمقه الإيماني.
12- أما الهدنة التي تفاوض حماس عليها، فليس في الشريعة تحديد ملزم لها ما دامت ضمن مهل مؤقتة، ولم تعط تسليما للأرض، أو تثبيتا نهائيا للعدو عليها، وهي خاضعة للاجتهاد والتقدير.
13- التجارب والمؤشرات تؤكد أن إسرائيل لن تنتظر اكتمال فترة الهدنة، كما أن المقاومة أثبتت بقوة أنها تستثمر كل ساعة لقوتها وتطوير قدراتها، وعليه فإن الجاهزية موجودة في عقلية القيادة العامة للمقاومة وإستراتيجية الحرب القسامية.
ولذلك، فإن نجاح توقيع هذه الهدنة أمام الحرب الشرسة على غزة وعلى الأقصى ومقاومة الضفة، والموقف المصري الرسمي المتزايد في عدائه، والذي يحول إشكالياته السياسية العميقة مع ثورة 25 يناير، ومع جماعات العنف من داعش وغيرها إلى غزة للتنفيس عنه محليا، والظرف الإنساني القائم؛ يقتضي مواصلة التفاوض في هذا الاتجاه لتحييد معبر رفح الخانق، ولو مؤقتا.
كما أن تركيا العدالة التي تُمثل الطرف الداعم لغزة، والتي حصلت على دعم ضمني من الرياض لتحقيق الهدنة، هي طرف مهم لا يتكرر كشريك في “ترويكة” شرسة مع واشنطن ولندن وبرلين والإسرائيليين، وهي قادرة على دعم الاتفاق لتحقيق أكبر مصلحة ممكنة لغزة، التي لو تُركت لرغبات الآخرين لقضوا على كل نسمة بشر وزهر فيها، لكن لله حكمته، فينبت شوك المقاومة من ورد أطفالها المحاصرين، رغم صلافة العدو ورياح الخريف العربي العسكري.
المصدر : الجزيرة.نت