مدخل لفهم أزمة الإخوان المسلمين في الأردن
الخميس 10 شعبان 1436//28 مايو/أيار 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
فراس أبو هلال كاتب وصحفي
تواجه جماعة الإخوان المسلمين في الأردن أزمة هي الأخطر في تاريخها منذ تأسيسها 1945، بعد حصول مجموعة من قياديي الجماعة على قرار حكومي بإعادة ترخيصها كجمعية تابعة لوزارة التنمية السياسية، مما أدخل الجماعة في جدل واسع حول الشرعيات، مع تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن الأزمة بين المكتب التنفيذي المتهم بـ”التعنت” والمجموعة التي تقدمت بطلب الترخيص ويتهمها خصومها “بالانقلاب والاستقواء بالدولة”.
وبعيدا عما قد تنتج عنه الحوارات الداخلية بين أطراف الأزمة ومحاولات الإنقاذ التي تقودها مجموعة ما يعرف بـ”حكماء الإخوان” والتي قد تصل إلى حل بين لحظة أو أخرى، فإن هذه السطور ستقدم مدخلا لفهم أسباب الأزمة الجذرية التي لم تكن وليدة الصراع الدائر حاليا في أروقة الجماعة.
الأسباب الرئيسية للأزمة
وبالعودة إلى ما نشر في الإعلام عن الأزمة، فإن أسبابا كثيرة تطرح من كل طرف، ولكننا يمكن أن نجملها في الأسباب الرئيسية التالية:
الأول: اتهام كل من تيار “الحمائم” و”اللجنة التحضيرية لإصلاح جماعة الإخوان المسلمين” لقيادة الجماعة الحالية ممثلة في المكتب التنفيذي -الذي يرأسه الدكتور همام سعيد- بقيادة تيار إقصائي، وبالعمل على تحريك تنظيم سري داخل الجماعة، وبتزوير الانتخابات من خلال “شراء الأصوات” و”شراء الذمم”، بينما يرد المكتب باتهام معارضيه برفض الخضوع لنتائج الانتخابات.
الثاني: اتهام تيار “الحمائم” لقيادة الجماعة بالتعنت ورفض مبادرات الإصلاح، وعدم الالتفات للأصوات المعارضة لها، واللجوء بدلا من ذلك لتشويه هذه المعارضة، والاعتماد على شرعية الصندوق بدلا من شرعية التوافق، بينما يقول المكتب إن دعاوى الإصلاح تتم خارج أطر الجماعة وتسعى للانشقاق عليها (مبادرة زمزم مثالا).
الثالث: الاختلاف على برنامج الجماعة وعملها، حيث يتهم “الحمائم قيادة” الجماعة برفض العمل بأجندة وطنية أردنية وإيلاء القضية الفلسطينية الأهمية الكبرى في برامجها، وعدم الاهتمام بالقضايا الوطنية وهموم الأردنيين، وبالعمل لمصلحة تيار من حركة حماس يريد السيطرة على إخوان الأردن، بينما ينفي المكتب هذه التهم ويرد بعض مؤيديه باتهام تيار “الحمائم” بالتخلي عن دعم “القضية المركزية للأمة”.
والحقيقة أن هذه الأسباب الثلاثة وغيرها تمثل أعراضا للأزمة وتمظهرا لأسباب جذرية أكثر عمقا، والتي يمكن إجمالها بالطبيعة السرية للجماعة، والجدل حول برنامج الجماعة وأجندتها الوطنية، وعلاقة الإخوان بحماس وما يسمى “التنظيم الدولي”.
السرية في عالم مفتوح
تمثل “السرية” الكلمة المفتاح في فهم كثير من أسباب الأزمة الإخوانية في الأردن.
فالسرية هي المسؤولة عن الصراع حول ما يسميه تيار “الحمائم” التنظيم السري الذي يقول الدكتور شرف القضاة (أحد زعماء هذا تيار “الحمائم”) إنه موجود منذ الستينيات، وهو نفس الأمر الذي يؤكده الأستاذ عبد المجيد ذنيبات (رئيس اللجنة التحضيرية للإصلاح)، حيث يقول الرجلان إن التنظيم السري قديم جدا ولكنه ازداد قوة وتأثيرا في السنوات القليلة الماضية.
وفي ظل اعتماد نهج “السرية” في الجماعة، فإن من العسير على المراقبين أن يفهموا حقيقة هذه الاتهامات، وأن يقرروا إن كان هناك بالفعل تنظيم سري داخل الإخوان في الوقت الذي تنفي فيه القيادة الحالية للجماعة وجوده.
وعندما يتم النظر بعين البحث في هذه الأزمة التي يمر بها إخوان الأردن، فإن الباحث يقف عاجزا عن فهم سبب سكوت تيار “الحمائم” -الذي قاد الجماعة فترات طويلة- عن وجود هذا التنظيم واللجوء لإثارته في هذا الوقت، حيث لا يمكن فهم هذا السكوت إلا كجزء من تمظهرات المنهج السري في عمل الجماعة، الذي يجعل “تنظيما” كهذا -إن صح وجوده- مجهولا لدى أصدقاء فضلا عن خصوم الإخوان.
وإذا انتقلنا لدراسة السبب الآخر للأزمة وهو الطعن في شرعية الانتخابات، والاتهامات بتزوير إرادة الأعضاء وشراء الأصوات أو “شراء الذمم”، فإن من الممكن الربط بين هذا السبب وإشكالية “السرية” أيضا، حيث يقول رافضو نتائج الانتخابات إن قيادة الجماعة فازت بالترويج لمرشحيها بين الأعضاء، “وهو أمر ممنوع حسب لوائح الجماعة” بحسب تصريحات رئيس لجنة العلماء في الإخوان شرف القضاة.
وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى إشكالية “السرية” التي تتناقض -من ناحية المبدأ- مع مفهوم الانتخابات، الذي يقوم أساسا على الإشهار والترويج وعرض البرامج للأعضاء المؤهلين للانتخاب.
ولا شك أن هناك عوامل تاريخية لعبت دورا في انتهاج الإخوان للسرية، خصوصا بعد الحملة التي تعرضت لها الجماعة بمصر في عهد جمال عبد الناصر، وما رافقها من مخاوف جعلت السرية منهجا أصيلا لدى الإخوان، مكنهم فيما بعد من الصمود في مواجهة حالات المد والجزر في العلاقة بينهم وبين الدولة في عدة بلدان عربية، ومنها بالطبع الأردن.
ولكن التغييرات التي شهدها الأردن في أعقاب هبة أبريل/نيسان عام 1989 وإطلاق عملية “ديمقراطية” نسبية، جعلت مبدأ “السرية” خاضعا للنقاش، حيث لم يعد الانتماء للإخوان تهمة تعرض صاحبها للخطر، في ظل مشاركة شاملة للإخوان في العملية السياسية، وحصول الجماعة على ما يقارب ثلث أعضاء مجلس النواب.
وكذلك في ظل انتشار كثيف لمقرات الإخوان في مراكز المدن الأردنية، تعمل وتفتح أبوابها بشكل علني في تناقض مع منهج “السرية”، وهو ما جعل الجماعة تعيش وضعا هجينا في الأردن، فلا هو بالسري ولا هو بالعلني.
ومع انطلاق شرارة “الربيع العربي” في تونس، دخلت المنطقة في حالة غير مسبوقة من النشاط السياسي والإعلامي والشعبي، أصبح معها من المستحيل لأي جماعة سياسية أن تعمل في السر، حيث باتت نشاطات الإخوان وأسماء قياداتهم وأعضاء المجالس القيادية ونقاشاتهم الداخلية تظهر على صفحات المواقع الإلكترونية حتى قبل أن يعرف بها الإخوان أنفسهم!
” كما أصبحت الخلافات الداخلية والموقف من الدولة والعمل السياسي عناوين للنقاش العام على صفحات التواصل الاجتماعي. فأي سرية بعد كل هذا الانفتاح؟ وأين إمكانية العمل السري أصلا لأي مجموعة في هذا العالم المفتوح المرصود بوسائل الاتصال من كل جانب؟!
لقد أصحبت السرية بعد كل هذه التطورات عبئا على الإخوان والمجتمع بشكل عام، إذ إن الجماعة تمارس العمل العلني في الواقع، ولكنها في نفس الوقت لم تكرس هذا المبدأ بطريقة قانونية، فصارت والحال هذه تعاني من اتهامات بالعمل السري ومن إشكاليات هذا النوع من العمل، في الوقت الذي لا تحقق فيه أي مكاسب من السرية في ظل ممارستها للعمل العلني واقعا.
وبالطبع، ليس المقصود من هذا المدخل تأييد موقف الطرف الذي أقدم على طلب الترخيص خارج أطر الجماعة، وهو موقف وُوجه برفض واسع حتى من معارضي المكتب التنفيذي، مثل المراقب العام السابق سالم الفلاحات ورئيس مجلس النواب السابق عبد اللطيف عربيات ورئيس جبهة العمل السابق حمزة منصور؛ ولكن المهم هو أن الزمن -خصوصا بعد الربيع العربي- لم يعد يحتمل العمل السري، كما أن طبيعة أداء الإخوان السياسي على أرض الواقع يجعل من “السرية” عبئا بدلا من أن تكون مكسبا.
الأجندة الوطنية في برنامج إخوان الأردن
منذ ظهور تيار “أردنة الجماعة” في منتصف التسعينيات بقيادة ما كان يعرف بتيار “الوسط الذهبي”، أصبحت مفردة “الأجندة الوطنية” جزءا من النقاش الساخن في أروقة جماعة الإخوان في الأردن. والحديث هنا عن اتهامات لتيار معين داخل الإخوان بإعطاء أولوية لخدمة القضية الفلسطينية في أجندة الجماعة على حساب الاهتمام بالشأن الوطني الأردني، وهو ما شكل عنوانا رئيسيا في الخلافات الداخلية للجماعة سنوات طويلة.
وفي محاولة لفهم هذا الخلاف، يمكننا الاستعانة بنظرية “الحركات الاجتماعية” التي يستخدمها كثير من الأكاديميين في الدراسات النظرية للحركات الإسلامية.
وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ رئيسية، ولكن ما يعنينا في هذا النقاش هو المبدأ الأول الذي يطلق عليه “Political Opportunity” أو (الفرصة السياسية). ويُعنى بهذا المبدأ أن الحركات الاجتماعية تقوى وتضعف، وتبني أجندتها بناء على الفرص السياسية في البلد الذي تنشط فيه، وبناء على مدى “الانفتاح” أو “الانغلاق” في اللعبة السياسية في هذا البلد، مما يعني أن الحركة تقدر برنامجها وفق ما يتاح لها من عمل، واستنادا لحسابات الربح والخسارة من ممارسة هذا النشاط أو ذاك.
وبالنظر إلى تاريخ الإخوان في الأردن، يمكن القول إن الجماعة آثرت الابتعاد عن الانغماس في القضايا “الوطنية” المصيرية بشكل ينسجم مع حجمها وتأثيرها، لما تمثله هذه المشاركة من إمكانية المواجهة مع الدولة، ولذلك فقد كان دور الإخوان هامشيا في أهم حالتيْ احتجاج شهدتها البلاد خلال العقود الماضية، ونقصد بهما: هبة أبريل/نيسان 1989 وأزمة الخبز 1996، بينما اكتفت الجماعة بالعمل ضمن سقف الحراك الأردني الشبابي خلال الاحتجاجات التي استلهمت الربيع العربي خلال الأعوام الأربعة الماضية.
وفي المقابل، فإن تركيز الجماعة على نشاطات وبرامج تهتم بالقضية الفلسطينية وتأييد المقاومة والتنديد بجرائم دولة الاحتلال، ينسجم مع ما تؤمن به من “إسلامية” قضية فلسطين من جهة، وهو نشاط يكسبها جمهورا واسعا في بلد تتفق فيه كافة شرائح الشعب على دعم المقاومة وفلسطين من جهة أخرى، ودون أن يسبب أي مواجهة مع الدولة التي تتعامل بتسامح -منذ عام 1989- مع أغلب حالات التظاهر والاحتجاج لصالح قضايا قومية وإسلامية.
والحقيقة أن جميع تيارات الجماعة استخدمت هذا الأسلوب في قيادة الحركة، حيث تتماهى المواقف في الجماعة في جميع الفترات سواء تلك التي كانت تحت قيادة “الحمائم” أو “الصقور”، ولهذا نجد مثلا أن القيادة التي أدارت مقاربة الجماعة الهادئة مع أزمة الخبز عام 1996 كانت برئاسة عبد المجيد ذنيبات (الذي يقود الآن حملة المطالبة بأجندة وطنية للجماعة)، بينما فشلت التيارات المختلفة -على مدى 25 عاما من العمل السياسي المفتوح- في صياغة برنامج سياسي واضح يعرض على الشعب، بعيدا عن الشعارات الفضفاضة.
إن النقاش الحقيقي في الجماعة يجب أن يدور حول طبيعة البرنامج الوطني، وليس حول المفاضلة بين الدور الوطني والدور القومي، إذ إن ما يجري حاليا من جميع الأطراف هو الهرب إلى دور قومي شعبوي “غير مكلف” سياسيا، بدلا من الاتفاق على بناء أجندة وطنية والاستعداد لتحمل نتائجها وتداعياتها، دون أن يعني ذلك التخلي عن الدور القومي الذي تقع فلسطين في قلب أولوياته.
أسطورة التنظيم الدولي.. والعلاقة مع حماس
تشكل العلاقة مع التنظيم الدولي وحركة حماس أحد أسباب الأزمة الجذرية لجماعة الإخوان في الأردن. وبحسب رئيس اللجنة التحضيرية التي تقدمت بطلب ترخيص الجماعة عبد المجيد ذنيبات، فإنها كانت جزءا من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وأن الوقت حان لتصبح جماعة أردنية غير مرتبطة بالتنظيم الدولي.
ويمكن اعتبار “التنظيم الدولي” إحدى “الأساطير المؤسسة” لسوء الفهم حول جماعة الإخوان، حيث إن هذا التنظيم -الذي لا يمثل سوى جهة استشارية لا تتدخل حقيقة في قرارات الفروع- أصبح سيفا مصلتا على جماعات الإخوان في أكثر من بلد.
وفي الوقت الذي يقول فيه ذنيبات إن الهدف من التسجيل هو تحويل الجماعة إلى هيئة أردنية، فإنه يقر -في لقاء مع موقع “عمون” الإخباري في 3 مارس/آذار الجاري- بأن “التنظيم الدولي لا يتدخل في الجماعات (الفروع) ولا في سياساتها وانتخاباتها”، وأن دوره يقتصر على النصح والأفكار والخطط العامة، مضيفا أن “التنظيم الدولي لم يتدخل في الأزمة الحالية لأنه لا يتدخل في الشؤون الداخلية (للفروع)”.
وبالعودة إلى تاريخ الإخوان القريب، نجد أن كل جماعة اتخذت قرارات تختلف -وأحيانا تتناقض- مع جماعات أخرى، مثل الموقف من حرب الخليج الأولى 1991، وعلاقة حماس بالنظام السوري، والموقف من احتلال الولايات المتحدة للعراق. إن كل هذه المواقف -إضافة إلى تصريحات ذنيبات- تؤكد أن التنظيم الدولي هو عبارة عن أسطورة تمثل (تماما مثل السرية) عبئا على الإخوان في كافة الأقطار بدلا من أن تكون مكسبا لهم.
وبما أن التنظيم الدولي بشكله الحالي أصبح يمثل عبئا على “جماعات” الإخوان، فقد أصبح هذا التنظيم مطالبا بتفكيك طبيعة العلاقة مع الفروع وتوضيحها للمهتمين بأمر الجماعة بشكل علني، حيث يمكن أن يكون مجرد هيئة استشارية تمثل نوعا من التنسيق المعلن كما هو الحال في تنظيمات أو هيئات مشابهة “كالاشتراكية الدولية” مثلا، وبهذا يتحول إلى مصلحة للإخوان بدلا من أن يبقى عبئا عليهم وأسطورة لا يعرف الصحيح من الخطأ فيما يثار حولها من اتهامات.
أما العلاقة مع حماس، فإنها قد حُلت بقرارات اتفق عليها بين الجماعة والحركة بحسب ما نشر في وسائل الإعلام قبل سنوات، وإن ما يجري حاليا لا يعدو كونه استخداما لحماس من طرفيْ الأزمة؛ إذ يدعي أحدهما احتكار تمثيل حماس والدفاع عنها داخل الإخوان، بينما يدعي الطرف الآخر أن حماس تحاول السيطرة على الإخوان.
أما حماس فقد أعلنت بشكل رسمي أنها لا تدعم أي طرف، وأنها ترفض أن يتم استخدامها في الصراع الداخلي. وهو أمر يجب أن يعاد توضيحه بشكل علني وحازم من قبل حماس، بحيث لا تتحول القضية الفلسطينية والمقاومة من نقطة إجماع إلى عنوان للاختلاف بين أطراف الأزمة الإخوانية.
المصدر : الجزيرة.نت