فضل الصبر
الأحد 8 شعبان 1437/ 15ماي/آيار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”.
الشيخ صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليمٌ،والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن الصَّبر له منزلة رفيعة عند الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
معنى الصَّبر:
حبس النفس عن الجزع والتسخُّط، وحبس اللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الثياب ونحوهما؛ (عدة الصابرين لابن القيم صـ 15).
الصَّبر وصية رب العالمين:
(1) قال سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 – 157].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده؛ أي يختبرهم ويمتحنهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، فتارةً بالسراء، وتارةً بالضراء مِن خوفٍ وجوعٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾ [النحل: 112]؛ فإن الجائع والخائف كل منهما يظهَر ذلك عليه؛ ولهذا قال: ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ﴾ [النحل: 112]،وقال ها هنا: ﴿ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ﴾ [البقرة: 155]؛ أي: بقليلٍ من ذلك، ﴿ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ﴾ [البقرة: 155]؛ أي: ذَهاب بعضها، ﴿ وَالْأَنْفُسِ ﴾ [البقرة: 155]؛ كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ [البقرة: 155]؛ أي: لا تغلُّ الحدائق والمزارع كعادتها؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]،ثم بيَّن تعالى مَن الصابرون الذين شكرهم، فقال: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]؛ أي: تسلَّوْا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنهم مِلكٌ لله، يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يَضيع لديه مثقال ذرةٍ يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة؛ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك، فقال: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157]؛ أي: ثناءٌ من الله عليهم،قال سعيد بن جبيرٍ: أي: أمَنةٌ من العذاب، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: نِعم العدلان، ونعمت العلاوة، ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157] فهذان العدْلان، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157] فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادةٌ في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم، وزِيدوا أيضًا؛ (تفسير ابن كثير – جـ 1 – صـ 338).
(2) وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142 – 144].
(3) وقال جل شأنه: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].
الصَّبر من صفات الأنبياء:
(1) قال الله تعالى مخاطبًا نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال جل شأنه: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10].
(2) وقال سبحانه عن بعض الأنبياء: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 85، 86].
(3) وقال سبحانه عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 100 – 102].
(4) وقال جل شأنه عن أيوب صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 41 – 44].
(5) وقال سبحانه عن يوسف صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 23، 24].
قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله):
كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها: أكملَ من صبره على إلقاء إخوته له في الجُبِّ وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصَّبر، وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شابًّا، وداعية الشباب إليها قوية، وعزبًا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبًا، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا، والمملوك أيضًا ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارًا وإيثارًا لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؛ (مدارج السالكين لابن القيم جـ 2 صـ 163).
نبينا صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصَّبر:
(1) روى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلمَ من نصَبٍ (تعب) ولا وصَبٍ (وجع) ولا هم ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه))؛ (البخاري حديث 5641/ مسلم حديث 2573).
(2) روى الشيخان عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: قال لي ابن عباسٍ: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى،قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشَّف، فادع الله لي،قال: ((إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك؟))، فقالت: أصبر،فقالت: إني أتكشَّف، فادع الله لي ألا أتكشَّف، فدعا لها؛ (البخاري حديث 5652/ مسلم حديث 2576).
(3) روى الشيخان عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ فقال: ((اتقي الله واصبري))،قالت: إليكَ عني؛ فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي،ولم تعرفه،فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم،فأتَتْ باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوَّابين، فقالت: لم أعرفك،فقال: ((إنما الصَّبر عند الصدمة الأولى))؛ (البخاري حديث 1283/ مسلم حديث 926).
(4) روى مسلمٌ عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مصيبةٍ يصاب بها المسلم إلا كُفِّر بها عنه، حتى الشوكة يشاكها))؛ (مسلم حديث 2572).
(5) روى مسلمٌ عن صهيبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له))؛ (مسلم حديث 2999).
(6) روى البخاري عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه، فصبر، عوَّضْتُه منهما الجنة))؛ (يريد عينيه) (البخاري حديث 5653).
(7) روى مسلمٌ عن ابن عباسٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كره من أميره شيئًا، فليصبر عليه؛ فإنه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه، إلا مات ميتةً جاهليةً))؛ (مسلم حديث 1849).
(8) روى أحمد عن شداد بن أوسٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل يقول: إني إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا، فحمِدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيومَ ولدَتْه أمُّه من الخطايا، ويقول الرب عز وجل: أنا قيدت عبدي وابتليتُه، وأَجْروا له كما كنتم تُجْرون له وهو صحيحٌ))؛ (حديث حسن) (صحيح الجامع للألباني حديث 4300).
(9) روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئةٌ))؛ (حديث حسن صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1957).
(10) روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولَدُ العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمِدَك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمُّوه: بيت الحمد))؛ (حديث حسن صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 195).
منزلة الصَّبر:
قال الإمام ابن تيمية (رحمه الله):
ذكر الله الصَّبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾[البقرة: 45]، وقوله: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ﴾ [هود: 114] إلى قوله: ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 115]، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾[طه: 130]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [غافر: 55] الآية، وجعل “الإمامةَ في الدِّين” موروثةً عن الصَّبر واليقين بقوله: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]؛ فإن الدين كله علمٌ بالحق، وعملٌ به، والعمل به لا بد فيه من الصَّبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى الصَّبر؛ كما قال معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: عليكم بالعلم؛ فإن طلبه لله عبادةٌ، ومعرفته خشيةٌ، والبحث عنه جهادٌ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقةٌ، ومذاكرته تسبيحٌ،به يُعرَف الله ويُعبَد، وبه يمجَّد اللهُ ويوحَّد، يرفع الله بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادةً وأئمةً يهتدون بهم وينتهون إلى رأيهم،فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصَّبر؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾[ص: 45]؛ فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغَيُّ؛ فالضلال العمل بغير علمٍ، والغَي اتباع الهوى؛قال تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 1، 2]، فلا يُنال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصَّبر؛ ولهذا قال عليٌّ: ألا إن الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا انقطع الرأس بار الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لِمَن لا صبر له؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية – جـ 10 – صـ 40: 39).
مراتب الصَّبر:
قال الإمام ابن القيم (رحمه الله): مراتب الصَّبر خمسةٌ: صابرٌ ومصطبرٌ ومتصبرٌ وصبورٌ وصبَّارٌ.
فالصابر: أعمها، والمصطبر المكتسب للصبر المبتلى به،والمتصبر: متكلف الصَّبر حامل نفسه عليه،والصبور: العظيم الصَّبر الذي صبره أشد من صبر غيره،والصبار: الشديد الصَّبر،فهذا والذي قبله في الوصف والكيف؛ (مدارج السالكين لابن القيم جـ 2 صـ 165).
أقوال السلف عن الصَّبر:
(1) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل عيش أدركناه بالصَّبر، ولو أن الصَّبر كان من الرجال كان كريمًا؛ (عدة الصابرين لابن القيم صـ 95).
(2) قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا إن الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطع الرأس بار الجسم،ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له،وقال: الصَّبر مطية لا تكبو؛ (عدة الصابرين لابن القيم صـ 95).
(3) قال عبدالله بن مسعود: الصَّبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله؛ (الزهد لوكيع بن الجراح جـ 2 صـ 456).
(4) قال الحسن البصري: الصَّبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده؛ (عدة الصابرين لابن القيم صـ 95).
(5) قال عمر بن عبدالعزيز: ما أنعَم الله على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه، فعوَّضه مكانها الصَّبر إلا كان ما عوَّضه خيرًا مما انتزعه؛ (عدة الصابرين لابن القيم صـ 95).
(6) قال سعيد بن جبير: الصَّبر: اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه؛ (عدة الصابرين لابن القيم صـ 97).
(7) قال شقيق البلخي: مَن شكا مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبدًا؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ 349).
(8) قال يونس بن يزيد: سألت ربيعة بن أبي عبدالرحمن: ما منتهى الصَّبر؟ قال: يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه؛ (الدر المنثور للسيوطي جـ 1 صـ 378).
(9) قال الحريري: الصَّبر: ألا يفرِّقَ بين حال النعمة وحال المحنة مع سكون الخاطر فيهما؛ (مدارج السالكين لابن القيم جـ 2 صـ 166).
(10) قال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعز الدارين؛ لأنهم نالوا من الله معيَّته؛ فإن الله مع الصابرين؛ (مدارج السالكين لابن القيم جـ 2 صـ 166).
أنواع الصَّبر
الصَّبر ثلاثة أنواع، هي:
(1) الصَّبر على طاعة الله تعالى، (2) الصَّبر عن المعاصي، (3) الصَّبر على المصائب.
وسوف نتحدث عن كل منها.
أولًا: الصَّبر على طاعة الله تعالى:
يحتاج العبد إلى الصَّبر عليها؛ لأن النفس البشرية بطبعها تنفِرُ عن العبودية.
إن مِن العبادات ما يُكرَه بسبب الكسل؛ كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل؛ كالزكاة، ومنها ما يكره بسببهما جميعًا؛ كالحج والجهاد؛فالصَّبر على الطاعة صبر على الشدائد.
ويحتاج المطيعُ إلى الصَّبر على طاعته في ثلاث أحوال:
الحالة الأولى: قبل العبادة: وذلك في تصحيح النية والإخلاص والصَّبر عنشوائب الرياء ودواعي الآفات، وعقد العزم على الإخلاص والوفاء، وذلك من الصَّبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص وآفات الرياء ومكايد النفس.
روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ (البخاري حديث: 1).
وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
ولهذا قدَّم الله تعالى الصَّبر على العمل؛ فقال سبحانه: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11].
الحالة الثانية: حالة العمل: كيلا يغفُلَ عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه، ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير، فيلازم الصَّبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ، وهذا أيضًا من شدائد الصَّبر.
الحالة الثالثة: بعد الفراغ من العمل؛ إذ يحتاج إلى الصَّبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء، والصَّبر عن النظر إليه بعين العجب، وعن كل ما يبطل عمله ويحبط أثره؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، وكما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]، فمَن لا يصبر بعد الصدقة عن المنِّ والأذى فقد أبطَل عمله؛ (إحياء علوم الدين للغزالي جـ 4 صـ 70).
ثانيًا: الصَّبر عن المعاصي:
وما أحوج العبدَ إلى ذلك،ثم إن كان الفعل مما تيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغِيبة، والكذب والمراء ونحوه، كان الصَّبر عليه أثقل، فترى الإنسان إذا لبس حريرًا استنكر ذلك، ويغتاب أكثر نهاره، فلا يستنكر ذلك،ومن لم يملِكْ لسانه في المحاورات، ولم يقدر على الصَّبر، لم ينجِّه إلا العزلة.
ثالثًا: الصَّبر على المصائب:
مثل موت الأحبة، وهلاك الأموال، وعمى العين، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء؛ فالصَّبر على ذلك من أعلى المقامات؛ لأن سنده اليقين.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا، يُصِبْ منه))؛ (البخاري حديث 5645).
وقريب من هذا القسم: الصَّبر على أذى الناس؛ كالذي يؤذى بقول أو فعل أو جناية على نفسه أو ماله، والصَّبر على ذلك يكون بترك المكافآت،والصَّبر على أذى الناس من أعلى المراتب.
قال الله تعالى: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].
وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 97 – 99].
وقال جل شأنه: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]؛ (مختصر منهاج القاصدين 346: 345).
آداب الصَّبر:
يمكن أن نوجز آداب الصَّبر في الأمور التالية:
(1) مِن آداب الصَّبر استعماله في أول صدمة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما الصَّبر عند الصدمة الأولى)).
(2) الاسترجاع عند المصيبة،وهو قول: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156].
روى مسلمٌ عن أم سلمة أنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلمٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أْجُرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها))، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟! أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أرسل إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا، وأنا غيورٌ، فقال: ((أما ابنتُها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة))؛(مسلم حديث 918).
(3) سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز،قال بعض الحكماء: الجزع لا يرد الفائت، ولكن يسر الشامت.
(4) مِن حُسن الصَّبر ألا يظهر أثر المصيبة على المصاب، كما فعَلَتْ أمُّ سليم امرأة أبي طلحة لما مات ابنها؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ 347: 348).
روى مسلمٌ عن أنسٍ قال: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليمٍ، فقالت لأهلها: لا تحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عَشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنَّعُ قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيتٍ، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب وقال: تركتِني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارَك الله لكما في غابر ليلتكما))، قال: فحملَتْ،قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ وهي معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفرٍ لا يطرقها طروقًا، فدنَوْا من المدينة، فضربها المخاض، فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلَم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى، قال: تقول أم سليمٍ: يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد، انطلِقْ، فانطلقنا، قال: وضربها المخاض حين قدمَا، فولدت غلامًا، فقالت لي أمي: يا أنس، لا يرضعه أحدٌ حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبَح احتملته، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فصادفته ومعه مِيسَمٌ، فلما رآني، قال: ((لعل أم سليمٍ ولدَتْ))، قلت: نعم، فوضع المِيسَم، قال: وجئت به فوضعته في حجره، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوةٍ من عجوة المدينة، فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في فِي الصبي، فجعل الصبي يتلمَّظها،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى حُبِّ الأنصارِ التمرَ))، قال: فمسح وجهه، وسماه عبدالله؛ (مسلم حديث 2144).
كراهية طلب البلاء:
روى البخاري عن عبدالله بن أبي أوفى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، لا تمنَّوْا لقاء العدو، وسَلُوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف،ثم قال: اللهم مُنزِل الكتاب، ومجرِيَ السحاب، وهازم الأحزاب، اهزِمْهم وانصُرْنا عليهم))؛ (البخاري 3025).
قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن،وقد قال أبو بكر الصديق: لأن أعافى فأشكُرَ: أحبُّ إليَّ مِن أن أبتلى فأصبِرَ؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 6 صـ 181).
أشد الناس بلاءً:
روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل،فيبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان دِينه صُلبًا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دِينه رقةٌ، ابتُلِيَ على حسب دِينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةٌ))؛ (حديث حسن صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1956).
ثمرات الصَّبر:
(1) ضبط النفس عن السأم والملل لدى القيام بأعمال تتطلب الدأب والمثابرة خلال مدة مناسبة، قد يراها المستعجل مدة طويلة.
(2) ضبط النفس عن العجلة والرعونة لدى تحقيق مطلب من المطالب المادية أو المعنوية.
(3) ضبط النفس عن الغضب والطيش لدى مثيرات عوامل الغضب في النفس، ومحرِّضات الإرادة للاندفاع بطيش لا حكمة فيه ولا اتزان، في القول أو في العمل.
(4) ضبط النفس عن الخوف لدى مثيرات الخوف في النفس.
(5) ضبط النفس عن الطمع لدى مثيرات الطمع فيها.
(6) ضبط النفس عن الاندفاع وراء أهوائها وشهَواتها وغرائزها.
(7) ضبط النفس لتحمل المتاعب والمشقات والآلام الجسدية والنفسية، كلما كان في هذا التحمل خير عاجل أو آجل.
(8) دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام.
(9) يورث هداية في القلب.
(10) يثمر محبة الله ومحبة الناس.
(11) سبب للتمكين في الأرض.
(12) الفوز بالجنة والنجاة من النار.
(13) معيَّةُ الله للصابرين.
(14) الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
(15) مظهَرٌ من مظاهر الرجولة الحقة، وعلامة على حسن الخاتمة.
(16) صلاة الله ورحمته وبركاته على الصابرين؛ (نضرة النعيم – جـ 6 – صـ 2471).
صور من صبر نبينا صلى الله عليه وسلم:
لقد ابتُلِي نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، فصبر وتحمَّل من الأذى من أجل نشر الإسلام، ما لا يستطيع بشر أأن يتحمله،وسوف نذكر بعضًا من مواقفه:
1 – طلَّق عتبةُ بن أبي لهب رقيةَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك طلَّق أخوه عتيبة أمَّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل الدخول بهما؛ بغضًا في رسول الله حين أنزل الله سورة المسد: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 – 5]؛ (البداية والنهاية لابن كثير جـ 3 صـ 268).
2 – روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبِرْني بأشد شيءٍ صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيطٍ فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكرٍ حتى أخذ بمَنكِبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28]؛ (البخاري حديث: 3856).
3 – روى الشيخان عن عبدالله بن مسعودٍ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وأبو جهلٍ وأصحابٌ له جلوسٌ وقد نحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهلٍ: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلانٍ فيأخذه فيضعه في كتفي محمدٍ إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم (عقبة بن أبي معيطٍ)، فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعضٍ وأنا قائمٌ أنظر لو كانت لي منعةٌ طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجدٌ ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمة، فجاءت – وهي جويريةٌ – فطرحَتْه عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: ((اللهم عليك بقريشٍ)) ثلاث مراتٍ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشامٍ، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلفٍ، وعقبة بن أبي معيطٍ))، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيتُ الذين سمى صَرْعَى يوم بدرٍ، ثم سحبوا إلى القَلِيب قَلِيبِ بدرٍ؛ (البخاري حديث 52/ مسلم حديث 1794).
4 – روى الترمذي عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحدٌ، ولقد أُوذِيت في الله وما يؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكله ذو كبدٍ إلا شيءٌ يواريه إِبْطُ بلالٍ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2012).
قال أبو عيسى الترمذي: معنى هذا الحديث: حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم هاربًا من مكة ومعه بلالٌ، إنما كان مع بلالٍ من الطعام ما يحمله تحت إبطه؛ (سنن الترمذي جـ 4 ص556).
صور مِن صبر الصحابة:
(1) روى ابن ماجه عن عبدالله بن مسعودٍ قال: كان أولَ مَن أظهر إسلامه سبعةٌ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمارٌ، وأمه سمية، وصُهَيبٌ، وبلالٌ، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالبٍ، وأما أبو بكرٍ فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وألبَسوهم أدراع الحديد، وصهَروهم في الشمس، فما منهم من أحدٍ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالًا؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأخذوه فأعطَوْه الوِلدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ؛ (حديث حسن) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث 122).
(2) قال سعيد بن جبيرٍ: قلت لعبدالله بن عباسٍ: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يُعذَرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا لَيضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: آللات والعُزَّى إلهُك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجُعَلَ ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجُعَل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جهده؛ (سيرة ابن هشام جـ 1 صـ 320).
(3) أبو بكر الصِّدِّيق:
قالت عائشة رضي الله عنها: كان أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريشٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فأذن له، فخرج أبو بكرٍ مهاجرًا، حتى إذا سار من مكة يومًا أو يومين لقيه ابن الدُّغنة، وهو يومئذٍ سيد الأحابيش،فقال له: أين يا أبا بكرٍ؟ قال: أخرجني قومي وآذَوْني، وضيقوا عليَّ، قال: ولم؟ فوالله إنك لتَزِين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتَكسِب المعدوم، ارجع؛ فأنت في جواري،فرجع معه، حتى إذا دخل مكة، قام ابن الدُّغنة فقال: يا معشر قريشٍ، إني قد أجَرْتُ ابن أبي قحافة، فلا يعرضن له أحدٌ إلا بخير،قالت: فكفُّوا عنه،قالت عائشة: كان لأبي بكرٍ مسجدٌ عند باب داره في بني جُمَح، فكان يصلي فيه، وكان رجلًا رقيقًا، إذا قرأ القرآن استبكى،قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته،قالت: فمشى رجالٌ من قريشٍ إلى ابن الدُّغنة فقالوا (له): يا بن الدُّغنة، إنك لم تُجِرْ هذا الرجل ليؤذينا؛ إنه رجلٌ إذا صلى وقرأ ما جاء به محمدٌ يرق ويبكي، وكانت له هيئةٌ ونحوٌ، فنحن نتخوَّف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فَأْتِه فمُرْه أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء،قالت: فمشى ابن الدُّغنة إليه، فقال له: يا أبا بكرٍ، إني لم أُجِرْك لتؤذيَ قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذي أنت فيه، وتأذَّوْا بذلك منك، فادخل بيتك، فاصنع فيه ما أحببت، قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردُدْ عليَّ جواري، قال: قد رددته عليك، قالت: فقام ابن الدُّغنة فقال: يا معشر قريشٍ، إن ابن أبي قحافة قد رد عليَّ جواري، فشأنكم بصاحبكم،قال القاسم بن محمدٍ: لقي أبا بكرٍ الصِّديقَ سفيهٌ من سفهاء قريشٍ، وهو عامدٌ إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابًا،قال: فمر بأبي بكرٍ الوليد بن المغيرة، فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنَعُ هذا السفيه؟ قال: أنتَ فعلت ذلك بنفسك،قال أبو بكرٍ: ربِّ، ما أحلَمَك! ربِّ، ما أحلَمَك! رب، ما أحلَمَك!؛ (سيرة ابن هشام جـ 1 صـ 373: 372).
(4) عثمان بن عفان:
قال محمد بن إبراهيم بن حارث التيمي: لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا، وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدَث، والله لا أحُلُّك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدِّين، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دِينه تركه، قالوا: فكان عثمان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية ومعه فيهما جميعًا امرأتُه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنهما لأولُ مَن هاجر إلى الله بعد لوط))؛(الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 3 صـ 40).
(5) طَلْحةُ بن عبيدالله:
قال مسعود بن حراش: بينما نحن نطوف بين الصفا والمرة إذ أناس كثيرون يتبعون فتى شابًّا موثقًا بيده في عنقه،قلت: ما شأنه؟ قالوا: هذا طلحة بين عبيدالله، صبأ (أسلم)، وامرأة وراءه تسُبُّه،قلت: من هذه؟ قالوا: الصعبة بنت الحضرمي أمه؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني جـ 2 صـ 220).
(6) الزبير بن العوام:
روى أبو نعيم عن أبي الأسود قال: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثماني سنين، وهاجر وهو ابن ثماني عشرة سنة، وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه النار وهو يقول: ارجع إلى الكفر،فيقول الزبير: لا أكفُرُ أبدًا؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 1 صـ 89).
(7) صُهَيب الرُّومي:
روى أبو نعيم عن سعيد بن المسيَّب قال: لما أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، نزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وايم الله لا تصِلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقِيَ في يدي منه شيء،افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وثيابي بمكة وخليتم سبيلي، قالوا: نعم،فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: ((ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى))،قال: ونزلت: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 1 صـ 152: 151).
(8) بلال بن رباح:
قال محمد بن إسحاق: كان بلال بن رباح صادقَ الإسلام، طاهر القلب، فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال وهو في ذلك البلاء: أحدٌ، أحدٌ؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 1 صـ 148).
صور مِن صبر التابعين:
(1) قال ثابتٌ البُناني: مات عبدالله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادَّهَن (وضَع طِيبًا)، فغضبوا، وقالوا: يموت عبدالله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدَّهِنا؟! قال: أفأستكين لها، وعَدني ربى تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157]؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ 348).
(2) كان صلة بن أشيَمَ في مغزًى له ومعه ابنه، فقال: أي بني، تقدَّمْ فقاتِلْ حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقتل، فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية، فقالت: مرحبًا إن كنتن جئتن تهنئنني، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ 348).
(3) قال الأحنف: لقد ذهبَتْ عيني منذ أربعين سنة، ما ذكرتها لأحد؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ 349).
(4) لما مات عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز، دفنه عمر، وسوَّى عليه التراب، ثم استوى قائمًا، فأحاط به الناس، فقال: رحمك الله يا بني! قد كنتَ برًّا بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسرورًا بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سرورًا، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيَّرك الله إليه؛ (مختصر منهاج القاصدين صـ 349).
وختامًا، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفَعَ به المسلمين.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين!
-الألوكة-