محمد -صلى الله عليه وسلم- محرر الإنسان والزمان والمكان
الثلاثاء،22ربيع الأول1436الموافق13يناير/كانون الثاني2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د.محمد العزب
حين يحدق الباحث في ملامح الحركة التاريخية قبل وبعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتاج إلى معاناة ليستجلي حقيقة موضوعية أكبر من أن تتوارى في غياهب الجدل، هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الميلاد العظيم كان إيذانًا بثورة كونية شاملة عملت عملها في تغيير علاقات الأشياء بعضها مع البعض، وفي تغيير علاقات الأحياء بعضهم مع البعض، حتى ليمكن القول بأن ما حدث كان تحريرًا كاملا لوضعية الإنسان في الأرض، ووضعية الأرض في الكون، ووضعية الزمان في التاريخ.
أجل، كان هذا الميلاد العظيم إيذانًا ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعًا، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجًا قبليًّا على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهِمَ ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولكن كيف؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان من ربقة عبودياته المتعددة؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الزمان من قبضة كونه إطارًا للحركة التاريخية الهابطة؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم المكانَ من وضعية كونه صنمًا أو مناطًا لصنم معبود على الأرض؟
القضية جرت بها أقلام كثير من الباحثين، ولكنهم تناولوها من منظور كمي إذا جاز أن يقال، بمعنى أنهم رصدوا كمَّ التحول التاريخي على مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، دون أن يفطنوا إلى جدل هذه المستويات وإشعاعاتها التي تشكل خلفياتها الحقيقية، وهو ما نحاول تجليته في هذه السطور..
ولكن.. كيف.. مرة أخرى؟
***
التاريخ هنا لا يستطيع أن يكذب على نفسه.. فإن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إنسانية الإنسان تكاد تشكل كل ملامح رسالته الشامخة، لأن القيم والأعراف والمبادئ والنواميس والأحكام والشرائع والقضايا والمقولات التي يمكن أن تشكل في النهاية مجموع الرسالة الإسلامية ليست بذات بال إن هي فقدت محور وجودها الصميمي الذي هو الإنسان.
إن قيام الإنسان بهذه المواضعات الإسلامية هو ما يعطيها معقولية وجودها على الأرض، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن نزول القرآن “منجّمًا” كان ترتيبًا طبيعيًّا على مقدمة أساسية وهي أن معاناة البشر الكادحين هي بالضرورة محور تنـزُّل الوحي من السماء إلى الأرض، أي أن وجود الشرائع والرسالات هو وجود متوقف على وجود آخر قَبْلي ومسبق وهو الوجود الإنساني، فما لم يوجد الإنسان كان لا يمكن أن توجد الشرائع، وما لم يحفر البشر تاريخهم الحلولي على أخاديد الصخور وأعراف الجبال كان لا يمكن للرسالات أن تحفر تاريخها الحلولي على أخاديد الورق أو في أعراف الطبائع والنفوس!
إذن فقد كان تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان تحريرًا مقصودًا وقَبْليًّا، ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة بأن كل الجراح التي نزفت من محمد صلى الله عليه وسلم كانت جراحًا حميمة إلى قلبه، لأنها نزفت دمًا هنا ورقَأَتْ دمًا بلا حدود هناك، أعني أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع.
إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنوانًا على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!
كان الإنسان –قبل محمد صلى الله عليه وسلم- يتكئ في قناعته على مسلّمات كثيرة، فأطلق محمد صلى الله عليه وسلم فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح.. لقد زلزل هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق، فأطلق لفكره العِنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائمًا لطبائع التطور، ويشيد على أنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزًا عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني.. وزلزل هذا الإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت، فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من «القيمة» وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب..
وزلزل هذا الإنسان أخيرًا بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض، فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.
وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد صلى الله عليه وسلم لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليدًا بلا عقل، وكاسدًا بلا فعل، ومعطلا بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء!
المصدر: موقع اسلام ستوري