قيام العلماء والدعاة بواجبهم وتوحيد الصف المسلم

السبت 13 ربيع الثاني 1437//23 يناير/كانون الثاني 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
معالم تأهيل الأمة الإسلامية لمرحلة القيادة والخلافة الإسلامية
قيام العلماء والدعاة بواجبهم وتوحيد الصف المسلم
نضع بعض المعالم والإشارات التي نحسب أنها تؤهل الأمة الإسلامية للسير حثيثًا نحو إقامة حكم الله في الأرض، والتمكين لدينه.

وأستطيع هنا بداية أن أقف مع مكانة العلماء والدعاة ودورهم الكبير في توحيد الصف المسلم، وتجميع جهود الأمة الإسلامية التي شتتها الأهواء والبدع، وحب الرئاسات، والحزبيات البغيضة، ومن جانب آخر اللهث وراء الغرب، والتقليد الأعمى خلف ما سموه حضارة وتقدماً. وهنا نقول ماذا يعني قيام العلماء والدعاة بدورهم في بناء جيل التمكين؟ وماذا يعني توحيدهم للصف المسلم؟ نبرز هذا في نقاط سريعة:
1- حفظ مكانة العلماء والدعاة إلى الله تعالى وإجلالهم: نعم يجب أولاً على الأمة الإسلامية حفظ مكانة أهل العلم والدعاة إلى الله تعالى، لأن العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم والدعوة، وورثوا الصلاح والهدى، ولا يمكن للأمة أن تتحرك بدون علمائها ومشورتهم وقولهم.

وكم رأينا ثبات الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله أمام فتنة القول بخلق القرآن، وأمام علماء السوء الذي زجوا به وبأمثاله من أهل العلم إليها، ومع ذلك صبر على هذه الفتنة العمياء، لأنه لو زل وهو صاحب الكلمة الصواب، والرأي المسموع، لزل خلفه عالم كثير، فالعالم دوره كبير في نصرة الحق، وخدمة الدعوة، والحركة لها، وكم وقف العلماء في وجه الطغيان، ينصرون الحق، ويجاهدون في سبيل الله تعالى، والتاريخ مملوء بذكر آثارهم وثمار صدقهم وجهادهم.

لقد رفع الله تعالى من منزلة العلماء كما قال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]وقال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9] وبين أن العلماء أكثر الناس خشي لله تعالى فقد قال جل شأنه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ولم يأمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – في الاستزادة من شيء إلا العلم قال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114] واستشهد بهم سبحانه في اجل مشهود عليه وهو توحيده فقال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
“وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه:
أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر.

والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته.

والثالث: اقتران شهادتهم بشهادة ملائكته.

والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فإنّ الله تعالى لا يستشهد من خلقه إلا العدول”.
والأحاديث الشريفة طافحة بذكر فضل العلم وبيان فضل العلماء نذكر منها حديث معاوية: “من يرد الله به خيرا يفقه في الدين” متفق عليه، ومنها حديث أبي هريرة: “ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة” رواه مسلم، ومنه حديث أبي أمامة: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ” ثم قال – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير”. رواه الترمذي.

فالآيات والأحاديث تبين فضل العلماء وخطورة القدح فيهم لأن لحومهم مسمومة فمن تكلم فيهم فقد هلك بتعريضه نفسه لغضب الله تعالى ففي الحديث القدسي: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب….” الحديث. رواه البخاري والعلماء بلا شك من أولياء الله تعالى،قال الإمامالطحاوي في عقيدته المختصرة: “وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غيرالسبيل”. فحال الأمة مع هؤلاء العلماء والدعاة إلى الله تعالى حفظ مكانتهم، مع إجلالهم ومتابعتهم فيما وافقوا فيه الحق بدليله من الكتاب والسنة.

ولكن نرى على الجانب الآخر ممن لا يريدون لدعوة الإسلام أن تسمع، ولا أن يهتدي إليها الناس، يقفون موقف التنقيص والتشويه وإثارة الشبهات، حول هذه الكواكب المنيرة، والنجوم الزاهر، ورثة ميراث النبوة، وحملة راية العلم والإصلاح، ويقولون هؤلاء العلماء لا يصلحون لشيء من السياسات، ولا يعيشون إلا مع الكتب والأوراق، ولا يعلمون أحداث الواقع، ولا يفقهون الدوامات السياسية ولا الاقتصادية، فهم مع أنفسهم وكتبهم، وبين أطباق الطعام يتنقلون، وفريق آخر ينظر إليهم بعين السخط والبغض، لأنهم صاروا من المقربين إلى ذوي الملك والسلطان، وصارت فتاواهم وأقوالهم توافق هوى الحكام والساسة.

وهؤلاء العلمانيون والمنافقون يأتون كل يوم بالشبهات حول الدعاة إلى الله تعالى، وأنهم أصحاب دنيا وشهرة، وأنهم لا يجيدون إلا لغة الصياح على المنابر، في حين أنهم يرون أنفسهم من المثقفين والمتنورين غير ذلك، فتلك النظرات والاتجاهات من الاتجاهات ساهمت كثيراً في تشويه صورة ومكانة أهل العلم، إضافة إلى المنتسبين إليهم دون فهم ولا علم ولا بصيرة.

ولكن كل هذا ينبغي أن يطرح جانباً، لأن جل هؤلاء لا يمثلون شيئاً من حجم الدعاة والعلماء الربانيين والصادقين، السائرين على منهاج العلم والنبوة، نعم هناك أخطاء وزلات، نعم هناك أهواء وهفوات، نعم هناك جهل وتقصير، نعم هناك حب الجاه والسلطان، ولكن هذا لا يعني تعميم الأحكام، ولا تضييع المكانة السامية لأهل العلم التي رفعهم إليها ربنا سبحانه وتعالى.

إن الأمة تقع في الضلال والفتن والبدع إذا لم يقودها العلماء الربانيون، إن الأمة تخنع للطغاة والظالمين إذا لم يصدع العلماء والدعاة بكلمة الحق في وجوه الطغاة والظالمين. وإن الأمة تموت وتفنى يوم أن يُحقر العلم وحملته ودعاة الحق، وكم قرأنا وأدركنا مكانتهم يوم أن جاء التتار بالدمار.

ويوم أن جاء الصليبيون بخيولهم وأذنابهم، تصدى العلماء وقالوا كلمة الحق، وحثوا الناس على رفع رايات الجهاد في سبيل الله تعالى، واسترداد مقدسات المسلمين.

اقرأ أيضا  لماذا ربط الله تعالى رمضان بالتقوى؟

وهل وقف اليوم بأمر الله تعالى وحده في وجه الطغيان الصليبي الغربي والصهيوني على العالم العربي والإسلامي إلا العلماء والدعاة إلى الله، لقد أذن الله لمسيرة دعوة الإسلام أن تعود من جديد، ولولا أن الله غالب على أمره، لضاعت القدس وفلسطين وكل العالم الإسلامي من أول يوم دخل فيه اليهود وغيرهم إلى ديار المسلمين، فلتجتمع الأمة من جديد حول علمائها، وليكونوا هم من يقود دفة الدعوة ومسيرتها، وإلا فلا خير في أمة لا تعرف قدر علمائها ودعاتها.

2- بيان الحق والعلم والنصيحة للمسلمين: نعم يجب على أهل العلم بيان الحق والعلم الذي أمر الله تعالى ببيانه ورسوله، وعدم كتمان هذا العلم ما دام من كتاب الله وسنة رسوله، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

كما أن تبيينهم للحق والعلم منهج النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبهذا جاء القرآن كما قال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

كما أنه وظيفة جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: 4]. وفي السنة النبوية النصوص الكثيرة الدالة على وجوب بيان الحق للناس كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “بلغوا عني ولو آية”، فالتبليغ للعلم أمر واجب على أهل العلم الذين حملوا هذا الأمانة وهذه التبعة الثقيلة، وإلا نزل بهم عقاب من الله تعالى كما قال عز وجل في كتابه عن بعض بني إسرائيل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]، وكما قال تعالى عن هذا الذي أضاع العلم والهدى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾[الأعراف: 175]. كما أن بيان الحق للناس يعني أن يعلم الناس حق الله تعالى عليهم، وحقهم عليه سبحانه وتعالى، وقيامهم بحق التوحيد والعبودية له دون من سواه من سائر المخلوقات والحيوانات.

فالناس يقعون في براثن الشرك والضلال، وفي شباك الوثنية والكفر، إذا لم يتكلم أهل العلم بما علمهم الله تعالى من كتابه وسنة رسوله.

والناس يعبدون القبور، ويطوفون بها، ويذبحون عندها، ويعظمون أهلها أعظم من تعظيمهم لرسل الله تعالى، إذا لم يعلموا أن هذا أمر مخالف لفطرة العبودية، الضاربة في أعماق كل إنسان، وأنه لا أحد يملك ضراً ولا نفعاً، ولا تصريفاً ولا تدبيراً في الكون مع الله.

والناس يعظمون الأقطاب والأولياء ويرفعونهم فوق الرسل والأنبياء إذا لم يعلموا أن هذا من الضلال والزيغ عن الهدى والحق والتوحيد.

والناس لا يعلمون أحكام الشريعة والشعائر، من الوضوء والتيمم، والصلاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، والصدق، والصبر، والإخلاص، وأداء الأمانات، وصيانة الحرمات، وسائر البيوع والإجارات، والمعاملات، إذا لم يبين لهم أهل العلم ذلك ويفقهونهم في دينهم.

والناس يأكلون الحرام بجميع أشكاله وصوره من الربا والغش والظلم والتطفيف في الموازين، والكذب والاحتيال، وغيرها كثير، إذا لم يبين أهل العلم ذلك.

والناس يقعون في الأعراض، ويهتكون الحرمات، ويقعون في الزنى والفواحش واللواط، وتنحط أخلاقهم، وتذهب رجولتهم ومروءتهم، إذا لم يبين ذلك أهل العلم..

والناس يتفرقون جماعات وأحزاب متفرقة، وتتشتت جهودهم ودعوتهم، وينحرفون عن مسار رسالتهم وغايتهم، إذا لم يبين لهم أهل العلم الحق بدليله.

والناس يلهثون وراء كل غربي وشرقي مخالف لشريعة الإسلام، من القوانين الوضعية، والأفكار العلمانية، والتيارات المذهبية، والأفكار الوجودية، والإباحية، والإلحادية، إذا لم يتكلم أهل العلم ويبنوا للناس الحق المنزل من عند الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم.

والناس يخنعون للطغاة والظالمين، ويركنون للحكام الظالمين، ويستخرجون من العلم الذي معهم ما يوافق أهواء حكامهم الظالمين، إذا لم يبين أهل العلم الحق والشريعة.

إن على أهل العلم والدعاة جهد كبير، وجهاد واسع ميدانه، قليل فرسانه، فالواجب على كل عالم بكتاب الله وسنة رسوله، ألا ينزوي ويضعف أمام أهل الظلم، فإن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، يجهر بها لوجه الله تعالى، لا يخاف في الله لومة لائم. وألا يكتم شيئاً من العلم وبيان الحق، وبيان المنهج السديد، والطريق إلى إقامة الأمة المسلمة من جديد.

3- حمل أمانة العلم والدعوة إلى الله تعالى: كما يعني قيام العلماء والدعاة بواجبهم أن يتحركوا بهذه الدعوة المنيرة بين الناس، فإن الواجب على العالم الذي حمل أمانة العلم والدعوة، ألا يركن إلى زهرة الدنيا، ويجعل الدعوة جانباً مهملاً في حياته، كلا، بل عليه أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته، ومدن قطره، يبلغ دعوة الإسلام.

انظر مثلاً كيف كانت رسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها وقال: “لا أزيد عليهن ولا أنقص” كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي – صلى الله عليه وسلم -: “يا محمد: أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟” رواه مسلم. أتاهم رسوله داعيًا، وكذلك الناس تُؤتى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية، ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي – صلى الله عليه وسلم – لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد، ليبلغ دعوة الإسلام. وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لابد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم، ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وقلدهم، تصل، وإلا، فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه…

اقرأ أيضا  الميل إلى حسن الظن بالناس

ويروي لنا التابعي الكوفي الفقيه النبيل عامر الشعبي، أن رجالاً “خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالو: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد، فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا”.

كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر، سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله. لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس، فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجئ الناس إليه في مسجده أو بيته، فإن الأيام تبقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب.

وجاء في التعريف والترجمة بموسى بن حزام شيخ البخاري والترمذي: “إنه كان ثقة صالحًا، لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل، فانتحل السنة، وذب عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين، حتى مات” [1].

4- العمل على توحيد الصف المسلم وجهود الأمة الإسلامية: كما يعني قيام العلماء والدعاة بواجبهم، العمل على توحيد الصف المسلم، وتحقيق الأخوة الإيمانية، وأعني به توحيد جهود العاملين للدعوة ونصرة الإسلام، لأنهم هم المعنيون أولاً وأخيراً، لأن جمهور المسلمين اليوم صاروا أتباعاً وجلهم على التقليد، إلا من وقف على شيء من البحث والعلم وأقوال العلماء. فنحن نرى بسبب التفرق والوقوع في دائرة الاختلاف السائغ وغير السائغ، متابعة للجماهير بحسب ما غلب عليه الظن أنه الحق، فترى جمهوراً مع جماعة وآخر مع أخرى وهكذا.

فالمقصود أن يقوم الدعاة والعاملون للإسلام بتوحيد صفوفهم، ونزع الحقد والحسد والبغضاء من قلوبهم، وأن يحققوا أخوة الإسلام والإيمان كما ينبغي، وأن يقفوا وقفة رجل واحد يريد الحق والإسلام، لأن الاختلاف والتفرق كما نراه الآن أظنه هو العقبة الكبرى أمام إقامة خلافة الإسلام ونصرة المسلمين.

لماذا؟ لأن الحكام والظالمين نعم هم عقبة كبيرة في مسيرة الدعوة والتوحد، لكنها عقبة زائلة بزوال أسباب إيجادها، فالله تعالى ما سلط هؤلاء على الأمة والتحكم فيها إلا يوم أن تحول بأس الأمة فيما بينها، فصار الاختلاف والتفرق والشحناء والحسد، والتزكية للنفس والمنهج ولو كان على غير سنة، فسلط الله علينا هؤلاء بسبب عدم اتباعنا لكتاب الله وسنة رسوله، وهذا حق لا يماري فيه إنسان فضلاً عن متابع للكتاب والسنة.

كما أن الجماعات والدعوات اليوم كل منها يريد أن يصل أولاً قبل الآخر، بل ويرى نفسه جديراً بالوصول قبل إخوانه العاملين معه، فهو يرى من نفسه صاحب باع طويل في الدعوة، وتجربة كبيرة أيضاً.. إلخ. ومع وجود عقبة الحكام الظالمين كثيراً، لكنها عقبة تذوب وتتلاشى أمام وحدة الصف المسلم، ووحدة الدعاة بصدق وإخلاص للحق وتجرد، كما أمرنا ربنا بقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وكما قال ابن القيم رحمه الله: “لا تظن أن العدو غلب ولكن الحافظ أعرض”.

إن الدعاة والعلماء إذا توحدت جهودهم ودعوتهم، فلن يقف في وجههم شيء بأمر الله، لأنهم عندها يد واحدة، ويد الله مع الجماعة، ولأن الجماهير ستكون معهم تؤيدهم وتنصرهم بهذا الدين بحب ومتابعة وشغف للعدل والسلام، ولكن هنا ستظهر أمامنا عقبات كبيرة، إذ كيف تتوحد هذه الدعوات والجماعات، وهي ترى نفسها أجدر وأحق بالتقدم والفهم والقيادة. وكيف تتوحد وهي ترى نفسها أدق فهما، وأقدر على فهم واقع الأمة وحدها دون غيرها من الدعوات. بل ولربما ترى نفسها أولى بالخلافة والحكم، والمتأمل في جل هذه الاختلافات يجدها ترجع بالجملة إلى أمرين:
الأول: الجهل بحقيقة الدعوة وأصولها ومتابعة النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته رضي الله عنهم، وقد تعجب من هذا وتقول: وهل أحد اليوم يجهل حقيقة الدعوة وأصولها، بعد هذا التعدد الدعوي والفكري واختلافاته، والجواب نعم؟

لأننا بينا وأشرنا وأكدنا مراراً، على أصل كبير في طريق الدعوة الإسلامية، أكثر الدعاة والعاملين اليوم لا يلتفتون إليه مع أنه من أجل الأصول وأكبرها، وهو الأصل الوحيد بعد الكتاب والسنة الذي لو حققته الجماعات والدعوات، لرفع محل الخلاف والشقاق والنزاع بينهم، ولتوحدت صفوفهم، هذا الأصل يكمن في متابعة الصحابة والسلف الأول قبل كل شيء، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – نص على ذلك بقوله: “فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً.. ثم قال. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.. الحديث” وقوله أيضاً: “الجماعة ما أنا عليه وأصحابي”.

نعم فإن منهج السلف هذا هو الإسلام بصفائه وشموله. وما الجماعات الدعوية العاملة اليوم إلا دعاة إلى هذا المنهج. فلا يظنن ظان أن دعوته بديلاً عن منهج السلف أو مغايرة له. كلا.

إنما الواجب أن تكون كل الدعوات إلى هذا المنهج فحسب. فاختلاف الدعاة الآن في صورة فهمهم لمنهج السلف وطرق تطبيقه، فمن هنا يزعم كل فريق الصواب والمتابعة دون غيره، مع قرب أو بعد، في صحة هذه المتابعة أو خطأها.

فالدعوات السائدة لا ينبغي أن تكون بديلاً عن منهج السلف، وإنما يجب أن تكون إليه لا إلى غيره ولا إلى نفسها، هذا هو الذي تخبطت فيه بعض الدعوات اليوم، ولم تقف على حقيقة المتابعة لهذا المنهج.

اقرأ أيضا  تأملات في حديث اتق الله حيث ما كنت

ومن جهل هذا الأصل الكبير فإن في دعوته قصور وخلل، أولاً لما أشرنا إليه، وثانياً لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرنا عند وقوع الاختلاف والتفرق في الأمة، وخروج الفرق النارية كذلك أن نلزم جماعة المسلمين التي وصفها بقوله: “الجماعة ما أنا عليه وأصحابي”.

فالمتأمل ببصيرة وفهم، يعلم جيداً الطريق الذي رسمه النبي – صلى الله عليه وسلم – لأمته عند وقوع الافتراق والاختلاف. ولست إلى اليوم أدري..لماذا يختلف العاملون في الدعوة ومنهجها، وقد بينه الرسول هنا أشد بيان؟ لعلي أقول إذاً إنه اتباع الهوى، ومجاراة النفوس على التحزب البغيض، والموالاة لغير الكتاب والسنة، ولكن نحسن الظن بإخواننا إن شاء الله.

الثاني: اتباع الهوى مع بعض العلم المجاري لهذا الهوى في القلب، فهذه العقبة الخطيرة من أعظم التحديات التي تواجه الحركة الإسلامية في هذه الظروف الحرجة، وما يقع من فصائل العمل الإسلامي خير شاهد على ما نقول، وهذا واقع مر لا يغفل عنه إلا من حبس نفسه في مكتب مكيف أو جلس يُنَّظرُ للحركة من برج عاجي!

فما زلنا نرى من أبناء الحركة الإسلامية من إذا تكلم عن جماعته التي ينتمي إليها ويدعو لها تغاضى عن جميع أخطائها ولو بُين له ذلك بالدليل من القرآن والسنة الصحيحة، وعارض نور الضُحى بنور السُّهى وظل يبرر ويبرر حتى تصل أخيراً هذا الأخطاء – أحياناً – إلى محاسن! فجماعته هي جماعة المسلمين، وهى وحدها التي على الحق وما عداها من الجماعات فهي على الباطل، وكل ما تفعله جماعته فهو شرعي وكل ما يصدر عنها فهو الصواب، وكل تاريخها أمجاد، وكل رجالها وقادتها ملائكة!فإن تحدث عن شيخه أو أميره في الجماعة، بالغ مبالغة كبيرة، فشيخه هو الأوسع علماً، والأقوى حُجة، والأنصع دليلاً، وإن قال شيخه قولاً صار حجةً لا ينبغي أن تناقش، وإن أفتى شيخه فتوى صارت مُلزمةً لا ينبغي أن تُرد، بل وقد يوالى ويعادى إخوانه عليها، علماً بأن الله تعالى ما تعبدنا بقول فلان أو فلان من العلماء والأئمة كلا، إنما تعبدنا بما جاء في القرآن الكريم وما صح عن رسوله الأمين – صلى الله عليه وسلم -، وكل عالم أو إمام يؤخذ منه ويُرد عليه إلا المعصوم – صلى الله عليه وسلم -، فهو وحده الذي يؤخذ منه ولا يرد عليه ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾[النجم: 3،4].

ومن أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية– طيب الله ثراه – قوله:
“وصاحبُ الهوى يُعميه الهوى ويصمٍّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه ولا يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السَّنة، وأنه الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه، هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليُعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يَّدعى الحق والسنة هو كنظيره، ومعه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة!”. وهذه العقبة الخطيرة – اتباع الهوى – تحتاج من الدعاة إلى صبر طويل وإلى جهاد مرير لهوى النفس وشهواتها والاستعلاء على رغباتها طاعة لله وطمعاً فى رضاه. وهذا لا يكون إلا بالتجرد والإخلاص والعمل ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، بغض النظر على لسان من أُعلنت كلمةُ الحق ما دامت كلمةُ الحق ستقال، وبغض النظر عن من الذي سيرفع راية الإسلام ما دامت راية الإسلام ستظل مرفوعة خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء، وبغض النظر عن مكاننا على طريق الدعوة هل هو في مكان الصدارة والقيادة أم هو في المؤخرة بين صفوف الجنود ما دام عملنا على طول الطريق خالصاً لله جل وعلا [2].

فالمقصود: أن هذين الأمرين: الجهل واتباع الهوى هما أشد العقبات على تنوعها، أمام توحيد الصف المسلم لمواجهة الطغاة والظالمين في الداخل والخارج، فطريق النجاة وتوحيد الأمة والدعاة يرجع بعد كل هذا إلى:
1- رفع الجهل من النفوس والمناهج بحقيقة الدعوة وأصولها وفق الكتاب والسنة، ومتابعة السلف الصالح، ومتابعة أهل العلم في بيان ذلك.

2- الاتفاق على أن منهج السلف هو المنهج الإسلامي الوحيد الذي يحتوى في أصوله ومبادئه، أصول توحيد الأمة والصف المسلم، كما أنه يدعى إليه لا إلى غيره. فنحن ندعوا إلى الأصيل لا إلى البديل عنه، وكما جاء: “ومن شذ شذ في النار”، فيجب على الأمة اتباعه دون تذبذب أو التواء.

3- التجرد والإخلاص، وترك متابعة الأهواء والنفوس والمناهج التي تخالف الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.

4- توحيد الهدف والغاية من كل هذه الدعوات، بأن يكون تحكيم شريعة الله في الأرض، وتعبيد الناس لهذا الشرع الذي هو تعبيد لهم لله وحده دون من سواه من البشر والقوانين والطواغيت.

5- ثم تربية الجيل المؤمن على ذلك، وكما أشرنا من قبل، عندها لن يتأخر وعد الله لنا بالنصر والتأييد والتمكين كما قال تعالى: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].

________________________________________
[1] علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدم.
[2] خواطر على طريق الدعوة. محمد حسان (127-129).
-الألوكة-