قواعد أصولية في تعليل الأحكام الشرعية

الأحد 8 ذو القعدة 1436//23 أغسطس/آب 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
أمين نعمان عبدالله
قواعد أصولية في تعليل الأحكام الشرعية
(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن تعليل أفعال المولى سبحانه وتعالى يعتبر من أجل المسائل الإلهية المبحوثة في كتب الاعتقاد، ومن فروعه تعليل الأحكام الشرعية المبحوثة في كتب أصول الفقه[1].

ومن كان له فضل اطلاع على ما كتبه علماء الأصول في باب التعليل، علم أنه باب جليل القدر، عظيم النفع، وأدرك أهمية الرجوع إلى أقوال الأئمة المجتهدين، والعلماء المحققين، وإعمال النظر فيما قرروه أو أشاروا إليه من قواعد وضوابط هامة في هذا الباب؛ إذ بتلك القواعد والضوابط يمكن الوصول إلى تعليلات صحيحة ومنضبطة للأحكام الشرعية.

وهذا البحث هو محاولة للوقوف على تلك القواعد، وتتبع ما فيها من الفوائد، مع تعزيزها بالأمثلة والشواهد، وقد كان الباعث على ذلك أن كاتب هذه السطور لم يرَ من أفرد الحديث عن قواعد التعليل، مع شدة الحاجة إليها. وغاية الباحث من تحريرها: ترشيد وتصويب التعليل، والوقاية من المزالق والأخطاء التي يقع فيها البعض عند تعليله للأحكام الشرعية.

وليس يخفى أن لتعليل الأحكام الشرعية فوائد جليلة إذا جاءت منضبطة بالأصول المعتبرة والقواعد المقررة، ومن أهم تلك الفوائد:
أولاً: بيان حكمة الله في حُكمه وأمره.

ثانياً: الوقوف على أسرار التشريع الإسلامي ومقاصده.

ثالثاً: تقوية الحكم الشرعي بإظهار حكمته؛ إقامةً للحجة على المخالف، وزيادةً في الطمأنينة للموافق.

لكن كما أسلفنا هنالك ضوابط هامة مقررة وقواعد معتبرة لا بد من استحضارها عند تعليل الأحكام الشرعية، وبدون مراعاة تلك الضوابط والقواعد يحصل الزلل، ويقع الخلل، وربما أسـاء المرء من حيث أراد الإحسان، ولذلك سنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على أهم الضوابط والقواعد التي ينبغي مراعاتها عند تعليل الأحكام الشرعية، ونمهد لذلك بثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: في تعريف العلة وبيان الفرق بينها وبين السبب والحكمة:
تعريف العلة:
يعرف علماء الأصول العلة بأنها: الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم، وربط به وجوداً وعدماً؛ لأنه مظنة تحقيق المصلحة والحكمة من تشريع الحكم[2].

الفرق بين العلة والسبب:
وهنالك من الأصوليين من لا يفرق بين العلة والسبب، لكنّ أكثر الأصوليين على التفريق بينهما، والفرق عندهم: أن العلة يمكن أن تدرك بالعقل كالإسكار في تحريم الخمر، ولا يمنعون من تسميتها سبباً، لكنهم يخصون الأسباب المحضة بما لا مدخل للعقل في معرفة حكمتها ومعقوليتها، وذلك ككون الزوال سبباً لصلاة الظهر على سبيل المثال، وعلى هذا يمكن أن يقال: كل علة سبب، وليس كل سبب علة[3].

قال الشيخ عبدالوهاب خلاف رحمه الله: ((ومما ينبغي التنبه له أن بعض الأصوليين جعل العلة والسبب مترادفين ومعناهما واحداً، ولكن أكثرهم على غير هذا فعندهم كل من العلة والسبب علامة على الحكم، كل منهما بني الحكم عليه وربط به وجوداً وعدماً، وكل منهما للشارع حكمة في ربط الحكم به، وبنائه عليه، ولكن إذا كانت المناسبة في هذا الربط مما تدركه عقولنا سمي الوصف: العلة، وسمي أيضاً: السبب. وإن كان مما لا تدركه عقولنا سمي السبب فقط، ولا يسمى علة، فالسفر لقصر الصلاة الرباعية علة وسبب. وأما غروب الشمس لإيجاب فريضة المغرب، وزوالها لإيجاب فريضة الظهر، وشهود [ هلال ] رمضان لإيجاب صومه، فكل من هذه سبب لا علة، فكل علة سبب، وليس كل سبب علة))[4].

الفرق بين العلة والحكمة:
كذلك يفرق علماء الأصول بين العلة والحكمة بقولهم: إن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يكون مظنةَ تحققِ الحكمة من وراء تشريع الحكم، بينما الحكمة هي المقصد الشرعي الذي شرع الحكم لأجله.

وتمثيلاً لذلك يقولون: القصاص حكم شرعي. وعلته: القتل عمداً وعدواناً. وحكمته: حفظ النفوس.

وكذلك إباحة الفطر في رمضان حكم شرعي. وعلته: السفر أو المرض. وحكمته: رفع الحرج والمشقة[5].

ويرى بعض الأصوليين أن لفظ العلة يطلق ويراد به:
1/ الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

2/ الوصف الظاهر المنضبط الذي هو مظنة وجود الحكمة[6].

وعلى هذا الاصطلاح قد يطلق لفظ (العلة) ويراد به (الحكمة)، لكن عند تعليل الأحكام الشرعية ينبغي التفطن للفرق بين (العلة) و (الحكمة)، وفهم المراد من إطلاق لفظ (العلة) بحسب السياق.

ومن المهم هنا أن ندرك أن الأحكام تربط بعللها لا بحِكَمِها، والسبب في ذلك أن الحكمة قد تكون خفية أو غير منضبطة، وأما العلة فهي وصف ظاهر منضبط. ولذلك يربط الحكم بالعلة وإن فاتت الحكمة في بعض الجزئيات أو الحالات.

فمثلاً: إباحة الفطر للمسافر. حكمته: دفع المشقة. لكن المشقة أمر نسبي غير منضبط، ولذلك لم يربط الشارع الحكم بالمشقة، وإنما ربطه بأمر آخر منضبط وهو السفر، لأنه مظنة المشقة.

ومما يقرره علماء الأصول: وجود التلازم في الجملة بين (العلة) و (الحكمة)، قال في مراقي السعود:

لم تُلفَ في المعللاتِ علة
خالية من حكمةٍ في الجملة[7]

لكن كون العلة لا تخلو من حكمة في الجملة لا يلزم منه منع التعليل بالعلة إذا تخلفت حكمتها، فمن المقرر أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فالحكم يوجد متى وجدت علته، وإن تخلفت حكمته، اعتباراً بالغالب، وإلغاءً للنادر، فلو تخلفت حكمة دفع المشقة عن المسافر ـ مثلاً ـ بأن كان المسافر مرفهاً، فهذا لا يلغي الحكم الشرعي، ولا يقدح في صحة التعليل.

والمقصود أن ((الحكمة لخفائها أو عدم انضباطها لم تربط بها الأحكام غالباً، وإنما ربطت بالعلل؛ لكونها أمراً ظاهراً منضبطاً.

وربط الأحكام بالعلل يؤدي إلى استقامة التكليف، وضبط الأحكام واطرادها، واستقرار أوامر التشريع العامة ووضوحها، وهذه فوائد عظام لا يؤثر فيها فوات الحكمة في بعض الجزئيات والوقائع في بعض الأحيان))[8].

المقدمة الثانية: في بيان طرق معرفة علل الأحكام الشرعية:
علل الأحكام الشرعية تعرف بطرق يسميها العلماء (مسالك العلة)، وهي ثلاثة مسالك[9]:
الأول: النص: فقد جاء في نصوص الكتاب والسنة الدلالة على علل الأحكام في غير موضع، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].

فقوله سبحانه: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7] نص صريح على العلة في قسمة مصارف الفيء كما جاء في الآية الكريمة، والعلة هي مـنع جعل المال متداولاً بين الأغنياء دون غيرهم[10].

وكذلك قوله-صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))[11] هو نص صريح في علة حكم الاستئذان.

الثاني: الإجماع: فإذا انعقد الإجماع على تعليل حكم شرعي بعلة ما، جاز التعليل بها، كالإجماع على تعليل تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث بامتزاج النسبين[12] وكالإجماع على أن الصغر علة في نفي الولاية على المال[13].

الثالث: السبر والتقسيم:
السبر معناه: الاختبار.
والتقسيم معناه: حصر الأوصاف المحتملة لأن تكون علة الحكم[14].

ودور الفقيه هنا أن يحصر فروض العلة المحتملة، ثم يقوم باختبارها ويدقق النظر فيها، حتى يصل إلى الوصف الظاهر المنضبط المعتبر الذي يراه صالحاً لأن يكون علةً للحكم الشرعي.

فمثلاً: نهى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، يداً بيد[15].

والبحث في علة هذا الحكم الشرعي يكون بفرض كافة الفروض المحتملة، ولنفرض أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك لأن الذهب والفضة:
1/ معادن.
2/ حلي.
3/ لهما جمال ولمعان.
4/ أثمان.
ومن خلال التأمل يظهر أن العلة الصحيحة لذلك هي الثمنية؛ أي لأنهما أثمان الأشياء وقيم الموجودات[16].

المقدمة الثالثة: في تخريج المناط وتنقيحه وتحقيقه:
إن الناظر في كتب الأصول يجد ثلاث مصطلحات متقاربة لها أهمية خاصة فيما نحن بصـدده، وهي: تخريج المناط، وتنقيح المناط، وتحقيق المناط. وهذه القضايا الثلاث: التخريج والتنقيح والتحقيق، هي قضايا الاجتهاد في العلة، ويتصدى لها المجتهدون من أهل العلم، وتتفاوت أنظارهم في أحكام المسائل تبعاً لذلك.

فالمناط يراد به العلة؛ لأن الحكم الشرعي منوط بعلته[17].

واستنباط العلة غير المنصوصة هو ما يسميه العلماء: تخريج المناط.

وأما العلة المنصوصة فقد تقترن بها أوصاف لا علاقة لها بالعلية، وتنقية العلة مما علق بها من أوصاف خارجة عن تعليل الحكم الشرعي، يسميها العلماء: تنقيح المناط[18].

ومثال ذلك ما روي في الصحيحين وغيرهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقال: هلكت ! فقال ((وما ذاك))؟ قال: وقعت بأهلي في رمضان. قال: ((تجد رقبة))؟ قال: لا. قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين))؟. قال: لا. قال: ((فتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً))؟ قال: لا. قال: فجاء رجل من الأنصار بعرق، والعرق المكتل فيه تمر. فقال: ((اذهب بهذا فتصدق به)). قال: على أحوج منا يا رسول الله؟ والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا ! قال: (اذهب فأطعمه أهلك))[19].

فهذا النص دل بالإيماء على أن العلة في إيجاب التكفير هي حصول الجماع في نهار رمضان، وأما بقية الأوصاف الواردة في الحديث فلا علاقة لها بالعلية، مثل كون الرجل فقيراً، وكونه واقع خصـوص زوجته، وكونه واقع في نهار رمضان من تلك السنة بعينها.

ويبقى النظر في علة الحكم الأصلي: هل هي موجودة في الفرع المقيس أم لا؟ وهذا ما يسميه العلـماء: تحقيق المناط.

فبعد ثبوت العلة بالنص أو الإجماع أو الاستنباط يأتي النظر في مدى تحقق العلة في واقعةٍ أخرى، فمثلاً: لدينا حكم شرعي باعتزال النساء في المحيض، وهو حكم معلل وعلته هي: الأذى، وهي علة جاء النص عليها في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [ البقرة: 222].

اقرأ أيضا  الاستشفاء بذكر اسم الجلالة

وهذه العلة المنصوصة في الحيض هي نفسها موجودة في النفاس، ولذلك كان حكم النفاس كحكم الحيض في تحريم الوطء وترك الصلاة والصوم.

قواعد أصولية في تعليل الأحكام الشرعية
مضى القول في أهمية التعليل وفوائده، وأنه لابد فيه من الالتزام بالقواعد الأصولية المعتبرة التي ينضبط بها التعليل ويستقيم، وهذا أوان الشروع في بيان تلك القواعد الضابطة المستنبطة من كلام أهل العلم، ولتكن بدايتنا من القاعدة الأولى:
القاعدة الأولى: علل الأحكام تطلب من النص ابتداءً، والعلة المنصوصة مقدمة على العلة المستنبطة:
قد مر معنا فيما سبق مسالك طلب العلة، وأن أول تلك المسالك: طلب العلة من النص الشرعي، وعليه ينبغي لمن طلب التماس العلة أن يلتمسها من النص أولاً، فإذا كانت العلة منصوصة وجب الوقوف حيث نص الشارع، وعدم تجاوزه إلى غيره، وإن لم تكن العلة منصوصة فينظر حينها في الإجماع، ثم في السبر والتقسيم.

قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ((والقرآن وسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة: فتارة يذكر: (لام التعليل) الصريحة، وتارة يذكر: (المفعول لأجله) الذي هو المقصود بالفعل، وتارة يذكر: (من أجل) الصريحة في التعليل، وتارة يذكر: (أداة كي)، وتارة يذكر: (الفاء) و(أن) وتارة يذكر: (أداة لعل) المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارة ينبه على السبب يذكره صريحاً، وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة ينكر على من زعم أنه خلق خلقه وشرع دينه عبثاً وسدىً،… إلى أن قال: وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى آخرها شاهدة بذلك ناطقة به، ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة بادياً على صفحاتها، منادياً عليها، يدعو العقول والألباب إليها))[20].

وإذا كانت هناك علتان للحكم إحداهما منصوصة والأخرى مستنبطة، وجب تقديم العلة المنصوصة[21].

ومن أمثلة ذلك قوله-صلى الله عليه وسلم-: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء))[22].

فحكم الغمس في الحديث معلل بأن: ((في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء))، وهذه علة منصوصة، فتقدم على العلة المستنبطة بأن: (الذباب لا نفس له سائلة).

والأخذ بالعلة المنصوصة هنا يجعل الحكم قاصراً على الذباب، وأما مع العلة المستنبطة فالحكم يُعدى إلى: كل ما لا نفس له سائلة.

قال ابن دقيق العيد: ((ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي: عموم البلوى به، وهذه مستنبطة، أو التعليل بأن: في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وهذه منصوصة، وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره، فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل، بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة))[23].

القاعدة الثانية: كل تعليل يعود على النص بالإبطال فهو باطل:
وإذا كان التعليل يطلب من النص الشرعي ابتداءً، وإذا كانت العلة المنصوصة مقدمة على العلة المستنبطة؛ فمن البدهي أنه لا يصح ولا يجوز التعليل بما يخالف النص الشرعي أو يبطل حكمه.

قال الإمام السرخسي: ((إن التعليل في معارضة النص، أو فيما يبطل حكم النص، باطل بالاتفاق))[24].

وقال البزدوي: ((إن التعليل لا يصلح لتغيير حكم النص فكيف لإبطاله؟))[25].

إن الأصل في الأحكام الشرعية هو النصوص الصحيحة الثابتة، والحكم الشرعي وإن كان يدور مع علته وجوداً وعدماً فذلك الدوران هو بحكم النص، وقد يبطل النص ذلك الدوران فيبقي الحكم مع تخلف علته، ومثال ذلك: الرمل في الأشواط الثلاثة الأُوَل في طواف القدوم، فقد كانت علته واحدة وهي إظهار القوة والنشاط أمام المشركين الذين قالوا: يقدم عليكم محمد وأصحابه وقد أنهكتهم حمى يثرب. ومع أن هذه العلة زالت فيما بعد إلا أن الدليل ورد ببقاء هذا الحكم؛ فقد رمل النبي-صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، فكان النص قاضياً ببقاء الحكم مع انتفاء علته[26].

فعلمنا من ذلك أن النص هو منشئ الأحكام والعلل، وهو من يقضى بدوران الحكم مع علته، وببقاء الحكم بالرغم من زوال علته، فلا بد إذن من التسليم للنص الشرعي الثابت وعدم معارضته بالتعليل، فالنص سابق والتعليل لاحق، والنص أصل والتعليل فرع، والعلة إنما تستمد قوتها من النص، ولذلك لو كان هنالك حكم واحد أخذ بطريق الاستنباط، وعُلل بعلتين إحداهما لحكم منصوص، والأخرى لحكم مستنبط، فإنه يقدم القياس المعلل بعلة الحكم المنصوص على القياس المعلل بعلة الحكم المستنبط، وما ذلك إلا لأن النص هو الأصل ، والعلة تبع له، ومثال ذلك: لو قال أحد المجتهدين: الأرز يمنع فيه الربا قياساً على البر بجامع الكيل.

وقال مجتهد آخر: الأرز يمنع فيه الربا قياساً على الذرة بجامع الاقتيات.

ففي هذه الحال ترجح العلة الأولى لأن أصلها وهو البر منصوص على تحريمه، بخلاف الذرة التي هي الأصل في القياس الثاني، فتحريم الربا فيها مستنبط لا منصوص[27].

والمرجح هنا قوة النص؛ فقوة النص هي التي رجحت العلة، فرجحت العلة لا بقوتها وإنما بقوة النص الذي ارتبطت به. وهذا يؤكد على حاكمية النص ومرجعيته، وعلى أن النص سيدٌ والتعليل تابع، فلا يجوز بحال أن يعكس الأمر فيصبح التعليل سيداً، والنص تابعاً !

وإذن فكل معارضة للنصوص الصحيحة الصريحة بالتعليل هي معارضة باطلة مردودة، وسنذكر هنا نماذج من التعليلات التي وقعت في معارضة النصوص الصحيحة الثابتة، ولن يعدم الناظر في كتب الفقه والشروح الحديثية أمثلةً وشواهد غير ما نذكره هنا، ومقصودنا البيان والتوضيح، والتنبيه على بعض مواطن الزلل، ومواضع الخلل، والتأكيد على أهمية إعمال قاعدة: ((كل تعليل يعود على النص بالإبطال فهو باطل))، حتى نحفظ للنص الشرعي هيبته وحاكميته ومرجعيته.

وفيما يلي نسوق بعض الأمثلة على التعليل في معارضة النص:
المثال الأول: جاءت الأحاديث الثابتة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالسواك عند كل صلاة، كقوله-صلى الله عليه وسلم-: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة))[28].

لكن بعض الفقهاء لم ير السواك عند كل صلاة، وحمل الأحاديث على معنى: عند وضوء كل صلاة، فجعل الأمر بالسواك عند الوضوء فقط دون الصلاة، وعلل ذلك بأن السواك لا ينبغي عمله في المساجد لأنه من إزالة المستقذرات، فتنزه المساجد عن ذلك !

قال في عون المعبود في سياق شرحه للأحاديث الآمرة بالسواك: ((تدل على مشروعية السواك عند كل وضوء، وعند كل صلاة، فلا حاجة إلى تقدير العبارة بأن يقال: أي عند كل وضوء صلاة، كما قدرها بعض الحنفية، بل في هذا رد السنة الصحيحة الصريحة وهي السواك عند الصلاة. وعُلل بأنه لا ينبغي عمله في المساجد لأنه من إزالة المستقذرات، وهذا التعليل مردود لأن الأحاديث دلت على استحبابه عند كل صلاة))[29].

المثال الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى استحباب تأخير صلاة العصر، وعللوا ذلك بالازدياد من النوافل، مع أنه قد صحت الأحاديث في أفضلية التعجيل.قال في تحفة الأحوذي في سياق شرحه لـ (باب ما جاء في تعجيل العصر): ((وعلله ـ أي استحباب تأخير صلاة العصر ـ صاحب الهداية وغيره من الفقهاء الحنفية بأن في تأخيرها تكثير النوافل، وقد رده صاحب التعليق الممجد وهو من العلماء الحنفية بأنه تعليل في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على أفضلية التعجيل وهي كثيرة مروية في الصحاح الستة وغيرها))[30].

المثال الثالث: استبدال أعيان الزكاة المنصوصة التي نص الشارع الحكيم على إخراجها بغيرها، وتعليل ذلك بالمصلحة، فعلى سبيل المثال: فرض الشارع الحكيم إخراج زكاة النقد نقداً، والواجب إخراجها نقداً، لكننا مع ذلك نرى من يشتري سلعاً أو مواد غذائية ثم يدفعها إلى المستحق، بحجة أن ذلك المستحق لو أخذ حقه في الزكاة نقداً فإنه سوف يسيء التصرف، فمن باب الرعاية لمصلحته ومصلحة عياله، تُشترى له سلعاً بدلاً من دفع المال إليه نقداً.

ومثل هذا التعليل مرفوض؛ إذ لا خلاف أن الواجب في زكاة النقد إخراجها نقداً، ولا يصح للمالك أو لوكيله أو لغيرهما التصرف فيها وإخراجها عن طبيعتها النقدية، وجمهور العلماء على عدم استبدال أموال الزكاة عموماً أو التصرف فيها، بل الواجب إيصالها إلى المستحقين بأعيانها،لأنها هكذا فرضت، ولأن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فلم يجز التصرف في حقهم بغير إذنهم[31].

ولابد هنا من التنبيه إلى أن معارضة النصوص بالتعليل قد وقعت من بعض أئمة العلم الذين لا يتصور من مثلهم معارضة النص الشرعي الثابت بتعليل أو بغيره، ولذلك يلتمس العذر لهم في ذلك، ولا يحل القدح فيهم بسبب ذلك، فعلى سبيل المثال نجد الإمام مالكاً ـ رحمه الله ـ يقول بكراهة صيام ستةٍ من شوال، ويعلل ذلك بأنه ما رأى أحداً من أهل العلم يصومها، ولكي لا يُظن وجوبها. مع أن الأحاديث في صيام ستةٍ من شوال أحاديث صحيحة رواها مسلم وغيره، قال العلامة ابن الأمير الصنعاني: ((وقال مالك: يكره صومها. قال: لأنه ما رأى أحداً من أهل العلم يصومها ولئلا يظن وجوبها. الجواب أنه بعد ثبوت النص بذلك لا حـكم لهذه التعليلات. وما أحـسن ما قاله ابن عبد البر: إنه لم يبلغ مالكاً هذا الحديث؛ يعني حديث مسلم))[32].

القاعدة الثالثة: لا يقبل التعليل في معارضة الإجماع:
وكما لا يقبل التعليل في معارضة النصوص الصحيحة فكذلك إذا تحقق وقوع الإجماع فإنه لا تصح معارضته بالتعليل، وقد ذكر أهل العلم من شروط العلة: أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص ولا إجماع[33].

كذلك نص علماء الأصول على بطلان التعليل في مخالفة الإجماع[34].

لكن هنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي التفريق بين معارضة الإجماع أو خرقه بالتعليل، وبين إحداث التفصيل بين مسألتين مجمع عليهما استناداً إلى التعليل. فأما التفصيل بالتعليل فجائز؛ لأنه لا يرفع حكماً مجمعاً عليه وإن تضمن إحداث قول جديد.

اقرأ أيضا  السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب

وحتى تتضح المسألة نزيدها بياناً فنقول:
إذا اختلف أهل عصرٍ في مسألةٍ على قولين، ثم جاء بعدهم مَن أحدث قولاً ثالثاً هو عبارة عن تفصيل في المسألة يستند إلى تعليلٍ لم يتعرض له السابقون، فهل يسمى هذا خرقاً للإجماع؟

هذا ما يبحثه علماء الأصول تحت عنوان: ((إحداث التفصيل بين مسألتين لم يفصل بينهما أهل عصر))[35].

وقد رأى البعض أن إحداث هذا النوع من التفصيل يعد خرقاً للإجماع، وهو قول ضعيف، والذي عليه المحققون من علماء الأصول: هو التفصيل في المسألة، فهم يقولون: إن إحداث التفصيل بين مسألتين لم يفصل بينهما أهل عصر، قد يكون خرقاً للإجماع وقد لا يكون، وخرق الإجماع يكون في صورتين:
الأولى: أن ينص أهل العصر على عدم الفرق بين المسألتين.

الثانية: أن تتحد العلة في المسألتين، فيأتي بعد ذلك من يفرق بينهما في الحكم مع أن العلة واحدة. ومثاله: توريث العمة والخالة، فهنالك من أهل العلم من قال بعدم توريثهما، وهنالك من قال بتوريثهما، فلو جاء أحد وأحدث تفصيلاً بين المسألتين بأن قال بتوريث العمة دون الخالة، أو بتوريث الخالة دون العمة، لم يقبل منه، ويكون بقوله هذا خارقاً للإجماع، لأن العلة فيهما واحدة، وهي كونهما من ذوي الأرحام، واتحاد العلة موجب لاتحاد الحكم، فالتفريق بينهما في الحكم مع اتحاد العلة يعتبر خرقاً للإجماع.

وأما إذا اختلفت العلة فإحداث التفصيل بين المسألتين لا يعد خرقاً للإجماع، ومثاله: مسألة الزكاة في مال الصبي، فمن أهل العلم من قال بعدم وجوبها لأنها عبادة، والعبادة يشترط لها البلوغ، حتى يحصل الاختبار وما يترتب عليه من جزاء، والصبي ليس أهلاً لذلك.

ومن أهل العلم من قال بوجوبها لأنها حق الفقراء في مال الأغنياء، وهذا الحق لا يمنع منه الصغر وعدم البلوغ.

ثم جاء من أهل العلم من أحدث تفصيلاً بين المسألتين فأوجب الزكاة في مال الصبي إذا كان نامياً، ولم يوجبها في المال الجامد كالحلي، وهذا التفصيل لا يعد خرقاً للإجماع لأن العلة مختلفة، والقائلون بهذا التفصيل هم في حقيقة الأمر قد وافقوا كلا القولين السابقين: فهم وافقوا القول الأول من جهة عدم الوجوب، ووافقوا القول الثاني من جهة الوجوب، وفي كلا الوجهين لهم تعليل صحيح[36].

وما كان على هذه الصورة لا يقال فيه إنه معارض للإجماع، ولا يتهم صاحبه بخرق الإجماع، وفهم هذه القاعدة لا شك أنه يحقق هدفين: الأول: احترام الإجماع وصيانته من الخرق. والثاني: كسر الجمود وفتح باب الاجتهاد والتفصيل في المسائل بناءً على التعليل الصحيح المعتبر.

القاعدة الرابعة: تعليل الأحكام مرتبط بمقاصد الشريعة:
فلقد استقرأ علماء الشريعة نصوص القرآن والسنة فوجدوا أنها جاءت لتحقيق مصالح العباد، ثم ظهر لهم من خلال الاستقراء ـ أيضاً ـ أن تلك المصالح على ثلاثة أنواع: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.

والمصالح الضرورية عرفوها بقولهم أنها تلك ((المصالح التي تتوقف عليها حياة الناس، وقيام المجتمع واستقراره، بحيث إذا فاتت اختل نظام الحياة، وساد الناس هرج ومرج، وعمت أمورهم الفوضى والاضطراب، ولحقهم الشقاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة))[37].

وإذن فهذه المصالح الضرورية هي المقومات الأساسية لوجود المجتمع المستقر الآمن، ولابد من حمايتها والمحافظة عليها إذا أردنا أن نحفظ على المجتمع أمنه واستقراره وصلاحه، وقد حصرها علماء الشريعة في خمسة مقاصد ضرورية، فقالوا: إن مقاصد الشريعة الضرورية هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض والنسل ، وحفظ العقل[38].

وهذه هي الضرورات الخمس التي راعاها الشارع الحكيم أتم مراعاة، ويأتي بعدها في المرتبة: الحاجيات، وهي الأمور التي يفتقر إليها لرفع الضيق والمشقة عن الناس كالرخص الشرعية ونحوها.

ثم مرتبة: التحسينيات، من محاسن العادات ومكارم الأخلاق ونحو ذلك.

والشارع الحكيم راعى الضروريات الخمس أولاً؛ لأن بها قوام الحياة، ولم يراع الحاجيات والكماليات إلا حيث لا تعود على أصل الضروريات بالانتقاص أو الإبطال.

ورعاية المقاصد في تعليل الأحـكام الشرعية هو ما يعبر عنه علماء الأصـول بـ (الإخـالة) و (المناسبة) و (المصلحة)[39].

ومن رام تعليل الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون ملماً بمقاصد الشريعة، ومستحضراً لتلك المقاصد والغايات عند التعليل، ((ليكون تعليله للأحكام موجهاً نحو هذا الغرض بعد أن يسبر ما اعتبره الشارع من العلل الموصلة إلى هذه الغايات))[40].

القاعدة الخامسة: عدم إغفال المصالح الإيمانية عند التعليل بالمصالح والمفاسد:
فكثيراً ما تعلل الأحكام الشرعية بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، وهذا حق فالشريعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((جاءت بتحصيل المصـالح وتكميلها، وتعطيل المفـاسد وتقليلها))[41].

ولكن ما ينبغي التفطن له ومراعاته أن الشريعة لم تعتبر المصالح المادية أو المصالح الدنيوية فقط، ولكنها اعتبرت المصالح الإيمانية أيضاً، ولو أخذنا تحريم الخمر مثلاً، سنجد البعض يتحدث عن أضرار الخمر الصحية ومفاسده الاجتماعية ويسهب في ذلك، ولا يتعرض للمفاسد الإيمانية الحاصلة بسببه، ومثل ذلك تحريم الميسر (القمار) فهو كثيراً ما يعلل بالمفاسد الاقتصادية دون التعرض لما ينتج عنه من فساد في الدين، لكن القرآن في تحريمه للخمر والميسر ذكر المفاسد الناشئة عن الخمر والميسر في الدين والدنيا فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة: 91].

قال الإمام الشوكاني: ((وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الخـمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله: إِ﴿ نَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْـضَاء ﴾، ومن المفـاسد الدينية بقـوله: ﴿ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾))[42].

والفقه يقتضي التفطن لهذه المسألة وعدم الغفلة عنها، قال شيخ الإسـلام ابن تيمية رحمه الله: ((وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها وما ينفعها من حقائق الإيمان وما يضرها من الغفلة والشهوة…

فتجد كثيراً من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم، كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة والقرامطة مثل: أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم…

وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان: أخروية ودنيوية. جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم. وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر. وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته ودعائه وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة))[43].

القاعدة السادسة: لا تعلل الأحكام بالمصالح المتوهمة أو الملغاة:
فقد يبدو للبعض مصالح متوهمة، أو قاصرة تفوت ما هو أعظم منها من المصالح المقصودة للشارع، والشارع الحكيم إنما راعى المصالح الحقيقية التي تتحقق بها مصالح العباد على أكمل وأتم وجه.

ومن الخطأ البين الذي يقع فيه البعض مخالفة أو لي أعناق النصوص لتوافق مصالح متوهمة أو ملغاة؛ ولذلك خطأ المحققون من أهل العلم ذلك الفقيه الأندلسي الذي أفتى أحد الملوك بأن الواجب عليه في كفارة الجماع في نهار رمضان: صيام ستين يوماً، لا يجزئه غير ذلك.

ولما سئل عن فتواه هذه، عللها بقوله: إن الخليفة قادر على العتق والإطعام، ولو أفتيناه بذلك سهلنا عليه، ولكن نشدد عليه حتى يكون في ذلك زجر وردع !

فمثل هذه المصلحة التي رآها الفقيه، وهي زجر الحاكم عن العودة إلى الوقاع في نهار رمضان، وإن كانت في نظر البادئ مصلحة، إلا أنها مصلحة ملغاة لا يصح التعليل بها؛ لأن هنالك مصالح شرعية أكبر منها، وهي: العتق، وإطعام المساكين، وسد حاجة المحتاجين[44].

ثم إن النص قد جاء فيه ترتيب الكفارة ابتداءً من العتق، ثم الصيام لمن لم يقدر على العتق، ثم إطعام ستين مسكيناً لمن لم يقدر على الصيام، ولا يجوز التعليل بما يخالف النص كما سبق معنا في القاعدة الثانية من قواعد هذا البحث.

القاعدة السابعة: لا تعلل الأحكام بالعلل القاصرة:
فلا يخفى أن من المقاصد المتوخاة في تعليل الأحكام الشرعية مقصد تعظيم الحكم الشرعي وإجلاله، وهذا مقصد حسن، ولكن لابد فيه من العلم والبصيرة، فقد سمعنا البعض من ذوي هذا المقصد الحسن يعللون الأحكام الشرعية بعلل قاصرة تؤدي إلى عكس المطلوب من تعظيم الحكم الشرعي وإجلاله وإيجاب الانقياد والخضوع له.

ونحن هنا لا نعني بالعلل القاصرة ما يذكره علماء الأصول من كون العلة غير متعدية، بل الذي نعنيه أن يعلل الحكم الشرعي بعلة اجتهادية مستنبطة قد تكون جزء علة، ولكنها ليست العلة الجامعة والمستوعبة لمقصد الحكم الشرعي. وإن شئت أمكنك القول: أن يعلل الحكم الشرعي ببعض الحِكَم التي لا تنضبط، لا بالعلة التي هي وصف ظاهر منضبط.

ولهذا التعليل صور نذكر منها:
• تعليل البعض لمنع الإسلام المرأة من الولاية العامة بقوله: إن المرأة عرضة للحمل والإنجاب، الأمر الذي سيؤثر على سير أعمال الدولة.

فهذا مثال على ما نعنيه بالتعليلات القاصرة، ذلك أن المرأة ليس لها أن تتولى الولاية العامة حتى لو لم تحمل وتلد،كأن تكون عزباء مثلاً أو عاقراً !

ومسألة الحمل والولادة هنا قد تكون إحدى الحِكم التي تلتمس من تشريع الحكم، والحكمة قد توجد وقد تتخلف كما سبق معنا، لكن الحكم لا يربط بها.

• مثال آخر: حين يقتصر البعض في تعليله لحرمة الزنا بعلة منع اختلاط الأنساب، فهذه إحدى الحِكم، وإلا فالزنا محرم ولو لم يؤد إلى اختلاط الأنساب، كأن تكون المرأة عاقراً، أو تستخدم وسيلة أكيدة لمنع الحمل؛ ذلك أن الزنا جريمة بذاته، وحفظ العرض من مقاصد تحريمه كما الشأن في حفظ النسل، ومفاسد الزنا وأضراره الدينية والخلقية والاجتماعية والصحية لا تكاد تحصر[45].

اقرأ أيضا  هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الأمن والسلام

وإذا كان تعليل الحكم الشرعي بالعلل الكاملة المنضبطة يؤدي إلى استقامة الأحكام الشرعية، ويرسخ في النفوس إجلالها وتعظيمها، فإن تعليلها بالعلل القاصرة يؤدي إلى نتائج معاكسة لذلك، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ما أفقهه حين قرر قاعدة هامة في تعظيم الحكم الشرعي، فجعل تعظيمه يقوم على ثلاث قضايا: أن لا يعارض بترخص جاف، وأن لا يعارض بتشديد غال، وأن لا يحمل على علةٍ توهن الانقياد[46].

وتعليل الأحكام الشرعية بالعلل القاصرة وحدها لا شك أنه من أسباب توهين الانقياد، كما إنه يفتح الباب أمام الطاعنين والمشككين في صلاحية بعض الأحكام الشرعية.

وما يهمنا التأكيد عليه هنا: أن تعليل الأحكام الشرعية يجب أن يكون على أعلى قدر من الضبط والإحكام والإحاطة والشمول، لاسيما حين يأتي التعليل في سياق الذب والدفاع عن الأحكام الشرعية أمام الشكوك والشبهات المثارة حولها.

القاعدة الثامنة: التفريق بين تعليل أحكام العبادات وتعليل أحكام المعاملات:
فمن يتأمل في الخطاب الدعوي المعاصر يرى الحماسة تأخذ بعض الدعاة فينطلق يلتمس التعليلات للأحكام الشرعية بعامة، سواءٌ منها ما كان في جانب العبادات أو المعاملات، فلقد سمعنا كثيراً من يتحدث عن الصيام معللاً له بالفوائد الاجتماعية والصحية، مع إغفال المقصد التعبدي، والغاية العظمى والمصلحة الكبرى المذكورة في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة: 183].

وسمعنا أيضاً من يتحدث عن الصلاة كرياضة جسمية، وكوسيلة لتنظيم الوقت، وعن الحج كمؤتمر سياسي عالمي، وعن الزكاة كضريبة مالية هدفها إقامة التكافل الاجتماعي.. ونحو ذلك من التعليلات التي تتجاوز على المعنى التعبدي، ومعنى خلوص الطاعة والانقياد لله رب العالمين.

والذي نؤمن به وندين لله به: أن الله حكيم، وذو حكمةٍ بالغة، وأن جميع ما شرعه فيه حكمة ومصلحة للعباد.

لكن في مسألة تعليل العبادات ينبغي التفطن لأمرين:
الأمر الأول: أن أكثر العبادات غير معقولة المعنى، دل على ذلك الاستقراء، فالصلاة ـ مثلاً ـ تؤدى على صفةٍ مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادة، وكذلك الأمر في بقية العبادات كالصوم والحج.

والمقرر عند أهل العلم أن الحكمة العامة في العبادات هي التذلل والانقياد لأوامر الله والخضوع له سبحانه وتعالى. ولذلك فالأصل في تعليل العبادة أن تعلل بالطاعة والانقياد والتسليم لله رب العالمين، ورجاء ما عنده من الثواب، ولا يتكلف لها تأويلات بعيدة.

قال الإمام العز بن عبد السلام: ((المشروعات ضربان:
أحدهما: ما ظهر لنا انه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة… ويعبر عنه بأنه معقول المعنى.
الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد… ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد، ثم يقع الثواب عليها بناءً على الطاعة والإذعان، من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب، ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان، فيحصل من هذا أن الثواب قد يكون على مجرد الطواعية من غير أن تحُصل تلك الطواعية جلب مصلحة أو درء مفسدة سوى مصلحة أجر الطواعية))[47].

والأمر الثاني: أن التعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد بما تعرف حكمته؛ لأن العبادة مبناها على التذلل والخضوع والانقياد والتسليم، وكون الإنسان يمتثل لأمر الله مع عدم معرفته بالحكمة فذلك أبلغ في الدلالة على كمال العبودية والتذلل[48].

وختاماً أسأل المولى القدير أن يجعل فيما كتبته علماً نافعاً، ونوراً هادياً، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

________________________________________
[1] انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية: منهاج السنة النبوية ،ط 1 (دار الكتاب العلمية، بيروت، 1420هـ) 1/ 394، الإمام ابن القيم: مدارج السالكين ط1(دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت) 1/ 438-442، ابن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية ط1 (الدار الإسلامي عمّان 1419هـ) ص 254-262، د. عبد الرحمن المحمود القضـاء والقـدر ط2 (دار الوطـن، الرياض، 1418 هـ) ص 242، وانظر تنبيه العلامة الشنقيطي في كتابه: مذكرة في أصول الفقه، ط1 (دار البصيرة، الإسكندرية، د.ت) ص 301-302.
[2] د. عبد الكريم زيدان: الوجيز في أصول الفقه، ط 7 (مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420 هـ) ص 203.
[3] عبد الرحمن عبد الخالق: البيان المأمول في علم الأصول، (ط دار الإيمان، الإسكندرية، د.ت) ص 152، محمد الخضري بك: أصول الفقه، ط1 (دار القلم، بيروت 1407هـ) ص 329-332.
[4] عبدالوهاب خلاف: علم أصول الفقه، (دار الفكر العربي، مصر 1416هـ)، ص 65.
[5] د. زيدان: الوجيز في أصول الفقه، ص 203، عبد الرحمن عبد الخالق: البيان المأمول، ص 152-153.
[6] الخضري بك: أصول الفقه، ص 298.
[7] محمد الأمين الشنقيطي: نثر الورود على مراقي السعود، ط1(المكتبة العصرية، بيروت 1425هـ) ص 311.
[8] د. زيدان: الوجيز في أصول الفقه، ص 203-204.
[9] وقد أوصلها بعضهم إلى عشرة مسالك، وفي إرشاد الفحول ذكر الإمام الشوكاني أحد عشر مسلكاً ، لكن حاصل هذه المسالك يرجع عند التحقيق إلى النص أو الإجماع أو السبر والتقسيم.
[10] د. زيدان: الوجيز في أصول الفقه، 212.
[11] متفق عليه، انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: 1393.
[12] جمال الدين الأسنوي: نهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، ط1(دار ابن حزم، بيروت 1420هـ) بتحقيق د. شعبان محمد إسماعيل، 2/ 851.
[13] عبد الرحمن عبد الخالق: البيان المأمول، 159.
[14] محمد الأمين الشنقيطي: مذكرة في أصول الفقه، ص284.
[15] جاء هذا النهي في أحاديث كثيرة، منها حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه، انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: 1021.
[16] عبد الرحمن عبد الخالق: البيان المأمول، ص 163.
[17] قال الإمام الشوكاني: ((وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات فيقال: لها السبب والأمارة والداعي والمستدعي والباعث والحامل والمناط والدليل والمقتضي والموجب والمؤثر)) إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، (دار الفكر، بيروت 1412 هـ) ص 352.
[18] عد بعض الأصوليين تنقيح المناط من مسالك العلة، وقال الرازي: هو نفس السبر والتقسيم، والتحقيق إثبات الفرق بين تنقيح المناط، وبين السبر والتقسيم، من حيث إن السبر والتقسيم مسلك يتوصل به إلى تعليل الحكم الشرعي، وأما تنقيح المناط فليس مسلكاً للعلة، وإنما هو مسلك لتهذيب وتخليص العلة المنصوصة مما اقترن بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية، وبعبارة أخرى: إن السبر والتقسيم يكون حيث لا يوجد نص يدل على العلة، وأما تنقيح المناط فيكون حيث يوجد نص يدل على العلة،. انظر: الإمام الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 329، وعبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه، ص74-75.
[19] رواه البخاري: 2460، ومسلم: 6333.
[20] الإمام ابن القيم: مفتاح دار السعادة (دار الكتب العلمية، بيروت،د.ت) 2/ 22-23.
[21] الشنقيطي: نثر الورود، ص 416.
[22] رواه البخاري: 5445.
[23] الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1(دار المنار، القاهرة، 1419هـ) 10/ 297.
[24] محمد بن أحمد السرخسي: أصول السرخسي، ط 1(دار الكتب العلمية، بيروت 1414هـ) 2/ 161.
[25] علي بن محمد البزدوي: كنز الوصول إلى معرفة الأصول (أصول البزدوي) (ط مير محمد، كراتشي، د.ت) ص 259.
[26] العلامة الشنقيطي: مذكرة في أصول الفقه، ص 363.
[27] المرجع السابق، ص 365.
[28] رواه مسلم: 252.
[29] محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب: عون المعبود شرح سنن أبي داود، ط2 (مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1412هـ) 1/ 75.
[30] محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (دار الفكر، بيروت 1415هـ) 1/ 94.
[31] انظر: الإمام النووي: المجموع شرح المهذب، (ط دار الفكر، بيروت، د.ت) 6/175، 178، د. مصطفى الخن، وآخرون: الفقه المنهجي، ط2(دار القلم، بيروت 1407)، 2/ 33-34.
[32] محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: سبل السلام، ط4 (دار الكتاب العربي، بيروت 1407هـ)،1/86.
[33] الإمام الشوكاني: إرشاد الفحول، 1/ 304.
[34] الإمام السرخسي: أصول السرخسي، 2/146.
[35] انظر مثلاً: جمال الدين الأسنوي: نهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، 2/ 765- 767.
[36] الشنقيطي: نثر الورود، ص 287- 288، الخضري بك: أصول الفقه، ص 271-272.
[37] د. زيدان: الوجيز في أصول الفقه، ص 379.
[38] انظر: الإمام الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، ت. محمد عبد القادر الفاضلي، ط1 (المكتبة العصرية، بيروت 1423هـ)، 2/ 7-8.
[39] الإمام الشوكاني: إرشاد الفحول، 1/ 319.
[40] الخضري بك: أصول الفقه، ص 304.
[41] شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى 1/ 265.
[42] محمد بن علي الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ط2 (دار الوفاء، المنصورة 1418هـ) بتحقيق د. عبد الرحمن عميرة، 2/ 150.
[43] شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى 32 / 234، باختصار .
[44] انظر: الشاطبي: الاعتصام 2/ 98، الشوكاني: إرشاد الفحول: 1/ 322، الشنقيطي: المذكرة، ص 282.
[45] انظر: سيد سابق: فقه السنة ط 7 (دار الكتاب العربي، بيروت 1405هـ) 2/ 401-402.
[46] الإمام ابن القيم: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب ط2 (دار البيان، دمشق 1408هـ) ص 13.
[47] أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ط2(مؤسسة الريان، بيروت 1419هـ) ص 19، باختصار.
[48] محمد بن صالح العثيمين: القول المفيد على كتاب التوحيد، ط1 (مؤسسة الرسالة، بيروت 1419هـ) 1/ 535.
الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.