من ينصرني حتى أُبَّلِّغ رسالة ربي
الخميس17 شعبان1436//4 يونيو/حزيران 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
منذ أمر الله ـ عز وجل ـ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجهر بالدعوة كان من دأبه وعادته أن يخرج في موسم الحج وأيام أسواق العرب إلى منازل القبائل فيدعوهم إلى الإسلام، وأن ينصروه حتى يبلغ رسالة ربه، وأشهر أسواق العرب في الجاهلية وأقربها إلى مكة ثلاثة: عكاظ ومجنة وذو المجاز .
وممن أتاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعاهم إلى الإسلام وعرض عليهم نفسه ليؤوه وينصروه: بنو عامر بن صعصعة، وبنو محارب بن خصفة، وبنو فزارة ، وغسان ومرة ، وبنو خنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وبنو البكاء، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب له منهم أحد، ولكنهم اختلفوا في أساليب ردودهم، فمنهم من رد عليه رداً جميلاً، ومنهم من رد عليه رداً قبيحاً .
وكانت قريش تستقبل القبائل والقادمين إلى مكة بسبِّهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاستهزاء به حتى لا يقبلوا دعوته، وكان عمه أبو لهب يتبعه ويلاحقه ويرد عليه ويصرف الناس عنه .
فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( مكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: من يؤويني؟، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مُضر فيأتيه قومه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع ) رواه أحمد .
وعن ربيعة بن عباد ـ رضي الله عنه ـ قال: ( رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يدعو الناس إلى الإسلام بذي المجاز وخلفه رجل أحول يقول: لا يغلبنكم هذا عن دينكم ودين آبائك،. قلت لأبي ـ وأنا غلام ـ: من هذا الأحول، الذي يمشي خلفه؟، قال: هذا عمه أبو لهب ) رواه أحمد .
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يعرض عليّ قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ـ عز وجل ـ ؟! ) رواه أحمد .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض نفسه في كل سنة على قبائل من العرب، أن يؤووه إلى قومهم حتى يبلغ كلام الله ورسالاته، ولهم الجنة ) رواه الطبراني .
ومن حكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعوته للقبائل أنه كان يستصحب معه أبا بكر وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ، فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ رجل معروف بين قبائل العرب ومكانته في قريش مشهورة, كما أنه من أنسب العرب وأعرفها بالقبائل, وهو الأمر الذي يساعد النبي – صلى الله عليه وسلم – في التعرف على معادن القبائل, فيختار أنسبها وأفضلها, في حين أن علي بن طالب ـ رضي الله عنه ـ كان من خيرة شباب قريش وأفضلها نسباً وابن سيدها, وفي ذلك أيضاً دلالة على أصالة دعوة الإسلام وتنوع المراحل العمرية فيها .
وقد ذكر الواقدي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحداً ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: قومك أعلم بك، فكان ممن سمي لنا من تلك القبائل بنو عامر بن صعصعة ومحارب وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نصر والبكاء وكندة وكعب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة، وذكر نحوه ابن إسحاق بأسانيد متفرقة .
صَبْرٌ وفَتْح :
لقد اتسمت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القبائل الوافدة إلى مكة في المواسم والحج بالصبر على الأذى، وبداية الفتوحات وانتشار للدعوة الإسلامية، فقد تعرض فيها – صلى الله عليه وسلم – لأذى شديد، ومعاناة كبيرة، والكثير من المواقف الأليمة، فكان أبو جهل وأبو لهب يلاحقانه ويتناوبان على تكذيبه والسخرية منه وإيذائه عندما يدعو هذه القبائل، إضافة إلى ما يلحقه من إعراض وأذى المدعوين أنفسهم، الذي لم يقتصر على الإيذاء النفسي فحسب, بل واجه النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم ما هو أشد وأقسى, فقد روى البخاري في تاريخه، والطبراني في الكبير واللفظ له عن مدرك بن منيب الأزدي ـ رضي الله عنه ـ عن أبيه، عن جده، قال: ( رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ في الجاهلية وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فمنهم من تفل في وجهه, ومنهم من حثا عليه التراب, ومنهم من سبَّه, حتى انتصف النهار, فأقبلت جارية بعس (قدح كبير) من ماء فغسل وجهه ويديه, وقال: يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة، فقلت: من هذه؟، قالوا: زينب بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -, وهي جارية وضئية (صغيرة جميلة) )، قال الهيثمي: ” فيه منبت بن مدرك لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات ” .
وقال ابن الجوزي معلقا على عرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه على القبائل: ” ربما عرض لملحد قليل الإيمان فقال: ما وجه الاحتياج لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يدخل في خفارة (حماية) كافر وأن يقول في المواسم: من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي, فيقال له: قد ثبت أن الإله القادر لا يفعل شيئا إلا لحكمة, فإذا خفيت حكمة فعله علينا وجب علينا التسليم, وما جرى لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما صدر عن الحكيم الذي أقام قوانين الكليات وأدار الأفلاك, وأجرى المياه والرياح, كل ذلك تدبير الحكيم القادر, فإذا رأينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشد الحجر من الجوع, ويُقهر ويُؤْذَى, علمنا أن تحت ذلك حِكَمَاً، إن تلمحنا بعضها لاحت من خلال سقف البلاء حكمتان إحداهما: اختبار المُبْتَلَى ليسكن قلبه إلى الرضا بالبلاء .. “.
ومع شدة هذه المرحلة الدعوية وصعوبتها إلا أنها كانت بداية للفتوحات، فقد تم فيها إسلام أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ، والذي أسلمت قبيلته غفار على يديه، وكذلك إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي ـ رضي الله عنه ـ الذي جاء بسبعين أو ثمانين بيتاً من قبيلته دوس باليمن وقد أسلموا، فكان إسلامهما على يد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتحًا للإسلام والمسلمين .
قال ابن هشام في السيرة النبوية: ” ولمَّا أراد الله – عزَّ وجلَّ – إظهارَ دينه، وإعزاز نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – خرج رسول الله – صلَّى الله عليه وسلّم – يعرض نفسه على القبائل كعادته، فالتقى برهطٍ من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: من أنتم؟، قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمِن مَوالي يهود؟، قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أُكلِّمكم؟، قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله – عزَّ وجلَّ – وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مِمَّا صنع الله لهم به في الإسلام: أنَّ يهودَ كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شِرْك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزُّوهم (غلبوهم وقهروهم) ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًّا مبعوثًا الآن قد أظلَّ زمانُه، نتَّبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم، فلما كلم رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أولئك النَّفَر، ودعاهم إلى الله، قال بعضُهم لبعض: يا قوم، تَعْلمون والله إنه لَلنبيُّ الذي توعَّدَكم به يهود، فلا يَسبِقُنَّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأنْ صدَّقوه وقَبِلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومَنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله تعالى بك، فسنَقْدَم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونَعْرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدِّين، فإنْ يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزَّ منك.ثم انصرفوا عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدَّقوا ” .
وبعد عام من هذا اللقاء التاريخي جاء إلى موسم الحج في السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، اثنا عشر رجلاً (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) من الذين أسلموا، فلقوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند العقبة فبايعوه بيعة العقبة الأولى، ثم كانت بيعة العقبة الثانية في العام الثالث عشر، والتي كانت إحدى مقدمات الهجرة النبويَّة، وبناء الدولة المسلمة في المدينة المنورة .
________________
– إسلام ويب