فلسطين والمناخ السياسي المسموم
الإثنين 1 ربيع الثاني 1437//11 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
حازم عياد
في ثورة البراق عام 1929 اعتقل الإنكليز المحتلون ثلاثة من الفلسطينيين هم على التوالي محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، أعدموا شنقا في حزيران من العام 1930، ليتحولوا الى أيقونات يتسامر الناس ببطولتهم وشجاعتهم، بل ورموز للثورات الفلسطينية اللاحقة، فثورتهم كانت دفاعا عن المقدسات وموروث تاريخي يحمل أبعادا حضارية إنسانية أوسع بكثير من حدود فلسطين تعلي من شأن من ينخرط فيها.
ثورة سبقتها ثورة عام 1921 في يافا، وتبعتها ثورة في العام 1936 سميت بالثورة الكبرى ضد الاحتلال الانكليزي ورعاياهم الصهاينة المستوطنين القادمين من أوروبا، فما أشبه اليوم بالبارحة، فمواجهة القمع والتنكيل حالة يومية في فلسطين، وشرارة الثورة دائما ما تبدأ من نقطة مفصلية القدس.
مع نهاية النصف الاول من القرن العشرين خرج الإنكليز من فلسطين وتركوا خلفهم رعاياهم من المستوطنين الصهاينة حراسا على مشروعهم الامبريالي الاستعماري، وأبدع الإنكليز كعادتهم بنقل مسؤولية رعاية هذه الكتلة الاستيطانية المتطرفة بطرق ملتوية الى الولايات المتحدة، ليصبح الغرب حامي حمى الكيان الاستيطاني الاستعماري، محولا هذا المشروع الاستعماري من مشروع بريطاني خاص الى مشروع تتبناه الحضارة الغربية وتدافع عنه.
يسجل للإنكليزي في فلسطين إنجاز فشلوا في تحقيقه في جنوب افريقيا كما فشل الفرنسيون في تحقيقه في الجزائر من قبل، فالحلم الاستعماري الذي تطور في جنوب افريقيا على هيئة دولة الفصل العنصري؛ كأحد آفات الحضارة الغربية التي زرعت في افريقيا جفت وذبلت وتفككت في تسعينيات القرن الماضي.
الكيان الإسرائيلي في المقابل يعد آخر المشاريع الاستعمارية المباشرة، غير انه لازال مشروعا يعاني من الإخفاقات، تتنازعه المصائر التي تعرض لها الاستعمار الفرنسي الإحلالي الخاص في الجزائر، ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، فالكيان الاسرائيلي حاله كحال كل المشاريع الاستعمارية لم يعرف الاستقرار، اذ تبع نكبة عام 48 انطلاق العديد من الجهود لمقاومة المحتل والمستعمر الصهيوني، توجت بانطلاقة الثورة او ما عرف بمنظمة التحرير عام 1965مستنسخة في كثير من الاحيان تجارب الشعوب الاخرى التي نجحت في دحر المستعمر، وإثر تراجع مكانة المشروع الوطني في الثمانينات من القرن العشرين، برزت الى السطح الانتفاضة عام 1987 ثم هبة النفق عام 1996 ثم انتفاضة 2000، لتمثل ارضية تطور على اثرها العمل المقاوم في قطاع غزة، خاض فيها القطاع ثلاثة حروب على مدى ستة أعوام كانت ملهمة للفلسطينيين، باعثة الحياة بمشروع المقاومة والتحرير والاسترداد.
الانتفاضة الاخيرة والتي بدأت إرهاصاتها مع انطلاق الربيع العربي وتفجرت في العام 2015 الماضي، مثلت بدورها حالة فريدة، اذ بات لها رموزها يتسامر الناس ببطولتهم ورجولتهم تذكر بالزير وجمجوم وحجازي، فهي انعكاس لصورة المجتمع الفلسطيني التقليدي من ناحية، ومن ناحية اخرى انعكاس حقيقي لصورة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني القائم على الارض، مستلهمة من واقع تاريخي وتنـــــــشئة اجتماعية وسياسية رافضة للاحتلال، تنشئة لايحتاج الفلسطينيون الى كبير جهد لإعدادها، فـــــــهي مستوحاة من الموروث التاريخي والاجتماعي والواقـــــــع، وليس من بطون الكتب والتاريخ، فالثـــــــورة الفلسطينية باتت تاريخا شفــــــويا يروى وتتناقلـــــــه الاجيال، كونها تعبيرا عن عقل استراتيــــــجي جمـــــــعي تطور خلال المئة عام الفائته لدى الشعب الفلسطيـــــــني.
انتفاضة العام 2015 تذكرنا بثورة البراق عام 1929، فهي مختلفة في سماتها عن سائر الجهود التي انطلقت لمواجهة المستعمر المحتل منذ العام 1965، فتلك الجهود حظيت برعاية عربية كحد أدنى، مستلهمة خطابها وتكتيكاتها من تجارب حركات التحرر المعروفة في ذلك الزمان، في حين ان الانتفاضة الحالية تواجه ممانعة عربية ودولية واقليمية لامثيل لها تذكرنا بثورات الشعب الفلسطيني في النصف الاول من القرن العشرين، من حيث الانطلاقة وطرق التفاعل الشعبي معها، فضلا عن العزلة التي كانت تعانيها في بيئتها العربية، والأهم انها مستلهمة من الموروث الاجتماعي والمحلي، ما يجعلها مؤهلة لتتحول الى ثورة شعبية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بعيدا عن تجاذبات القوى الاقليمية والدولية والسياسية الفكرية مذكرة بواقع الفلسطينيين في النصف الاول من القرن العشرين.
الانتفاضة القائمة باتت حـــــــالة فريدة واستثنائية واعدة، تتطلب المزيد من التعـــــــمق في دراسة عناصرها وتوجهاتها ومستقبلها ومدى تأثيرها على واقع الفلسطينيين ومستقبلهم، من خلال دراسة بنيتها وخصائصها، فالفلسطينيون على موعد مع انطلاقة ثورية جديدة على الأرجح، سيعمل القاصي والداني على محاولة إحباطها وتشويهها وحرفها عن مسارها مستفيدا من المناخ السياسي المسموم في المنطقة.
-السبيل-