متى يكون العمل عبادة مقبولة؟

السبت 6 ذو الحجة 1436//19 سبتنبر/أيلول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
الحمدُ لله عالمِ الخفيَّات، المطَّلع على السرائر والنيَّات، ولا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السموات، أحمده سبحانه أنْ هدانا للإِسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأله أن يجعلنا من خير أمَّة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: ﴿ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: ٤٠]. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله المبعوث رحمة للناس بشيرًا ونذيرًا، لتطيعوه وتتبعوه لعلكم تفلحون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.

أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى، واعلموا أن الله خلقَنا لعبادته، وأمرَنا بطاعته، وبعَث إلينا خيرَ خلقِه وأشرف رسله محمدًا – صلَّى الله عليه وسلَّم – لنتَّبعه على شريعته، ونقيِّد أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا بهدْيه وسنته، فالعبادة أيًّا كانت قولية أو فعلية، لا تكون عبادةً حقيقية، ولا تتمُّ ولا تنفع صاحبَها فيُثاب عليها في الدارين، إلا إذا تحقَّق فيها أمرانِ لا يكفي أحدهما عن الآخر:
أحدهما: الإِخلاص لله، وهو إفراد الله – تعالى – بالقصد في الطاعة دون مَن سواه، بأنْ يقصد بها وجه الله – تعالى – متقربًا بها إليه، رغبةً ورهبة، وخوفًا وطمعًا، فينقِّيها ويصفِّيها من قصْد ثناء الناس ومحمدتهم، أو المنزلة في قلوبهم، أو تحصيل شيء مما في أيديهم من الحطام، أو اتِّقاء ما قد يوجهونه للشخص من المذمة والملام، قال – تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، وقال – سبحانه -: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: ١١ – ١٥].

اقرأ أيضا  أسلوب القدوة الحسنة في تربية الأبناء

فالإِخلاص لله هو القاعدة التي تُبنى عليها العبادةُ، وتكون حَرِيَّة بالقبول والنفع والمثوبة؛ فهو معيار باطن الأعمال الدقيق، ومقياسُها الصادق الذي يميِّز طيبها من خبيثها، وصحيحَها من فاسدها، ومقبولَها من مردودها، ونافعَها من ضارِّها.

صحَّ في الحديث عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه)).

وفي الحديث القدسي قال الله – تعالى -: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشِركَه)).

ولقد قال – سبحانه – في تنزيله المبين: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: ٦٥].

أيها المسلمون:
وأما الشرط الثاني الذي يكون به العمل عبادةً حقيقية: حرية بالقبول والنفع والثواب في الدارين، فهو أن يكون العمل على وَفق سنة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو معيار ظاهر الأعمال، قال – تعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].

وفي الصحيح عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))، وفي لفظ: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد))، وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة)).

وقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به))، وقال – عليه الصلاة والسلام -: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أبَى))، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).

اقرأ أيضا  لماذا كان الدين النصيحة؟

فالإخلاص – أيها المسلمون – هو ميزان أعمال القلوب، التي لا يطَّلِع عليها إلا علاَّمُ الغيوب، ويقابله الشرك الأصغر أو الأكبر، والمتابعة هي ميزان أقوال اللسان وأعمال الجوارح الظاهرة، ويُقابِلها المعصية أو البدعة، والناس شهداء الله في أرضه، وإنما يشهدون للإِنسان أو عليه، بما يرَوْن من أعماله ويسمعون من أقواله، والغالب أنهم لا تتَّفق شهادتهم وثناؤهم للإِنسان أو عليه – خاصة بعد موته – إلا وهو كذلك، وفي الحديث: ((أنتم شهداء الله في أرضه؛ مَن أثنيتم عليه خيرًا وجبتْ له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبتْ له النار)).

فاتقوا الله – عباد الله – ولازموا الإِخلاص لربِّكم، والمتابعة لنبيِّكم محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – في أقوالكم وأعمالكم ونيَّاتكم؛ فكلُّ عمل أو قول ممَّا شرع الله لا يراد به وجه الله، فهو باطلٌ لا ثواب له عليه في الآخرة، وإنْ أدرك شيئًا من حُطام الدنيا، يقول – سبحانه -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: ١٥-١٦].

ويقوله – تعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: ١٨-١٩]. ويقول – تعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: ٢٠].

ولقد ذمَّ الله – تعالى – الذين يعملون على غير هدي الأنبياء، وتوعَّدهم وعيد الأشقياء، فقال: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ﴾ [الغاشية: ٢-٧]، فأولئك عمِلوا وتعبوا؛ لكنهم خابوا وخسروا، فلم يستريحوا من عَناء العمل، ولم يفوزوا برضوان الله – عزَّ وجلَّ.

اقرأ أيضا  شعوباً وقبائل لتعارفوا

وهذا الوعيد يشمَل فيما يشمل صنفينِ من الناس:
أحدهما: المنافقون؛ فإنهم استَقاموا في الظاهر على الدِّين، ولكنهم لم يُخلصوا في الباطن لربِّ العالمين، وإنما قصَدُوا حقْن دمائهم، وصيانة أموالهم وحرماتهم: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: ٩]؛ ولهذا توعَّدهم الله بالدَّرْك الأسفل من النار؛ لأنهم شرٌّ من المشركين والكفَّار، وأخطر منهم على الدين والمسلمين؛ إذ يفشون الأسرار، ويكيدون آناء الليل والنهار.

والصنف الثاني: المبتَدِعة، الذين قد يخلصون لله في العمل؛ ولكنهم لا يعبدونه بما جاءت به الرسل، وكذلك المشركون الذين قد يُخلِصون لله في بعض الأعمال؛ ولكن يبطلونها بالشرك فلا تنفعهم في المآل.

فاتقوا الله – عباد الله – وأخلصوا كلَّ أعمالكم لله، وأَوْقِعوها على وَفْق سنة عبده ورسوله ومُصطفاه؛ فإن ذلك هو سر النجاح والفلاح بغاية الأرباح، واعلَموا أنَّ الله مطَّلع على سرائركم، وعالمٌ بما أكنَّتْه ضمائركم، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٨١].

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنَّه هو الغفور الرحيم.

الالوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.