من حسن إسلام المرء
الأربعاء 5 جمادى الثانية1436//25 مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
ملخص الخطبة
1- القلب السليم والنفس الزكية. 2- فضل ترك مالا يعني وفوائده. 3- مفاسد الاشتغال بما لا يعني. 4- الأمر بحفظ اللسان. 5- خطورة الكلمة. 6- التحذير من الاشتغال بعيوب الناس وتتبع عثراتهم. 7- سبيل الخلاص من هذا الوصف الذميم. 8- ميزة التثبت في شريعة الإسلام.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيّها المسلِمون، القُلوبُ السليمةُ والنفوسُ الزكيّة هي التي امتلأَت بالتقوَى والإيمان، ففاضت بالخير والإحسان، وانطبع صاحبها بكلِّ خلق جميل، وانطوت سريرتُه على الصفاء والنقاءِ وحبِّ الخير للآخرين، فهو مِن نفسه في راحة، والناس منه في سلامةٍ، أما صاحب القلب السيئِ والخلقِ الذّميم فالنّاس منه في بلاء، وهو من نفسه في عناء.
وإنَّ المتطلِّب بصدقٍ صلاحَ قلبه وسلامةَ صدره ليسلُك لتحصيل ذلك مسالكَه، ويستصلح قلبَه بما يطهِّره، ويجنِّبه ما يكدِّره. ولقد حوَى الكِتاب كما حفِلَتِ السنّةُ بكلِّ خير وهدى مما يعود على النفوس والقلوبِ بالزكاء والصفاء، ومن ذلكم ـ عباد الله ـ ما رواه أبو هريرةَ أنَّ النبيَّ : ((مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)) رواه الترمذيّ وابن ماجه ومالك في الموطأ وأحمد في المسنَد.
إنّه أصل عظيمٌ من أصول الأدَب، فيه أنَّ من ترك مَا لاَ يَعني وفعَل ما يعنيه فقد حسُن إسلامُه، وقد جاءَت الأحاديث بأنَّ مَن حَسن إسلامه ضُوعِفت حسناته وكفِّرت سيِّئاته كما في صحيح مسلم وغيره.
وفي المسندِ عن أنس أنَّ النبي قال: ((لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه))، وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ قال: ((مَن كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت))، وعند قول الله عز وجلّ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] قال بعض السلف: “أما يستحِي أحدُكم لو نشِرَت صحيفتُه التي أملى صَدرَ نهاره وليس فيها شيءٌ مِن أمر آخرته”.
أيّها المسلمون، إنّ الترفّعَ عن الخوضِ فيما لا يعني لمن تمامِ العقل، كما أنّه يورِث نورَ القلب والبصيرة، ويثمر راحةَ البال وهدأَةَ النفس وصفاءَ الضمير، مع توفيقِ الله تعالى للعبد. إنها طهارة الروح وسلامَة الصدر. وفي سِيَر الذهبيِّ عن زيد بن أسلَمَ قال: دُخِل على أبي دجانةَ رحمه الله في مرضه ووجهُه يتهلَّل ويقول: (مَا مِن عملٍ أوثق عندي من شَيئين: لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وقد كان قلبي سليمًا). وفي صحيح مسلم أن النبيَّ قال: ((إنَّ الله كره لكم قيلَ وقال)).
إنَّ الاشتغال بما لا يعني ينتِج قلّةَ التوفيق وفسادَ الرأي وخفاءَ الحقّ وفساد القلب وإضاعةَ الوقت وحِرمان العِلم وضيقَ الصدر وقسوةَ القلب وطول الهمّ والغمّ وكَسفَ البال ومحقَ البركة في الرزقِ والعمر، وإنَّ أعظمَ الربح في الدنيا أن تشغَلَ نفسك كلَّ وقت بما هو أولى بها وأنفعُ لها في معادها، ولقد كان السّلَف رحمهم الله يكرهون الخوضَ فيما لا يعني، ويمنعون أحدًا أن يغتاب أحدًا في مجالِسهم؛ حرصًا على سلامةِ صدورهم وصيانةً لأعمالهم، قال الحسن رحمه الله: “مِن علامة إعراض الله تعالى عن العبدِ أن يجعَل شغلَه فيما لا يعنيه؛ خذلانًا من اللهِ عزّ وجلّ”، وقال سهل التستريّ: “من تكلَّم فيما لا يعنِيه حرِمَ الصدق”، وقال معروف: “كلامُ العبد فيما لا يعنيه خذلانٌ من الله عز وجلّ”.
عبادَ الله، ولما كان مدارُ هذا الأمر على اللّسان والكلام والتعبيرِ بالقلم والبيان فقد توافَرت التوجيهات الرّبانيّة والنصائح النبوية بما لا يدع لأحد عذرًا، ذلك أنَّ الكلام ترجمان يعبِّر عن مستودَعات الضمائر ويخبر بمكنوناتِ السرائر، لا يمكن استرجاع بوادِرِه، ولا يقدَر على ردِّ شوارِدِه، فحَقٌّ على العاقل أن يحتَرِزَ من زلَلِه بالإمساك عنه أو الإقلال منه، والصّمتُ بسلامة هو الأصل، والسكوتُ في وقتِه صفَة الرّجال، كما أنَّ النطق فيما موضعِه من أشرف الخصال، وفي الحديث: ((كفَى بالمرء كذِبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع)) رواه مسلم.
قال عمر بن الخطاب : (مَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه، ومن كثُر سقطه كثرَت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنّار أولى به)، وقال وهب بن منبّه: “أجمعتِ الحكماء على أنَّ رأسَ الحكمة الصمت”، ومن كان سكوته وكلامه لله عز وجل مخالفًا هوى نفسِه فهو أجدَر بتوفيق الله له وتسديدِه في نطقِه وسكوته، ومن عَدَّ كلامَه من عمله قلَّ كلامُه فيما لا يعنيه ولا ينفعه. قال أنَس : (لا يتَّقِي اللهَ أحدٌ حقَّ تقاته حتى يخزنَ من لسانه).
إنَّ حفظَ اللسان دليلُ كمال الإيمان وحُسن الإسلام، وفيه السلامة من العَطَب، وهو دليل على المروءَة وحسنِ الخلق وطهارة النفسِ، كما يثمرُ محبّةَ اللهِ ثمّ محبة الناس ومهابَتَهم له، فأيُّ مجتمع طاهِر رفيع سينتُج إذا التزم أفرادُه بهذه الوصايا؟! لذا فإنّه ليس كَثيرًا إذا ضُمِنت الجنّةَ لمن أمسك لِسانه، ففِي صحيح البخاريّ أنَّ النبيَّ قالَ: ((مَن يَضمَن لي ما بين لحيَيه وما بين رِجليه أضمَن له الجنّة)).
إنَّ الكلِمَة لها أثرٌ خطير، والحسابُ عليها عَسير، وسَواء قِيلَت باللّسان وسمعت بالأصوات أو كتِبَت في الصحف والمجلاَّت أو تداوَلَتها المنتدَيات، ورُبَّ كلمة قالت لصاحبها: دعني، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يَزِلّ بها في النّار أبعَدَ ما بين المشرق والمغرب))، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11]. عن عقبة بن عامرٍ قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: ((أمسِك عليكَ لسانَك، وليَسَعك بيتُك، وابكِ على خطيئتِك)) رواه الترمذيّ بإسناد صحيح.
ولو أقبَلَ كلُّ مسلم على واجِبِه وسعى فيما يُصلِح معاشَه ومعاده واكلاً أمرَ الناس لخالقهم سَاعِيًا في الإصلاح فيما أنِيط به لكان أثرُه على نفسه وعلى المجتمع أبلغَ من المحتَرِق بعيوب النّاس الراكِض خلفَ ما لا يعنيه، وفي الحديث المتَّفق عليه: ((المسلِمُ من سَلِم المسلمون من لسانِه ويده)).
عبادَ الله، الصغارُ هم الذين يهتمّون بالصغائر، ويَتبَعون الدسائسَ، ويفتِّشون عن أحوالِ الناس، قال المزنيّ رحمه الله: “إذا رأيتمُ الرجل موكلاً بذنوب الناس ناسيًا لذنبه فاعلَموا أنه قد مُكر به”، وقال غيره: “مَن رأى أنه خيرٌ من غيرِه فهو مستكبِر، كما قال إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12]، وسماه الله استكبارًا”، وقال ابن القيم رحمه الله: “وكم ترى من رجلٍ متورِّع عن الفواحش والذنوبِ ولسانه يفرِي في أعراضِ الأحياء والأمواتِ، لا يبالي بما يقول، وربما أوبَقَ نفسه كما في صحيح مسلم”. وفي حديثِ معاذ بن جبل: ((وهَل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!)).
إنَّ الحديث عن الآخرين وتتبّعَ سقَطاتهم وإشاعَتَها والفَرحَ بها لمن أقبَحِ المعاصي أثرًا وأكثَرِها إثمًا، ولا يموت مقتَرِفها حتى يُبلى بها، ((وكلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه ومالُه وعرضه)) رواه مسلم. فكيف إذا كانَت مسائلَ خلاف بلا هدى ونوازع طيش على هوَى وحبَّ غلبةٍ ورغبةَ استعلاء وإرادةَ خَفضٍ للآخرين؟! فكيفَ إذا كانت غِيبةً لأهل الخير وتحرِيشًا خفيًّا أو جليًّا بالعلماء وطلبةِ العلم وأهلِ الصلاح وتصنيفًا ظالمًا بلا برهانٍ ولا بيِّنة وغمزًا ولمزًا وسخريةٍ واتهامًا للعقائد والنيات؟!
إنّه لا خلاصَ مِن هذهِ الرّذائل إلاّ بعزمةِ صدقٍ يكتال معها المؤمن من فيوضاتِ الرحمة ما يلينُ قلبَه ويجعله أخشَى لربِّه، ولو كان مثلُ هذا صاحب ليلٍ يحيِيه بالحواميم وله في هَزيعِ اللّيل تملُّقاتٌ لربِّه تُكسِب قلبَه النورَ وتكسو وجهَه الضياء واهتمامٌ بكتب الرقائقِ ومجالسة لأصحاب الهمَمِ العالية من العلماء والصالحين الصادقين رَطبَ اللّسان من ذكر الله لترقَّى لمنازِلِ الصّدِّيقِين ولطهر قلبه، وهذا يحتاج إلى ترويضِ نفسٍ ومجاهدةٍ، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
أيّها المسلمون، ومِن مَذموم الخوضِ فيما لا يَعني التقحُّم بجهلٍ في مسائل العِلم، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان: 20]، ومن تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب، ورَحِم الله السيوطيّ إذ يقول: “لو سكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف”.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله المتطلِّعِ على مكنونِ الضّمائر، يعلم النّجوى وما تخفِي السّرائر، الخفيُّ عندَه ظاهِر، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: 10]، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له القويّ القاهر، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا متّصلا إلى اليوم الآخر.
وبعد: أيّها المسلمون، العقيدةُ الإسلامية عقيدةُ الوضوح والاستقامة، فلا يقوم فيها شيءٌ على الظنّ والوهم والشّبهةِ، وفي محاسن توجيهاتِ القرآن العظيم: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36]، قال القرطبيّ رحمه الله: “أي: لا تتبَع ما لا تعلم وما لا يعنيك”، ونقل قولَ ابن عباس رضي الله عنهما: (أي: لا تذُمَّ أحدًا بما ليس لك به عِلم).
أيّها المسلمون، هذه الكلمات القليلةُ التامّة تقيم منهجًا كاملاً للقَلب والعقل، يتفوَّق على المنهج العلميّ الحديث؛ لأنه يضيف إليه استقامةَ القلب ومراقبةَ الله عزّ وجلّ. إنها ميزة الإسلام على المناهج العقليّة الجافة، فالتثبُّت من كلّ خبر ومن كلّ ظاهرة قبل الحكم عليها هو دعوةُ القرآن الكريم ومنهج الإسلامِ الدقيق، ومتى استَقَام القلب والعقلُ على هذا المنهج لم يبقَ مجالٌ للوهم والخرافةِ في عالم العقيدَةِ، ولم يبقَ مجال للظّنّ والشبهةِ في عالم الحكمِ والقضاء والتعالم، بل لم يبقَ مجال للأحكام السطحيّة والفروض الوهميّة في عالم البحوث والتجارب والعلوم. والأمانة العلميّةُ التي يشيد بها الناس اليوم ليست إلا طرفًا من الأمانة العقليّة القلبية التي يعلن القرآن تبِعَتها الكبرى ويجعل الإنسانَ مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهِبِها سبحانه.
إنها أمانةُ الجوارح التي سيُسأَل عنها العبد يوم القيامة، أمانةٌ يهتزّ الوجدان الحيّ لجسامتها ودِقّتها، كلما نطق الإنسان بكلمة أو روى رواية، وكلما أصدر حكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أو حادثة، وصدق الله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم أنبيائِه.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولِك محمد…
— الشيخ صالح آل طالب