لماذا نجحت الثورة في تونس ولم تنجح في مصر؟
غازي التوبة
أكاديمي وكاتب فلسطيني
الأحد 6 جمادى الأولى 1437//14 فبراير/شباط 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
الآن بعد انقضاء خمس سنوات على الربيع العربي، وهروب “بن علي” من تونس والقضاء على حكمه، ثم انطلاق ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر، ثم سقوط حكم “حسني مبارك”؛ يجب أن نقف ونراجع تلك الأحداث والوقائع، ونتساءل: لماذا نجحت الثورة في تونس ولم تنجح في مصر؟
وللجواب عن هذا السؤال يجب أن نعود إلى بعض الأحداث والوقائع التي حصلت في تونس ومصر، ويجدر بنا أن نقارن بين الثورتين في ملفين وعنوانين رئيسيين هما: العلمانية والدستور. فماذا كان موقف الثورتين في تونس ومصر من العلمانية؟ وكيف تعاملتا معها؟ وما صورة الدستور في كل من تونس ومصر؟ وما الفروقات بينهما؟
لقد قبل الشيخ راشد الغنوشي “العلمانية”، واعتبر أنه ليس هناك تعارض بين الإسلام والعلمانية، وقد أوضح ذلك في مقال له تحت عنوان “الإسلام والعلمانية”، وقد برّر ذلك بعدّة أمور، نناقشها على النحو التالي:
الأول: نظر الشيخ الغنوشي إلى العلمانية على أنها أمر إجرائي وأن البعد الفلسفي دخل عليها في وقت لاحق، وهذا الرأي الذي استند إليه الشيخ الغنوشي في قبوله “العلمانية” غير صحيح، وذلك لأن البعد الفكري والفلسفي موجود في العلمانية مع البعد الإجرائي منذ لحظة ولادتها، لأن العلمانية كانت حصيلة المواجهة بين الدين والعلم، ورجال الكنيسة ورجال العلم.
ولذا كان لا بد من اتخاذ موقف فكري فلسفي من الدين، وهو الرفض والعداء والإقصاء، لأن الدين يدافع عن حقائق غير صحيحة -في نظرهم- أثبت العلم خلافها، ولا بد من تقديم المادة، وإنكار الروح المرتبطة بالدين، ولا بد من الاهتمام بالدنيا والتنكر لعالم الآخرة، ولا بد من اعتماد نسبية الحقيقة في وجه الحقائق المطلقة التي كان يقررها الدين، وكان لا بد من اتخاذ موقف إجرائي من رجال الدين وهو إبعادهم من التدخل في شؤون الحياة، فالأمر المؤكد أنه ترافق الموقفان -الفكري والإجرائي- في صياغة العلمانية منذ اللحظة الأولى.
الفكري: المتمثل في نسبية الحقيقة، واعتبار الكون مادة، والإيمان بعالم الشهادة وإنكار عالم الغيب.
الإجرائي: المتمثل في إبعاد رجال الدين وكنائسهم عن التدخل في شؤون الحكم والعلم، وهذا ما أخطأ في تقديره الشيخ الغنوشي.
الثاني: ميّز الشيخ الغنوشي بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، واعتبر الأولى مقبولة والثانية غير مقبولة، واستند في جانب من كلامه وقبوله للعلمانية الجزئية إلى التقسيمات التي اعتمدها الدكتور عبد الوهاب المسيري في عدد من كتاباته، وأبرزها كتابه الرئيسي الذي أصّل فيه لهذه الفكرة وهو “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”.
والحقيقة أنّ التمييز يمكن أن يكون القصد منه فهم التطور الذي سارت فيه العلمانية، وفي هذه الحالة يكون التمييز مقبولا، وهو الذي أشار إليه المسيري في دراسته عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. لكنّ اعتبار العلمانية الجزئية لا تتعارض مع الإسلام، واعتبار العلمانية الشاملة هي التي تتعارض مع الإسلام، هذا الكلام غير صحيح، لأن كل المفردات التي تجعلنا نعتبر العلمانية الشاملة تتعارض مع الإسلام موجودة في العلمانية الجزئية، من مثل: اعتبار المادة أساس الكون، والانطلاق من نسبية الحقيقة، ومعاداة الدين، واعتبار الغيب خرافة وأوهاما، وتقديس الدنيا وتدنيس الآخرة… إلخ.
وقد أشار الدكتور إبراهيم مبروك في إحدى دراساته إلى خطأ قبول العلمانية الجزئية وإلى خطأ التمييز بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، واعتبر أن الأصول التي تجعل المسلم لا يقبل العلمانية الشاملة موجودة وكامنة في العلمانية الجزئية، وأولها فصل الدين عن الدولة، وآخرها نسبية الحقيقة، لذلك فإنّ العلمانية الجزئية تتساوى في التحريم مع العلمانية الشاملة، لكنّ الاختلاف بينهما يكمن في الكمّ وليس في أصل المشكلة.
الثالث: استند الشيخ الغنوشي في قبوله للعلمانية إلى القول بأنّ الإسلام يميّز بين المجالين: السياسي والديني، وهذا الكلام غير صحيح، وبالعكس، فإنّ السياسي خاضع للديني في مجال الحاكم والمحكوم والأحكام، ويوضّح ذلك أن كل الأحكام التي ينفذها الحاكم والدولة مستقاة من الشريعة الإسلامية من مثل أحكام الحدود: كحدّ السرقة والزنا والخمر وقتل النفس والحرابة.. إلخ، ومن مثل أحكام المال: كتحليل البيع وتحريم الربا وتشريعات الإرث والرهن.. إلخ، ومن مثل أحكام الأسرة: كالمهر والطلاق والزواج والرضاعة.. إلخ، وأن بقاء الحاكم في الحكم مرهون بالدرجة الأولى في أن يطبق الشريعة، ويخضع لها بشكل كامل.
ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فالتصوّر الإسلامي لا يميّز بين الشأن الدنيوي -الذي هو أوسع من السياسي- وبين الشأن الديني، إذ يعتبر التصوّر الإسلامي أن كل نشاط دنيوي يقوم به المسلم يبتغي به وجه الله عبادة، كما وضّح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي قال فيه: “في بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” (صحيح مسلم).
إن قبول الحركة الإسلامية في تونس للعلمانية كان هو أحد العوامل التي جعلتها تبقى في السلطة، في حين أن الحركة الإسلامية في مصر لم ترض بالعلمانية، وأكّد ذلك أن رجب طيب أردوغان عندما زار مصر في 12 سبتمبر/أيلول 2011 ودعاها إلى أن تأخذ بالعلمانية في دستورها القادم، وتستفيد من الأخطاء التركية، وتتبادل مع القيادة التركية الأفكار والتجارب؛ علّق المتحدث باسم جماعة الإخوان الدكتور محمود غزلان على دعوة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” رافضا تلك الدعوة، قائلا في تصريحات صحافية: “إن تجارب الدول الأخرى لا تستنسخ، وإن ظروف تركيا تفرض عليها التعامل بمفهوم الدولة العلمانية”، معتبرا أنّ ذلك “تدخّل من رئيس وزراء تركيا في شؤون المصريين”.
والآن ننتقل إلى المقارنة بين موقفي الحركتين الإسلاميتين التونسية والمصرية من صياغة الدستور، ومن الأمور التي انتهت إليها، فلو أجرينا مقارنة بين الدستور الذي أقرّته تونس مطلع عام 2014، والدستور الذي أقرّه مرسي عام 2012، لوجدنا فروقات كبيرة، حيث من المعلوم أن معظم الدساتير العربية التي صدرت بعد الاستقلال احتوت على نص “دين الدولة الإسلام” و”الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع”، أو “الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع” على اختلاف بين دستور وآخر.
ولكنّ دستور تونس الأخير الذي صدر مطلع عام 2014 لم يحتو أي كلام عن الشريعة، ناهيك عن اعتبار “الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع في تونس”، ولو قارنا ذلك بما ورد في دستور مصر عام 2012 لوجدنا في ذلك بونا شاسعا، فقد وردت مادتان في دستور مصر، إحداهما -وهي المادة 219- تنص على ما يلي: “مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة”.
وثانيهما -وهي المادة الرابعة- جعلت تفسير مبادئ الشريعة في يد هيئة كبار العلماء، فقد جاء فيها: “ويُؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية”.
وعند %A