معاني الوجود والهدف (كنتم خير أمة)
الإثنين 17 ربيع الأول 1437//28 ديسمبر /كانون الأول 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
د. محمد عبدالمعطي محمد
معاني الوجود والهدف
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾
لا بد أن تتضح معاني الوجود والهدف..
يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾. [آل عمران: 110].
(إن شطر الآية الأول يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجباً ثقيلاً، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة. والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض.
ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية. إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها.
وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه.
ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح..
هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها.
وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي خير أمة أخرجت للناس.
لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف – تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً – وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ».. كلا!
إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر:
﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]
إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد..
وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته، ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة..
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر.
فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي.
فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل.
ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر. يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
وهذا ما يحققه الإيمان، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون..) [1].
أقول: إن اختيار هذه الأمة لهذا الدور الكبير والشاق ليس تشريفا وتكريما بقدر ما هو تكليف تنقطع دونه الأعناق..
هو تكليفٌ استلزمه الإيمان العميق بالله، وبمنهجه في إصلاح الحياة، ويستلزم هو بدوره إثبات حقيقة هذا الإيمان على أرض الواقع عملا وقولا يقيمان منهج السماء على الأرض..
وهذا اعتقادنا ندين لله به، ولا نخشى في الله لومة لائم..
(فإن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار، ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار، بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين.
ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه.
فليس مقامه مقام التقليد والإتباع إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ومقام الإرشاد والتوجيه، ومقام الآمر الناهي.
وإذا تنكر له الزمام، وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة، لم يكن له أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور عليه وينازله، ويظل في صراع معه وعراك، حتى يقضي الله في أمره.
إن الخضوع والاستكانة للأحوال القاسرة والأوضاع القاهرة، والاعتذار بالقضاء والقدر من شأن الضعفاء والأقزام.
أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد) [2].
إن الرجال في الإسلام لا يعرفون اليأس من الحياة، ولا يهابون الموت، فحتى الموت – عينه- يصنعون منه حياةً؛ ولكنها حياةٌ أبدية في نعيمٍ لا ينقطع..
يقاتلون من أجل نشر النور، والحق، والعمار، والخير؛ ولا يبالون بأي ثمنٍ يدفعونه في طريقهم نحو تحرير العباد من رِق العباد، ومن رِق الشهوات، وإخراجهم إلى النور من داهم الظلمات..
ذلك لأن موتاً واحداً يخلِّف حيواتٍ لا تُحصى لقلوبٍ دخلها نور الإسلام..
ولنرجع إلى جوستاف لوبون وكتابه حضارة العرب لنسمعه يقول:
(إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا…
وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب.
فهم الذين مدّنوا أوربة مادةً وعقلاً وأخلاقاً، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه..
إن أوربة مَدينةٌ للعرب بحضارتها..
والحق إن أتباع محمد كانوا يذلّوننا بأفضلية حضارتهم السابقة، وإننا لم نتحرر من عقدتنا إلا بالأمس! وإن العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين..
فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية؛ وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان..
ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبة…).
وبعد هذه الكلمات الصادحة بنور الحق من لسان رجلٍ هو الأكثر حرصاً على تاريخه وحضارته؛ يعترف فيها بأن الحرية والحضارة والتمدن والعلم كان كل ذلك وأكثر حينما كان الإسلام في الصدارة..
بعد هذا الحديث الشجي يؤسفني كل الأسف أن باتت حضارة الرجولة بين المسلمين – بل وفي العالم بالتبعية – طرفاً من أطراف حكايات التاريخ، وصرنا نرى ضوضاء المخنثين والمطالبين بحقوق الشواذ في كل مكان.
وما ذلك إلا لأن الرجال في الذكور قليل، والأبطال في الرجال أقل..
ذُلَّ المسلمون من بعد عزة، وصاروا في ذيل الأمم وقد كانوا رأسها..
وما ذلك إلا لأنهم تمردوا على مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ونبذوا تعاليمها وراء ظهورهم؛ وخدعهم الفرنجة ببريق مدارسهم..
فبعد أن قادوا الأمم في مدرستهم النبوية، صاروا التلاميذ المنبوذين في مدارس غيرهم.. مع أنهم -وباعترافهم- عالةٌ علينا، قد أخذوا مِنَّا الأخلاق والقيم والعلوم والفنون…
________________________________________
[1] في ظلال القرآن لسيد قطب 1/ 446 – 449 ط. الشروق مصر. بتصرف يسير وحذف.
[2] من بحث للأستاذ أبي الحسن الندوي رحمه الله تعالى عنوانه: – شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال ص 66 – 68.
الألوكة