كيف ستتبدل أولويات الدول تجاه إسرائيل بعد كورونا؟

بشار طافش

كاتب ومدون أردني

منذ أن بدأتُ في الاهتمام بظاهرة الاحتباس الحراري عام 2011 حتى غدوتُ ناشطاً في هذا المجال، مُذَّاكَ وأنا تخامرني فكرة كانت قد خطرت لي وأنا أتابع بحُرقة بالغة حجم الكارثة البيئية التي سببتها هذه الظاهرة، والتي ستتجه بالبشيرية جمعاء نحو النهاية الحتمية، تمحورت هذه الفكرة حول تساؤل مؤداه، هل ستكون هذه الظاهرة بمثابة هزة هائلة للبشرية ترغمها على الصحوة من غفلتها أخيراً، فتتبدل الحياة على كوكبنا الوحيد إلى الأفضل؟ وكنتُ أعتقد بأن هذا التبدل لن يكون فقط على المستوى البيئي، بل أيضا على المستوى الإنساني الذي بات في الحضيض رغم التحضر الذي بلغته البشرية، لكن للأسف الشديد كنتُ مخطئاً، فرغم الهزة التي أحدثها التغير المناخي إلا أنه لم يكن هناك ثمة صحوة للبشرية بعد.

سألتُ نفسي طويلا، هل تحتاج البشرية ما هو أخطر من هذه الظاهرة كي تصحو من غفلتها؟ وبالفعل شاء القدير بأن يحدث ما هو أخطر، وهي كارثة فيروس كورونا المستجد، في الحقيقة لا يمكن أن تكون كارثة كورونا أخطر من كارثة الاحتباس الحراري، غير أن خطورتها تكمن بسرعة القضاء على البشرية، لم تكن رحيمة وصبورة كسابقتها، هنا تبدلت لديّ المعتقدات حول هذه الهزة التي ستوقظ البشرية من غفلتها أخيرا، نعم كانت البشرية بحاجة إلى هزة أشرس وأخطر وأسرع في نتائجها المدمرة كي تصحو، فكانت هزة كورونا، وليس هزة الاحتباس الحراري كما كنتُ أعتقد، لا أخفيكم أعزائي أنني ربما أكون أنا الوحيد على سطح هذه البسيطة الذي نظر من زاوية التفاؤل تجاه كارثة كورونا التي حلت على كوكبنا، لأنني أعتقدُ بأنها ستُعيد البشريةَ مرغمةً إلى جادة صوابها كما لم تفعل كارثة التغير المناخي من قبل.

فالبشرية المتحضرة لم تكتفي بأنها لا تزال تدعم كلاً مِن الكيان الصهيوني الأبهارتايد، والأنظمة الدكتاتورية العربية والأفريقية واللاتينية، التي استهلكت قدرات شعوبها ومقدراتها، لم تكتفي بصناعة الحروب التي قتلت ملايين الأبرياء، لم تكتفي بغضها الطرف عن المجازر التي ارتكبها الخمير الحمر في كمبوديا، أو الإضطهاد الذي تعرض له المسلمون في إفريقيا الوسطى وبورما والصين والهند، لم تكتفي بغضها الطرف أيضا عن التطهير العرقي في رواندا لأقلية التوتسي، بل ذهبت هذه البشرية المتحضرة لما هو أبشع بكثير، ذهبت لأن تعمل على تحويل الإنسان عن طبيعته الفطرية فشجعت على الشذوذ في محاولة أخيرة منها لقلب كل موازين الوجود، لذلك كانت كارثة كورونا رحيمة بالمقارنة بفسق واستهتار البشر المتحضرين بالطبيعة وبالقوانين الإلهية التي حكمت وتحكم الكون كله بما فيه نحن البشر، فما زال هناك متسع كبير من الوقت تركته لنا تلك الكارثة للنتعلم منها، وإلا لأمر اللهُ القدير جنوداً له أشدُّ فتكا وأسرع من كورونا هذه، فتأتي على البشرية كاملة دون سابق إنذار فنصبح كفرعون الذي آمن بينما كان يغرق في الطوفان الهائل.

اقرأ أيضا  ماليزيا تدين الهجوم الصاروخي على مكة

انهيار اقتصادي فانتعاش سريع

لا نريد أن نضعكم الآن على متن تحليل اقتصادي بياني هائل، الأمر بسيط للغاية صراحة حسب اعتقادي، الكل يعلم أن الاقتصاد العالمي ككل متوقف الآن مِن القطاعات الضخمة حتى أصغر دكان في حيِّكم، كله مغلق لأجلٍ غير معلوم، وهذا له تبعات مدمرة على الاقتصادات، البعض شبَّه هذه الحالة بحالة، الكساد العظيم، التي حدثت بين عامي 1929 و1934.

غير أنني أختلف مع هؤلاء لسبب بسيط ومُطَمئِن حقيقية، ألا وهو أن الكساد الحالي الذي بدأت تظهر بوادره جراء حالة الركود الهائلة هذه، لن تشمل كثير من القطاعات التي لها تأثير كبير على الاقتصاد المحلي والعالمي مثل قطاع تكنولوجيا المعلومات، فهناك ملايين البشر يعملون حاليا من منازلهم ونقلوا مكاتبهم إلى غرفِ نومهم، مثل قطاعات التجارة الألكترونية، والإعلام، وموظفي الإدارة والموارد البشرية في مجالات الضيافة والطيران والخدمات اللوجستية، وكذلك معلمي المدارس من خلال التعليم عن بعد، هؤلاء الموظفين سيستمرون في تقاضي رواتبهم، وفي النهاية سينفقونها على معيشتهم وعلى شتى المجالات الأخرى التي ستولد في النهاية قِيَم مضافة كبيرة تنعكس على باقي القطاعات الاقتصادية الأخرى، فيتولد الطلب من جديد خالقاً بذلك أنواع جديدة من العرض، سواء على العمالة والوظائف أو على السلع والخدمات الأخرى، وهذه العمالة ستتقاضى بدورها رواتب وهكذا دواليك، الأمر سيكون كذلك أعزائي بعيداً عن التحليلات الاقتصادية المعقدة كما أخبرتكم، وهو ما يجعله يختلف اختلاف كلي عن أزمة الكساد العظيم مطلع ثلاثينيات القرن الفائت.

لكن لا يمكن لنا بأن لا نعتقد بأن كساد هذا القرن سيؤثر بشكل خطير للغاية على كثير من القطاعات الاقتصادية الصغيرة والضخمة كذلك كقطاع النفط والطيران والسياحة، لكنه سيكون أقل حدة من الكساد الفائت مع فارق كبير، هو أن سرعة حدوث الانكماش هذه المرة ستكون كبيرة يقابلها سرعة انتعاش أكبر، وذلك راجع لذات الأسباب البسيطة التي ذكرتُها آنفا وأضيف عليها أيضا المعلوماتية الهائلة وسرعة تدفقها التي تملكها البشرية اليوم، مع أنني أود التذكير مجددا أننا على أعتاب نهاية عصر المعلوماتية متجهين بسرعة هذه المرة نحو عصر الحكمة الذي أخبرتكم عنه في مقالات سابقة، بفضل كورونا.

اقرأ أيضا  السلطات الجزائرية توجه المساجد لبث تسجيلات القرآن لمواجهة كورونا

تبدُّل أولويات الدول

نحن نعلم أن أولويات الدول كانت غامضة وغير مفهومة بالنسبة لنا، وأقصد هنا الدول الكبرى التي تحكم سياسة واقتصاد كوكبنا، فهي كانت تدعوا إلى الديموقراطية والحريات وتشجع عليها، لكنها في ذات الوقت كانت تدعم الدكتاتوريات وتحفز على الانقلابات التي غالبا ما تكون عسكرية تنتج دكتاتوريات أفظع وأبشع من سابقاتها، وتدعم الحريات التي تؤدي إلى انحلال المجتمعات والأسر وتقوض عاداتها وتقاليدها وتهدم خصوصياتها، وفي النهاية تدعم وتحابي سياسات دولة الإحتلال الصهيوني الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني صاحب الحق.

حتى أن سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين دمرت الدول التي خُطِّط لها بأن تلجأَ إلى قروضهما لتغذية موازينها العامة وخلق توازنها، غير أن تلك القروض كانت تذهب في غالبيتها لِتُغذي أرصدة الدكتاتوريين ومَن هم حولهم من الفاسدين والعسكر في بنوك الدول الكبرى، كانت تلك السياسات واضحة من خلال زيادة التحويلات البنكية إلى الخارج بالتزامن مع تسليم تلك القروض إلى هذه البلدان، الأمر الذي خلق أزمات نقدية واقتصادية خانقة أدت في كثير من هذه البلدان إلى الإفلاس والقضاء على الطبقات الوسطى وتدهور أسعار صرف عملاتها المحلية مقابل الدولار، وزيادة الفقر والفقراء تفشياً، وبالتالي حدوث الثورات والحروب الطاحنة.

قبل كورونا كان هذا هو المشهد المُخجل الذي أنتجه النظام العالمي الحالي، لكني أعتقد جازماً الآن بأن هذا سيتغير بعد كورونا، خاصة وأن شعوب تلك البلدان الصناعية الكبيرة بدأت تدرك ولو متأخرة، بأنها تعيش في ظل ديموقراطية مقنعة وليست حقيقية حين بدأت تعلم عن سياسات حكوماتها تجاه شعوب العالم الثالث الفقير، بما فيها سياساتها تجاه الكيان الصهيوني الغاصب، الآن سوف تُسقل تلك الخبرات التي تراكمت على مدار العَقدين الفائتين لتصبح سياسات حقيقية تظهر على أرض الواقع بعد كارثة كورونا التي عرتها وجعلتها تعود إلى جادة صوابها أخيرا، وستدرك تلك الشعوب التي لها تأثير بالغ على حكوماتها وبرلماناتها أن السياسات السابقة لم تطعمهم خبزاً في ظل كوارث هائلة ككارثة كورونا، وأنه آن الآوان للتوقف عن دعم الظلم والظالمين واستنزاف شعوب ومقدرات تلك البلاد البعيدة الفقيرة التي غذت نهضتها وتحضرها ورفاهيتها لعقود طويلة.

اقرأ أيضا  مستوطنون يحرقون محاصيل زراعية فلسطينية جنوبي الضفة

هل ستزرع الدول العربية القمح بعد أن عجزت عن استيراد الكمامات وأجهزة التنفس الإصطناعي؟

ستحل علينا نحن العرب بالذات كارثة أسوأ بكثير من كارثة كورونا إن لم نتعلم الدروس التي مررنا بها بسبب كورونا، يجب أن تدرك أنظمتنا التي انصاعت تماما لسياسات الغرب المجحفة بحق شعوبها وبحق بعضها البعض، هذا الإنصياع الذي أوصلنا اليوم لأن نكون في قاع الأمم، يجب عليها أن تدرك بأن الكراسي والمناصب والعروش والأرصدة المتضخمة في سويسرا وغيرها جائت عليها لحظة وكانت فيها بلا أي قيمة وبلا أي معنى، حين بدأت كل دولة تُغلق الحدود على نفسها وتهتم فقط لأمرها وأمر شعبها.

لقد جاء اليوم الذي رأينا فيه الدول حتى العظمى منها وهي تتقاتل من أجل الحصول على جناز تنفس إصطناعي إضافي واحد، وكيف وظَّفت مخابراتها من أجل ذلك، ولم تفلح لا قوتها العسكرية ولا الاقتصادية في الحصول على المزيد، لقد أصبح المشهد بين الدول كمشهد الهلعى على أبواب المخابز والمتاجر زمن كورونا. ألا يكفي ذلك بأن نزرع قمحنا بأيدينا، وأن ننظر إلى شعوبنا كالسَّند الوحيد الآن الذي تملكه أوطاننا للإستناد عليه بعيداً عن أمريكا والغرب ودولة الكيان الصهيوني؟

المصدر : الجزيرة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.