محاضرة الخوف والأمن في القرآن الكريم
الثلاثاء،13ربيع الثاني1436//3 فبراير/شباط 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
معالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – وفقه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، موضوع «الأمن والخوف في القرآن الكريم» موضوع مهم، بل هو قرين وثمرة الإيمان بالله جل وعلا، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالإسلام والقرآن، ولذلك فإن هذا الموضوع ليس بالموضوع السهل أن يؤتى على محاوره باختصار، لأنه داخل في التفسير، والتفسير في مثل هذه الموضوعات يسمى التفسير الموضوعي للقرآن، والتفسير له عدة علوم مختلفة يعلمها أهل الاختصاص، ومنها: التفسير الموضوعي للقرآن.
والتفسير الموضوعي على قسمين:
القسم الأول: التفسير الموضوعي باعتبار موضوع ما، كهذا الموضوع، وكما نقول مثلاً التوحيد في القرآن، الرسالة في القرآن، الإيمان باليوم الآخر في القرآن، القدر في القرآن، الصلاة في القرآن، الفتنة في القرآن، الرجال في القرآن، النساء في القرآن، وحتى إن بعض أهل العلم كتب: الجبال في القرآن.
وهذه موضوعات كثيرة متنوعة كل موضوع جاء متكررًا في القرآن، من أهل العلم من يفرده ويجمع ما اشتمل عليه بشيء يسمى في علوم التفسير (التفسير الموضوعي للقرآن)، هذا نوع.
القسم الثاني: التفسير الموضوعي باعتبار سورة بعينها، فيكون الاعتبار بالسورة، يعني مثلاً التفسير الموضوعي لسورة البقرة، التفسير الموضوعي لسورة المائدة، التفسير الموضوعي لسورة الكهف، وهذا يسميه بعض أهل العلم المتأخرين الذين كتبوا في التفسير يسميه (مقاصد السور) مقاصد سورة البقرة، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومقصد سورة المائدة العقود، وهكذا.
وهذا تفسير المقاصد مما يختلف فيه أهل العلم إثباتًا وعدمًا، استيعابًا أو تجزئةً، مما ليس في هذا المقام وقت لإيضاحه.
الموضوع الأول: التفسير الموضوعي، الموضوع الأول جاء منه موضوع هذه المحاضرة، «الأمن والخوف في القرآن الكريم».
لفظ الأمن، وما تصرف منه، يعني الأمن مُعرّفًا، وأَمن نكرة، أمنة، أمنًا، ونحو ذلك وما تصرف منه، آمنةً { قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً } [النحل: 112] يعني بالفعل أو بالمصدر أو باسم الفاعل، أو بالاسم معرفًا، أو بالاسم منكرًا جاء في القرآن بنحو تسعة وأربعين موضعًا.
والخوف جاء في القرآن في نحو أربعة وعشرين ومائة موضعًا، وهذا يعطيك الدلالة على عظم شأن هذا الموضوع، لأننا إذا أردنا تناول هذا الموضوع بتفسير تسع وأربعين آية لموضوع الأمن على اختلاف ما فيها من معانٍ، أو تفسير مائة وأربع وعشرين آية في موضوع الخوف لاحتاج منا ذلك زمنًا طويلًا، ولهذا فسوف نختصر هذا الموضوع بما يفيد في هذا المقام، اختصارًا ينبئ عن معنى هذا الموضوع وعن أهميته في القرآن الكريم.
أولاً: الأمن والخوف ضدان، إذا وُجد الأمن ارتفع الخوف، وإذا وُجد الخوف ارتفع الأمن، إلا في شيء واحد، وهو الخوف من الله جل وعلا، فهذا الخوف الوحيد المحمود، لهذا قال تعالى: { فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175]، وإنما كان هذا الخوف هو الوحيد المحمود لسببين:
أولًا: خوف ممن يستحق أن يُخاف منه.
ثانيًا: أنه مهم لما يسميه أهل العصر الصحة والنفسية وما يدفع القلق والمخاوف؛ لأن المخاوف كثيرة، فإذا سُلّط على الإنسان أن يخاف مما يكون به الخوف فهو كثير، يخاف على نفسه، يخاف على ولده، يخاف نفس دنياه، يخاف من المرض، يخاف من عدو، يخاف من الفتن، يخاف من أمور كثيرة جدًّا، تتعدد المخاوف بتعدد أسباب المخاوف، لكن تتبدد بالطمأنينة، هذه الطمأنينة هي الأمن النفسي، وسببها ووسيلتها الخوف من الله جل وعلا.
ولذلك قال أهل العلم بالمعاني: إن الأمن والخوف حالتان أو معنيان نفسيّان، الأمن معنى نفسي يؤدي إلى السكينة والطمأنينة والراحة، والخوف معنى نفسي يؤدي إلى عدم الطمأنينة وإلى القلق وإلى عدم أمن المستقبل.
والأمن في حقيقته هو أمن طمأنينة في النفس واستقرار وسكينة لما قد يحدث فإذا أعطيت أمنًا في الحاضر، وأمنًا في المستقبل، فقد حيزت لك الدنيا بحذافيرها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «كأنما حيزت له الدنيا بحذفيراها» وذكر منها: «آمنًا في سربه».
إذن فالأمن والخوف حالتان، وهاتان الحالتان متضادتان، الإنسان خلقه الله جل وعلا بغير اختيار منه، والسعادة في التكليف هي الأمن وانتفاء الخوف في الدنيا وفي الآخرة، لذلك قال جل وعلا: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } [طه: 123-124].
الأمن في الدنيا الطمأنينة والسكينة هذه حالة عظيمة تورث السعادة، فمَن أَمن من المخاوف كلها كان عنده طمأنينة وراحة وسكينة تامة، ومَن أَمن من بعضها، كان له بقدر ذلك.
وقد ذكر بعض المعاصرين أن الأمن لا يتجزأ، وهذا ليس بصحيح، بل الصواب أن الأمن يتجزأ، لأن الأمن يأتي في حال دون حال، ويأتي في موضوع دون موضوع، وكذلك الخوف يتجزأ، وهذا يدلنا عليه قول الله جل وعلا: { فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 81-82].
قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: بقدر التوحيد والتزام طريقة الرسل يكون الأمن في هذه الدنيا، { الَّذِينَ آمَنُوا } فإن تم إيمانهم وكمل {أولئك لهم الأمن} التام الكامل، و{الذين آمنوا ولبسوا إيمانهم بظلم}، إما ظلم في حق الله، أو ظلم في حق النفس، أو ظلم في حق العباد، فأولئك لهم بعضُ الأمن.
لهذا نقول: إن الأمن يمكن أن يفهم بعدة أعين: فننظر للأمن مثلاً بأن الأمن أمن في داخل الناس، وننظر للأمن أيضًا بأن الأمن أمن في الحياة، وننظر للأمن على أنه أمن في الحال المستقبلة التي تأتينا في المستقبل، نأمن في داخلنا، يكون عندنا طمأنينة وسكينة، ونأمن في حالتنا فيما حولنا، ونأمن للمستقبل، وهذا ما يسميه بعضهم (الأمن النفسي، والأمن الاجتماعي، والأمن الوطني).
والنظرة الشرعية في ذلك تربط الأمن والخوف بالتقسيمات التالية:
أولاً: الأمن، أمن القلب وسكينته وطمأنينته، ويقابله خوف القلب واضطرابه وعدم استقراره.
والثاني: الأمن المتعلق بالضروريات أو الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بالمحافظة عليها: الأمن على الدين، الأمن على النفس، الأمن على العقل، الأمن على المال، الأمن على العرض أو النسل، وفي المقابل خوف على هذه الأشياء، ثم النتيجة أن الأمن في الدنيا على هذه المواصفات وعلى هذا التقسيم التقريبي ويورث الأمن في الآخرة، فمن حصل الأمن في الدنيا نتيجة للإيمان كما سيأتي فإن له الأمن في الآخرة، ومن خاف في الدنيا في بعضها فإنه في الآخرة إما أن يكون خائفًا وإما أن يغفر له بحسب حاله من الإيمان والكفر والنفاق وأحوالها.
هنا نقول: الأمن مرتبط ارتباطا وثيقا بالإيمان؛ لأن الله جل وعلا جعل الإيمان سببًا للأمن في الدنيا والآخرة، قال الله جل وعلا: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97]، وقال جل وعلا: { فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ } يعني فريق المؤمنين وفريق المشركين { أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 81-82].
والظلم هنا فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه الشرك، حيث علم هذا لما نزلت الآية على الصحابة فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه، فذهبوا إلى أنه ظلم النفس بالذنوب والمعاصي أو ظلم الآخرين، ظلم النفس بظلم العباد، فقال: «ليس هذا الذي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]».
هذا من النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسير بالمطلق، يعني فسر الظلم المطلق، يعني الظلم الكبير أكبر الظلم، وأكمل الظلم الذي هو ظلم العبد بالشرك والعياذ بالله، لكن الآية فيها: { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } والظلم نكرة جاءت في سياق النفي بـ(لم) ومن المتقرر في علم الأصول: أن النكرة في سياق النفي تفيد الظهور في العموم، وليس النص بالعموم، تفيد الظهور بالعموم، وهذا يعني أنها تشمل أشياء كثيرة، فهنا الآية دلت على تبعض النتيجة بتبعض سببها، فالإيمان متبعض، الناس في الإيمان درجات، وكذلك في الأمن درجات، وهذا فيما يتصل بالأمن النفسي، وهو كذلك أيضًا في الأمن بين الناس، الأمن الاجتماعي، الأمن في الأوطان، أو ما يسمى في العصر الحاضر بالأمن الفكري، يعني الأمن الديني أو الأمن العقدي، كلها متبعضة، وهذا يعطينا نتيجة كبيرة جدًا وهي أن القرآن جعل حقيقة الأمن هي في الإيمان، حقيقة الأمن في حفظ حق الله جل وعلا في الإيمان { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } ولهذا إذا عرضنا في مثل هذا الزمن إذا أردنا الأمن العقدي أو الأمن الفكري أننا نسمي أشياء كثيرة.
فاليوم البرامج العلمية المفيدة نسميها الأمن الفكري، هو تسمية طيبة، يعني الأمن المتعلق بالفكر يعني بمسلك العقل فيما ينظر إليه في الحياة هو في الحقيقة معناه الأمن الديني، الأمن العقدي، الأمن السلوكي، هذا تختصره كلمة الأمن الفكري، ولكنه الأمن العقدي هو الأمن الديني بكل معانيه، لهذا يرجع حقيقة الأمن بأنواعه يرجع إلى تحقيق الإيمان ومقتضاه في الشريعة، وهذا يصير بنا إلى مسألة مهمة، وهي أن الله جل وعلا جعل القرية الآمنة هي التي لا تكفر بنعمة الله.
والأمن بالمعنى الذي ذكرنا وهو استقرار النفس وطمأنينتها وسعادتها وعدم خوفها مما حولها أو خوفًا من المستقبل، هذا الشعور العظيم الذي يورث السعادة جعله الله جل وعلا في القرآن نعمة عظيمة، والقرية التي تكفر بنعمة الله يعني تكفر بهذه النعمة التي هي الأمن هي مهددة بنقصان أمنها، والأمن له مفهوم الأمن الذي هو على الأنفس على الذوات، على الأموال، وهذا صنعة عمل رجال الأمن بارك الله فيهم، وجزاهم خير الجزاء.
ولكن هناك أمن هو مطلوب من أهل العلم وأهل الإيمان وأهل الدعوة وأهل الخير، وهو الأمن الديني، الأمن الديني الذي من كفر به أو لم يراعِ هذه النعمة حقها فإنه قد فرط في الأمن.
والناس أيضًا إذا عانوا من ذلك ولم يتواصوا به فقد فرطوا في الأمن، فإذا جاء مثلاً ما يجعل القلب قلقًا في اعتقاده من الشكوك والشبهات، مثل ما ترون اليوم ما ينشر في الإعلام بأنواعه وفي الصحف من التشكيك في كل شيء، حتى التشكيك في العقيدة، والتشكيك في الإيمان، والتشكيك في السنة، هذا كفران بالنعمة التي هي نعمة الأمن العقدي، الناس عندهم أمن عقدي يعني استقرار وطمأنينة لعقائدهم العظيمة المقتفاة من الكتاب والسنة فيأتي من يشوش هذا الذي يشوش على الناس في دينهم ويربك الناس في دينهم، وهو في الحقيقة مثل من يشوش على الناس في أوطانهم وأجسامهم، لأنه كما تؤذي الجسم تؤذي النفس فأنت تؤذي الدين، بل إيذاء الدين مقدم في الضروريات الخمس، المحافظة على الدين هذه أعظم المحافظة، ولهذا فالصحابة رضوان الله عليهم لما جاء الخلل في الدنيا من خروج الخوارج ومن الاختلاف من الثورات التي حصلت ونحو ذلك وحاربها الخلفاء وأمراء المؤمنين كانت مع سلامة الأمن العام في الدين، ولذلك لم يكن أثرها في كفران نعمة الله كثيرًا، فاستمرت الأمة وهي قوية على أعدائها، لكن إذا كان الأمن يخترق في قلوب أهل الإيمان وبدل أن تكون مطمئنة أصبح كثير من الناس -رجالاً ونساءًا- لا يعلمون الحق ويتشككون فيه حتى فيما أنزل الله في القرآن، يشككون فيه أو يؤولونه أو يقولون وثوابت أخر كثيرة في الكتاب والسنة، هذا نكران لنعمة الله جل وعلا، ولذلك قال سبحانه وتعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } أنعم الله جمع، وأحد هذه الأنعم المهمة الإيمان لذلك قال، قال الله جل وعلا بعدها جزاءًا { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112].
ومن أعطي نعمة الأمن فكفرها أعطاه الله لباس الجوع والخوف، لأن الجزاء من جنس العمل، ولهذا يقوم في الأمة الرجال المصلحون من أهل العلم لدفع ما يضر بالأمن الديني وهذا واجب كبير وعظيم جدًا، وهو لا ينفك عنه أحد صغيرًا كان أم كبيرًا، على مستوى النفس، وعلى مستوى الناس.
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في يد عمر ورقة من التوراة، فقال: «ما هذه يا عمر»، فهذا عمر ثاني المبشرين بالجنة، المحَدَّث الملهم، الذي يُؤمن أكثر ممن بعده على التعثر بمثل هذه الورقة التي معه، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمه وعلمنا لتحقيق الأمن الديني، قال: «ما هذه يا عمر» قال: ورقة من التوراة، قال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى بن عمران حيًّا ما وسعه إلا اتباعي».
واليوم التوراة فيها تحريف لفظًا ومعنى، وعمر مؤتمن عليها، لكنه درس للأمة، وخوف على عمر ومن هو أدنى من عمر أعظم، فكيف نأمن على أجيال الأمة الناشئة بكتب تترا ومواقع تترا، تنفث فيهم ما يخالف صحيح الديانة ومقتضى الرسالة، لا شك أن هذا خطوة وخطوات لكفران نعمة الله جل وعلا.
نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
والأمن النفسي يورثه الإيمان ولذلك قال بعض أهل العلم باللغة: إن اشتقاق الإيمان من الأمن، فمادتهم الأصلية واحدة، (أمن – يأمن – أمنًا – وإيمانًا) والإيمان على أي حال له علاقة بالأمن اشتقاقًا وإن كان في اللغة يعني في لغة القرآن أو فيما يسمى الحقيقة الشرعية الإيمان له معناه، والأمن له معناه، لكن بينهما اتصال.
الأمن في النفس يكون بالإيمان؛ لأن الإنسان عنده أسئلة كثيرة يراها في الحياة، من كان قلبه حيًّا يرى في هذه الحياة أشياء كثيرة لا يعلم تفسيرها، أشياء من الوجود والمآل والتفريق بين الناس والأمم والاختلاف والغنى والفقر، أشياء كثيرة جدًا لا يعلم تفسيرها لا يحلها طمأنينة النفس إلا الإيمان، فالإيمان بالله جل وعلا وبما أنزل نجاة للقلب من اضطرابه ومن تردده ومن عدم سكونه، وهذا أكبر ثمرات الأمن في القلب، فمن أعطي نعمة الأمن في القلب فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وهذا الخير هو الحياة الطيبة، فيكون قلبه آمنًا مستقرًّا مطمئنًّا، فما يراه يجد له تفسيرًا ويعلم كيف يتعامل معه، وإذا ضاقت عليه فيرجع إلى إيمانه، للأمن وللأمنة، مخبتًا بين يدي الله تعالى في ظلمات لا يراه أحد، فينزل الله جل وعلا عليه الطمأنينة والسكينة، { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } [الأنفال: 11]، الأمنة هي الأمن في حال حاضرة، الأمنة هي زوال الخوف المتوقع الآن، { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } يعني رفعًا للخوف الذي في نفوسكم تلك الساعة.
والأمن يشمل الحاضر والمستقبل إلى لقاء الله جل وعلا، فهذا أمن النفس، فأمن النفس مرتبط بالإيمان، أما الخوف فهو مرض عضال إذا أصيبت به الناس، والخوف إما أن يكون محمودًا وإما أن يكون مذمومًا، فالخوف المحمود هو الخوف من الله جل وعلا بشرطه.
والخوف الثاني خوف مذموم، والخوف المذموم منه ما يأثم صاحبه إذا كان خوفًا من غير الله جل وعلا فيما يتعلق بالشرع، ومنه ما لا يأثم صاحبه وإنما هو خوف طبيعي والواجب أن يكون المؤمن أو يجب أن يكون المؤمن قوي لا يخاف من عوارض الحياة، ولكن إن عرضت له فهو طبيعي.
الخوف المحمود والخوف المذموم في القرآن:
أما الخوف المحمود، فهو الخوف من الله جل وعلا، والرهب من الله جل وعلا، وهو الذي جاء في القرآن في مواضع كثيرة بالثناء على أهله من الأنبياء والرسل والصالحين، قال الله جل وعلا في ذكر الأنبياء: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء: 90]، وقال في وصف عباده الصالحين: { فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175]، وقال لنبيه: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } [الزمر: 36-37]، { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } والذي يخوف المؤمن هم الآخرون، ولذلك الإنصات للمخوفين والمرجفين هذا إنصات لصوت الشيطان، المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.
لا تخف من شيء إلا من الله جل وعلا، خف من الله من ذاته سبحانه، ومن جلاله، وعظيم جبروته، وخف من مخالفة مقتضى الشرع، وما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، سواء في حقه عليه الصلاة والسلام، أو في حق عباده، أو في حق من له حق، خف مما جاءت الشريعة بالخوف منه لما له من أثر سيء.
وهنا نأتي إلى أن الخوف في أثره على النفس أثر مشئوم، يعني أثر سيء على النفس، فهو يورثها القلق، ويورثها التردد، ويورثها الانكفاء، ويورثها الوحدة، ونحو ذلك مما هو مذموم، ولذلك أجمع أطباء العصر على شيء، وهو أن الخوف الذي يزيد عن حد معين مرض، فيصبح يخاف من شيء أصلاً لا يخاف منه الإنسان الطبيعي، وهذا يبتلى به الإنسان،.
في هذا العصر الخوف صنعه أناس:
الخوف الطبيعي الذي يزيد ويصبح مرضًا ويقلل في النفس الخوف من الله جل وعلا أو قد يزيد فيه من الخوف من الله إلى درجة الوسوسة ودرجة عدم الاتزان، هذا الخوف صنعه الناس بأنفسهم، اليوم الإعلام يصنع الخوف، الأخبار تصنع الخوف، الأفلام تصنع الخوف، القصص تصنع الخوف، المناظر التي تنشر وكأن الناس ليس عندهم إحساس، ينشرون مناظر، ومسلمون يقتلون ويصلبون ويعدمون ودماء تسيل هذه ليست من قبيل الأخبار، هذه من قبيل إشاعة الخوف في الناس، إمراض الأمة بما لا تحتاج إليه، صورة واحدة تكفي وخبر واحد يكفي، أما الصور المتتالية المتكررة فلا تفيد، بل ربما تزيد عند البعض من الخوف الذي ينتج مرضًا والعياذ بالله.
الخوف أيضًا صنع اليوم { فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ } الخوف من الأشياء الكثيرة اليوم يصنعه مع الأسف يصنعه القراء الجهلة ورقاة جهلة، يصنعون الخوف في الناس بما يفعلونه ويؤصلونه في الناس، فيك كذا، أو للنساء وهن أكثر ابتلاءً فيك وفيك، لا تنصتوا لهؤلاء الجهلة، قلنا للناس مائة مرة: لا تنصتوا لهؤلاء الجهلة من القراء والرقاة.
وحتى مفسرو الرؤى والأحلام زادوا في مرض الناس وذهاب الأمن النفسي عنهم وذهاب الطمأنينة، وأصبحوا في قلق، وأصبحوا يصدقون بكل خرافة، وكانوا من قبل عقود يسيرة في هذه البلاد لا يصدقون بخرافة، جاءت من كل حدب وصوب، وهذه تسليط الشياطين، سلطت هؤلاء، وسلطت هؤلاء شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، هذا هو الذي يحصل اليوم.
فلا بد من حالة أمْنٍ بنية قوية، بتصحيح العقيدة، وتصحيح الإيمان، وتصحيح الشريعة، وتصحيح تطبيق الشريعة في الناس، وتثبيت الدين، ولا بد من حالة دينية وأمن ديني قوي، يرفع به الخوف، وأسباب الخوف، وكفران النعم التي تؤدي بالناس إلى الخوف، بهذا خلاصة الأمن والخوف في القرآن فيما يتعلق بالحالة النفسية أنه لا أمن إلا بالإيمان، والتزام الشريعة في طمأنينة النفس تجد تفسيرًا لما يأتي حولك، وما ينفع تقوم به، وما لا ينفع تبتعد عنه.
والخوف كذلك مذموم لأنه نتيجة للشرك بالله ونتيجة لعدم الإيمان بالله، نتيجة لعدم قراءة القرآن، فقراءة القرآن بصوت عالٍ تسمع به نفسك أو أكثر، تعطي الإنسان قوة لا مثيل لها، والذين يقرؤون القرآن بأعينهم لهم أجر، ولكن قوة القوة الإيمانية تكون بقراءة القرآن بصوت مرتفع تسمعه أو أرفع قليلاً تعطيك قوة، وإذا رأيت آيات تهز النفس ترفع صوتك بها، تعطيك ملكة وقوة وطمأنينة لأنك تلجأ إلى من لا ملجأ بعده، وهو الله جل جلاله، فما خاب من توكل على الله جل وعلا { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3].
الخوف الذي يتعلق بالضروريات الخمس:
ضروريات الخمس الخوف على الدين، الأمن على الدين، الخوف على النفس، الأمن على النفس، الخوف على العقل، الأمن على العقل، الخوف على المال، والأمن على المال، الخوف على العرض أو الأولاد أو النسل والأمن على العرض أو الأولاد أو النسل، هذه أمور مهمة جدًا في الحياة.
أولها وأعظمها الأمن على الدين هذا نتيجة التوحيد، الأمن هو نتيجة التوحيد لأن الله جل وعلا أخبر أن من لم يشرك به فله الأمن، من وحّد الله جل وعلا سبحانه وفقه وأعانه، { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36]، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3]، { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [هود: 56]، فهذا التوحيد، توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ما نكتفي بتوحيد الربوبية ليس معنى قول العلماء عن توحيد الربوبية تكون الحجة فيه ولم يكن الامتحان فيه أنه ليس مهمًّا بل القرآن مملوء بتعظيم توحيد الله جل وعلا في ربوبيته في النفوس، لأنه يلزم منه أن تعبد الله وحده، وتخبت إليه وحده، لأنك ترى شيئًا لا يراه أحد، من عظم توحيده بالله جل وعلا رأى الناس على غير مرأى، ورأى الدنيا على غير مرأى، وعلم الله جل وعلا كيف يتصرف في هذا الملكوت، وكيف يضع أقوامًا ويرفع آخرين، وكيف يضع دولاً ويرفع أخرى، وكيف يجري قدره في عباده، ويجري سره في خلقه، هذا نتيجة التوحيد، فعظم توحيدك بربك توحيد الربوبية ينتج منه أن تعبد الله جل وعلا بإخبات وإنابة، ولا ترجو إلا الله جل وعلا، ولا تدعو إلا الله ولا تستغيث إلا بالله، لأنك ترى تصرف الله جل وعلا وأنه هو الخالق لكل شيء.
ولهذا فالله سبحانه وتعالى قال في سورة النمل: { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [النمل: 62] ثم ذكر الآيات التي فيها توحيد الربوبية وتصاريف الله جل وعلا في ملكوته.
إذًا التوحيد وترك الشرك مقتضى التوحيد وهو الالتزام بالشرع، وترك الذنوب والكبائر وما يدل عليها، والإسراع بالاستغفار إذا غلط المرء أو أذنب، وضد ذلك هذا من أسباب تحقيق الأمن في الأديان، بل هو وسيلة تحقيق الأمن الفكري، فإذا قلنا الأمن الفكري أو الأمن العقدي أو الأمن الديني أعظم الأمن في التوحيد، ألا يذهب الناس عما يوصلهم بالله جل وعلا توحيدًا وعبادة ورقًا وإنابة، وإذا ذهبوا إلى غيره أو تساهلوا في هذا الأمر العظيم تعلمًا وتعليمًا وبثًّا فإنهم سيؤتون، لهذا أفضل طريقة لتعزيز الأمن أن تعزز الإيمان في النفوس، لأن من آمن حقيقة فلن تتجنى على عباد الله في أنفسهم ولا في أموالهم، ومن كان في إيمانه شبهة أو شهوة فلا بد أن يواجه بشبهته وشهوته ليحصل الأمن ونرفع الخوف عن المجتمع.
كذلك الأمن ورفع الخوف عن الأعراض أي على النسل، قال الله جل وعلا: { أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6] والأولاد والأعراض الأولاد يعني بنات أو رجال يخاف عليهم، ويريد المرء أن يرى أمنًا في نفسه على أولاده وأن يراهم في أمان، من الناس من يفكر في تأمينهم في التعليم، وفي تأمينهم في الدنيا، وهو نوع أمان طيب للدنيا، لكن ليس كل شيء، بل هناك ما هو أهم منه، وهو أن تكون قلوبهم مطمئنة بالله، منزوع منها الخوف من غير الله جل وعلا، وفيها حب الله جل وعلا وحلاوة طاعته، وهذا الذي يعطيك تحقيق الأمن في نفوس هؤلاء.
ولي الأمر أعني به من له ولاية في شأن من الشئون قلت أو عظمت، من أصغر ولاية إلى الولاية العظمى، ولي الأمر أيضًا من مسؤولياته العظيمة، تأمين الرعية من واجباته العظيمة تأمين الرعية، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في وصفه نفسه: «وأنا آخذ بحجزكم من النار وتريدون أن تتهافتوا فيها» ولاة الأمور واجبهم الأعظم هو حماية دين الناس، واجبهم الأعظم هو حماية آخرة الناس، والدنيا وسيلة يقيمونها لصلاحها، ولا بد وأيضًا من واجباتهم صلاح الدنيا، لهذا قال أهل العلم في السياسة الشرعية: أن واجب الولاة هو إصلاح دين الناس ودنياهم، وإصلاح دين الناس يعني الأمن، أمن الناس، فلذلك لا يجوز لمن ولي شيء من أمور المسلمين قلّت ولايته أو كثرت أن يتساهل في الأمر الديني، ولا أن يتساهل في الأمن في الشريعة، الأمن العقدي، ولهذا كلنا مطالب بأن نكون يدًا واحدًا في تحقيق الأمن العام الديني الذي أمر الله جل وعلا به.
حال الناس:
الحال الاجتماعية فيها اختلاط، يعني بعض الناس يختلط ببعض والإنسان مدني بطبعه يختلط بالناس ويحب مجالسة الناس والجلوس معهم والحديث معهم إلى آخره.
هذه المجالسة إما أن تكون سببًا للأمن أو تكون سببًا للخوف، أو أن تكون مجالاً لإذاعة الأمن أو لإذاعة الخوف، فلها صلة بالأمن النفسي والأمن الديني لكن نأخذ منها حالا واحدة وهي في قول الله جل وعلا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
قال أهل العلم بالتفسير: هذه الآية نزلت في المنافقين، إذا جاءهم خبر أي خبر، ما يتوثقون بصحته أو بعدم صحته، مباشرة انشر، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } أذاعوا به حديثًا لأنها الوسيلة المتاحة عندهم، ويشبههم في هذا من إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف اليوم نشروه في الوسائل المعاصرة، وليست هذه خصلة أهل الإيمان بل هذه خصلة أهل النفاق، كل واحد له منها بقدر ما يستأنس لهذا الأمر، ويتناقله دون تثبت من صحته وربما يتناقل حكما وهو لا يدري عنه شيئا، فهؤلاء إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به.
وفي لفظ الإذاعة خاص بالنشر الكبير، الذي ينتشر في الناس؛ لأنه سيؤول إلى تخويفهم أو إلى تأمينهم.
والمؤمن يجب عليه أن يكون مفتاحًا للخير إذا جاء شيء يسر يطمئن الناس، هذا طيب ينشره في الناس، لكن إذا جاء شيء يخوف الناس أو يقنطهم أو يحبطهم فلا يجوز أن تنشره مع أن المطلوب في كلا الحالين أن تتثبت وأن ترده إلى الرسول في حياته أو إلى أولي الأمر في حياته بعيدًا عنه من أمراء السرايا ونحو ذلك، أو إلى أولي الأمر بعده -صلى الله عليه وسلم-، وهنا الواجب امتلاك اللسان، فكثير من المخاوف أحدثها لسان وكثير من المآمن والأمن جاءت من كلام لسان، ولذلك ما أعظم أثر اللسان واليوم اليد وحركات اليد والأجهزة ما أعظمها في بث الأمن الذي جعله الله جل وعلا نعمة، وسلبه نقمة وعذاب وكفر، يعني جعل من كفر بنعمة الأمن سلبًا له وكفر بنعمة الله جل وعلا، والخوف يخيف الله على من سلب منه الأمن رده.
لذلك لا نستغرب اليوم أن الناس يخافون، إذا ربط المؤمن جميع ما يحدث اليوم في الدنيا يجد أن المخاوف زادت لأن الطمأنينة إلى شرع الله نقصت، وهما أمران متلازمان، الذنوب لها شأن، لكن الطمأنينة التي هي الدين والشرع والاعتقاد والتوحيد وما كان عليه أئمة الإسلام اليوم فيه أناس يتنكرون للدين ويعتبرونه أسس بلاء، يعتبرونه أساس بلاء على الناس، وأن الناس تعيش في غير ذلك.
الدنيا يصلحها العدل، لكن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان، لكن حياة الناس نعم يصلحها العدل ويطمئنون في نظرتهم لبعضهم بالعدل، لكن النفس لا تطمئن إلا بالإيمان، ولهذا يجب علينا أن نعلم أن ما جاءنا من الخوف هو بذنب عملناه، وما أنعم الله جل وعلا علينا به من أمن، فهو نعمة يجب علينا أن نشكرها بالمحافظة عليها؛ لأن حقيقة إصلاح الأرض هو بالدين، { وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } [الأعراف: 56].
اليوم تسلط من يريد مآلا -وإن كان لا يريد قصدًا- على دين الناس دون عقوبة، ومن لم يؤخذ بعقوبة هذا فإنه سوف يكون الخوف في الناس بقدره، فإن عالج الناس أنفسهم وعادوا إلى دين الله وتابوا وأنابوا كل على حسب مسئوليته، فإنه يأمن.
خلاصة الأمر أن هذا الموضوع كبير جدًا في القرآن العظيم كما ذكرت لكم، آيات الأمن أو جاء لفظ الأمن في تسع وأربعين مرة، وجاء لفظ الخوف مائة وأربعة وعشرين مرة، وهذا يقتضي بحوث عظيمة في كل آية تقتضي ذلك.
لخصت ما استطعت من ذلك في هذا المقام، أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعًا لما فيه رضاه، اللهم احفظنا بحفظك، واجعلنا من الآمنين في الدنيا والآخرة، نحن ووالدي ووالدنا وأهلونا ومن له حق علينا آمين يا رب العالمين، اللهم أصلح ولاة أمورنا، ودلهم على الرشاد، يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، ونعوذ بك أن نكون متعاونين على الإثم والعدوان، يا رب العالمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إلينا معادنا، وأمنا يوم الفزع الأكبر، اللهم أمنا يوم الفزع الأكبر، وابعد عنا الخوف في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الأسئلة
أحسن الله إليكم يقول السائل: ما رأيكم في الذي يحصل الآن في بعض الدول من استهزاء بالنبي عليه الصلاة والسلام وما رأيكم بالذين يرسلون الرسائل التي تهيج عاطفة المسلمين بالخروج ضد الكفار في دولهم وجزاكم الله خيرًا؟
أولاً: إذا وقعت واقعة في حياة الناس فيجب أن يرجعوا فيها إلى الشرع، وألا يجتهدوا فيها بما يقتضيه فهمهم أو غيرتهم، لأن الغيرة على دين الله مع كونها محمودة، لكنها لا تكون صوابًا إلا بدليل، والإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والاستهزاء به أو النيل منه عليه الصلاة والسلام كفر إن كانت من مسلم يكفر بذلك، وإن كانت من غير مسلم سبًا أو استهزاء أو شتمًا أو نحو ذلك فإنه له جزاء الكفار المستهزئين بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذه النازلة اليوم هي في الحقيقة الواقعة ليست نازلة، الرسل لم يزالوا في حياتهم يستهزئ بهم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- استهزئ به، ورمي عليه ألقي عليه سلا الجزور، وقيل عنه ساحر، وقيل عنه مجنون، وطرد وكان يتتبع في الأماكن ويكذب عليه الصلاة والسلام، والناس في مكة كان لهم حكم غير الناس في المدينة، الناس في مكة كانوا أقلية الصحابة وقت الإيمان والمشركين في دارهم لم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا أن ينتقم له بطريقة ما، وإنما كان الأمر له عليه الصلاة والسلام حتى أذن الله جل وعلا له بالهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأهل منى لما قالوا له للصحابة قالوا: يا رسول الله لو شئت لملنا على أهل منى بأسيافنا، قال: «لا، لم نؤمر بعد» لأن الأمر في ذلك سيكون في المدينة إذا كانت للإسلام قوة، فدل ذلك على أن وجود الاستهزاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قديم، إذا كان من المشركين النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بالرسل قديم، والانتقام في هذه الحال ليس مشروعًا، لأنه في دار ضعف، وليس في دار أخذ للحق، وأما في المدينة فحينما قامت دولة الإسلام والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان مع ما نال منه واستهزئ به كان له معه شأن آخر وعاقب من عاقب، وشهر بمن شهّر وأعلن بمن أنهم منافقون من أعلن، عليه الصلاة والسلام، والقرآن سمى من سمى، هذا يختلف باختلاف القوة إذا كان في بلد الإسلام فيرفع بهذا إلى ولي الأمر أو إلى الدولة تأخذ الحق، وأما هذه الأمور فليست متروكة لانتقام الناس بعضهم من بعض، وإلا أصبحت الأمور فوضى كبيرة.
وهذا مع أن الإجرام الكبير الذي حصل في تلك الصحف التي أساءت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بكريكاتيرات قديمة منذ عدة سنوات سواء في أوروبا أو في غيرها هذه واجهها المسلمون بما واجهوها بها، ولا شك أن هذا يغيظ المؤمن ولا يسر إلا المنافق أو الكافر، ويجب مواجهة ذلك بما أوجهوا به، وحصول ما حصل في بعض البلاد من ذلك هو كما قال أهل العلم: هو اعتداء ليس من حقهم أن يعملوه وإن كان من فعل ذلك مستحقًا للعقوبة لأنه استهزئ بنبينا عليه الصلاة والسلام الذي نفديه بأموالنا وأنفسنا وأهلينا عليه الصلاة والسلام فالفاعل للاستهزاء والقائم به مستحق للعقوبة، والمنتقم والمعاقب ليس له حق أن يعمل مثل هذا العمل لأجل صيانة الحقوق التي أمر الشرع بصيانتها، والله أعلم.
كما قال جل وعلا: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ } [الحجر: 97-99] فإذا ضاق الصدر بما يقوله المشركون فإن أهل الإسلام عليهم رد ذلك بما يمكنهم ذلك بما يوافق سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعليهم الصبر في التزام الشرع وعدم تعدي الحد، لأن الغيرة في ضبطها تحتاج إلى صبر، وقد تصل بالمرء إلى حال لا يصبر معه، ولذلك حمل الصبر في كل الأحوال، نعم.
أيها الأحبة ننبه على لقاء الأسبوع القادم لندوة بعنوان «تربية الأولاد وأثرها في تحقيق الأمن الفكري» لصاحبي الفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد النجمي، والشيخ محمد بن زيد المدخلي، فنهيب بالأحبة الحرص على حضور هذه الندوات والمحاضرات الطيبة المباركة.
معالي الشيخ: كثير من الأسئلة تسأل: هل سنرى معالي الشيخ في الدروس والأيام القادمة وجزاكم الله خيرًا؟
إن شاء الله تعالى وسيعلن عنها في وقتها بإذن الله، نسأل الله لنا ولكم الإعانة والتوفيق.
سائل يقول: إني أحبك في الله يقول: هل تقدير المصلحة والمفسدة للشرع أم للشخص بمعنى يقول: ما ضابط المصلحة وضابط المفسدة؟
أولاً: المصلحة والمفسدة كلمتان مرعيتان في الشرع، ومن قواعد الشرع الحكيم كما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، فالمصلحة مرعية ومطلوب تكثيرها ومطلوب رعايتها، والمصالح ضد المفاسد، المصلحة عدة أنواع، لم يأمر الشرع بشيء أو شرعه على وجه الاعتقاد أو على وجه الإيجاد أو على وجه الاستحباب أو على وجه المنع والتحريم أو الكراهة إلا وفيه مصلحة، أوامر الشرع منوطة بالمصلحة وأيضًا أوامر الشرع منوطة بدرء المفسدة.
وهذه المصالح أنواع: منها: مصلحة هي في ذات أمر الشرع، يعني تستفاد المصلحة من نص الشارع في القرآن أو في السنة أو ما أجمع عليه أهل الإسلام، يعني المصلحة تؤخذ منها، يكون فيها رعاية المصلحة فتعلم من الشريعة نفسها، يعني من الحكم نفسه، من الدليل نفسه.
النوع الثاني: مصلحة مستنتجة، والمصلحة المستنتجة نوعان:
مصلحة منصوص على مثلها في الشرع.
والثاني: مصلحة لم ينص على مثلها في الشرع، فهي مرسلة.
والمصالح المطلقة هذه والمرسلة النوع الثاني هي صنعة المجتهدين من أهل العلم، لكن هذا فيما يتعلق ببناء الحكم على قاعدة المصالح والمفاسد، لكن فعل الإنسان في نفسه الله جل وعلا هداك للنجدين، طريق الخير وطريق الشر، تعرف الذي فيه مصلحتك في الدنيا والآخرة وتعرف الذي فيه مفسدتك في الدنيا والآخرة، فعندك، عند كل إنسان نوع معرفة بالمصالح التي تكون في حقه قوة، وبالمفاسد التي تكون في حقه ضعف، فهنا إذا أدركت مصلحة لشيء تختاره أما المصلحة المتعلقة بالاستنباط من النص فهذه لها شروطها وهي متعلقة بالفقهاء والمجتهدين من علماء الأمة.
أحسن الله إليكم، يقول السائل: لماذا الأمن يتعلق بالإيمان وجزاكم الله خيرًا؟
ذكرت لك في الكلمة أن الاشتقاق أصله واحد، أمن إيمانًا، آمن إيمانًا، لأن آمن هذه عبارة عن حرفين (همزة وهمزة) ولأجل تثاقل الهمزتين جعلت مدًا (آمن) هي أصلها (ءأمن) فأصلها من حيث الاشتقاق واحد عند كثير من علماء العربية.
ومن جهة الشرع فإن الإيمان هو وسيلة الأمن في الدنيا والآخرة، كما قال الله جل وعلا في الآيات التي ذكرنا، وقال جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } إلى أن قال: { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ } [الأنبياء: 101-103] فالأمن في الدنيا والآخرة ثمرة من ثمرات الإيمان بالله جل وعلا وبرسوله وبكتابه وبدين الإسلام، نعم.
أحسن الله إليكم لعلنا نختم بهذا السؤال: يقول السائل: النفس مصممة على ذنب معين كيف الخلاص منه؟
قراءة القرآن وكثرة الدعاء، ومعرفة أثر الذنب، ولابن القيم رحمه الله كتاب الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وفيه مقدمة طويلة جدًا في ذكر آثار الذنوب، فمن علم أثر الذنوب ولو لم يكن من أثرها إلا أنها تبعد المرء عن الله جل وعلا بقدرها إن لم يسارع بالاستغفار والإنابة والتوبة والحسنات الماحية، ولا خير في الذنوب، الذنوب لا خير فيها، والاستئناس للذنوب على اختلاف أنواعه، ذنوب القلب، ذنوب اللسان، ذنوب العين، ذنوب المشي، ذنوب في حق الغير، من أقل الذنوب إلى أعظمها وهو الشرك بالله جل وعلا لا خير للإنسان فيه، والعبد المؤمن إذا عوَّد نفسه ترك الذنوب اعتادت عليها، ليس صعبًا لكن تعوّد النفس على شيء، ثم يصعب عليك تركه لأنك تعودت عليه، فالواجب على المؤمن القوي أن يعود النفس على ما لا يضره في كبره، لأن النفس إذا تعودت على شيء إذا كبر قد يألف هذا الشيء، ولا يدري متى الممات، لكن يعود نفسه على شيء يكون فيه قوة على النفس حتى تلين، يصبح لا يقلع عنه بل تأنف نفسه من بعض الذنوب والآثام، هذا راجع إلى قوة العبد مع نفسه وهو أمر صعب خاصة في مثل زماننا هذا على الشباب لكن من استعان بالله أعانه، ومن استكفى بالله كفاه، وأكثروا من قراءة القرآن، يا شباب أكثروا من قراءة القرآن والصلاة، خاصة صلاة الليل لمن تمكن قراءة القرآن والتدبر فيه فيه قوة للنفس، يعطيك قوة للعبد، لا تنظر لأحد بشيء، يكون عندك قوة في قلبك لا تهتم إلا بما أراده الله جل وعلا، وإذا أذنبت فاستغفر، فخير المذنبين المستغفرون.
——————-