لقاء ترمب وكيم.. مقدمة لوفاق أم لحرب باردة؟
نبيل عودة
كاتب فلسطيني، وباحث سياسي متخصص في الشؤون الدولية
لم يكن شهر فبراير/شباط 1972 شهراً اعتيادياً؛ فقد كان العالم على موعد مع حدث تاريخي كان له أثر كبير على مجمل النظام الدولي.
فبعد عداء استمر ربع قرن؛ ها هو أول رئيس أميركي على الإطلاق يزور الصين الشيوعية ويلتقي زعيمها ماو تسي تونغ. فقد وصل الرئيس ريتشارد نيكسون إلى بكين في زيارة استغرقت أسبوعا وكان مصحوباً بوفد رفيع المستوى، حيث دشن بداية لتطبيع العلاقات مع ثاني أضخم دولة في المعسكر الشيوعي آنذاك.
مثلت هذه الزيارة إحدى أبرز محطات مرحلة الوفاق الدولي (Détente) بين المعسكرين الغربي والشرقي؛ فقد جاءت -من حيث المبدأ- منسجمة مع توجهات الرئيس نيكسون للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، والتي اعتمدت بشكل عام على مبدأ الاعتماد المتبادل واحترام الآخر، “والاعتراف بالكرامة المتساوية لجميع الأمم سواء كانت صغيرة أم كبيرة”.
لقد كانت سياسة الوفاق الدولي التي تبناها الرئيس نيكسون -وضمنها جاءت زيارته للصين- ذات أثر بالغ على حالة السلم الدولي، حيث باتت الحرب النووية بين المعسكرين الغربي والشرقي أبعد احتمالا بعد أن كان الطرفان قاب قوسين أو أدنى من وقوعها عام 1962 بسبب أزمة الصواريخ الكوبية.
لقد كانت سياسة الوفاق الدولي ذات نظرة بعيدة المدى، وتتوافق مع فلسفة الاعتماد المتبادل للوصول إلى إيجاد حلول للمشكلات الدولية. ولترجمة هذه السياسة إلى إجراءات عملية؛ قامت إدارة نيكسون بتوقيع اتفاقيات دولية على درجة كبيرة من الأهمية، منها اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية مع الاتحاد السوفياتي Strategic Arms Limitation Treaty (المعروفة اختصاراً بـSALT1)، ومعاهدة الحد من الصواريخ الباليستية Anti-ballistic Missile Treaty. وكذلك -وربما يكون هو الأهم- وضع حد للحرب الفيتنامية التي كلفت الولايات المتحدة ما يقارب 60 ألف قتيل من قواتها وعشرات الآلاف من الجرحى.
أستطيع أن أجادل بأن الرئيس نيكسون -ومن ورائه مستشاره للأمن القومي ومن ثم وزير خارجيته هنري كيسنجر- استطاع الحفاظ على الأمن الجماعي العالمي، عبر إعادة التأكيد على مبدأ الاعتماد المتبادل بين الأمم، والبحث عن القواسم المشتركة لتحقيق المصالح القومية.
فقُبيل إقلاع طائرته إلى الصين؛ صرح نيكسون -في حديقة البيت الأبيض- بأن بلاده والصين “كانت لديهما اختلافات جوهرية سابقا، وستستمر هذه الاختلافات مستقبلا، ولكن ما يجب علينا فعله هو البحث عن طريقة تستمر بها هذه الاختلافات دون أن نكون أعداء حرب”، وختم كلامه بقوله إنه “إذا كانت هناك رسالة أريد أن أحققها بهذه الزيارة فهي جلب السلام للبشرية”.
إن المقاربة الدبلوماسية التي تدور حول مبدأ “تحدث إلى أعداءك” ليست جديدة على التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدة. وعليه؛ فإن قبول الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب دعوة رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون لملاقاته لا تعدّ سابقة بحد ذاتها.
فقد اتبع هذه المقاربة -كما رأينا- الرئيس نيكسون بزيارته الصين ومقابلته زعيمها ماو، وترتب على اعترافه الرسمي بها منحُها المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي، بعد أن كانت تايوان هي التي تشغله لأكثر من عقدين.
كما قام أيضا الرئيس الأميركي السابق بارك أوباما بزيارة -هي الأولى من نوعها- إلى كوبا ومقابلة زعيمها الشيوعي راؤول كاسترو. فقد كان الرئيس أوباما مقتنعا بأن مصالح بلاده يمكن تحقيقها بتعزيز الاعتماد على سياسة متعددة الأطراف، فتطبيع العلاقات مع كوبا، والتوصل للاتفاق النووي مع إيران بالتعاون مع مجموعة “5+1″؛ من شأنه أن يعزز مصالح أميركا وينزع فتيل حروب دولية محتملة.
إن العالم اليوم يترقب لقاء آخر لرئيس أميركي مع زعيم شيوعي ثالث هو كيم جونغ أون، ومع أنه ما زالت هناك شكوك في انعقاد هذا اللقاء فضلا عن النتائج المترتبة عليه؛ فإن جميع القوى الدولية قد رحبت به، واعتبرته خطوة إيجابية في الطريق الصحيح لتعزيز السلم الدولي.
وتكمن الشكوك في نتائج هذا اللقاء من ناحيتين: الأولى تتعلق بشخصية الرئيس ترمب نفسه، والثانية تتعلق بسياسة الولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارة ترمب.
يفتقر ترمب إلى الخبرة والحنكة السياسيتين اللتين كان يتمتع بهما كل من الرئيسين نيكسون وأوباما، اللذين جاءا من خلفية قانونية وسياسية. فالتاريخ ما زال يذكر أن نيكسون يبقى -رغم فضيحة ووتر غيت التي أطاحت به- السياسي الأميركي الوحيد الذي خدم دورتين نائبا لرئيس (مع الرئيس دوايت أيزنهاور)، ودورة رئيسا لأميركا خلال 1969-1974.
أما الرئيس أوباما فإن التاريخ سيذكر له أن لم يُهزم في انتخابات قط؛ حتى عندما كان طالباً في كلية الحقوق في جامعة هارفاردحيث كان أول رئيس لاتحاد طلبتها من أصل أفريقي، ثم صار بعد ذلك أول أميركي أفريقي يشغل منصب رئيس البلاد.
جاء الرئيس دونالد ترمب من خلفية بعيدة عن السياسة بشكل كامل، فقد عاش طوال حياته في بيئة رجال المال والأعمال، كما أنه لم يشغل منصباً عمومياً في حياته.
وإذا كان الرئيس نيكسون قد أحاط نفسه برجال ذوي خبرة وحنكة سياسية (من أمثال وزيريْ الخارجية وليام روجرز وهنري كيسنجر)، وكذلك فعل الرئيس أوباما الذي عُرف عنه كثرة اعتماده على مستشاريه؛ فإن الرئيس ترمب -رغم افتقاره للخبرة السياسية- أحاط نفسه بجموعه من الجنرالات بالكاد يستمع لنصائحهم وتوجيهاتهم.
فترمب من الذين لا يستمعون إلا لأنفسهم، فما يتبادر إلى ذهنه -في أي لحظة- ربما يتحول مباشرة إلى سياسة على الأرض. وفي هذا السياق؛ ربما نستحضر أوامره بتوجيه ضربة عسكرية في أبريل/نيسان 2017 إلى قوات نظام الرئيس بشار الأسد، على إثر استخدامها الغاز الكيميائي ضد المدنيين في خان شيخون.
أما فيما يتعلق بالتوجهات العامة للسياسة الخارجية الأميركية في عهد ترمب؛ فإن الأمر يبدو أكثر إشكالا، فمع وضوح شخصية الرئيس النرجسية، يبدو أن سياسته الخارجية تبدو أكثر غموضاً.
لقد تراوحت السياسة الأميركية -منذ الحرب العالمية الأولى- بين التوجهات الأحادية (Unilateralism) مثل ما حدث في غزوالعراق 2003، وبين التعددية (Multilateralism). ولكن مع الرئيس ترمب؛ لا يبدو أن الولايات المتحدة تسير على أيٍ من هذين المسارين.
حيث يعود ترمب بسياسة بلاده إلى ما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى باتباع التوجهات الأقرب إلى الانعزالية (Isolationism)، وذلك بانسحابه من بعض المعاهدات الدولية مثل معاهدة باريس للمناخ، أو رفضه التصديق على تمديداتفاق إيران النووي.
وكذلك تخفيضه مساهمة الولايات المتحدة في موازنة وكالة الأونروا، وفرضه التعرفة الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم، واعترافه الأحادي الجانب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لا شك أن قبول ترمب دعوة الرئيس الكوري الشمالي لمقابلته تعد -في حد ذاتها- خطوة إيجابية لخفض التوتر في شبه الجزيرة الكورية، إلا أن شخصية الرئيس ترمب، والغموض الذي يلف سياسته الخارجية وعدم استقرارها حتى اللحظة على توجه معلوم؛ ربما يقلل فرص نجاح لقاء الرجلين.
ويبقى باب التخوفات من تردي الأوضاع في ذلك الإقليم الآسيوي مفتوحاً على مصرعيه، فلا أحد يدري أي رسالة سيحملها معه الرئيس ترمب إلى نظيره الكوري الشمالي والعالم من بعدها؛ فهل يؤسس لقاء الرجلين لوفاق دولي جديد أم لحرب باردة أخرى؟
المصدر : الجزيرة.نت