نظرة المجتمع الدولي للخليج بعد فشل حصار قطر
محمد الجوادي
كاتب ومؤرخ وأستاذ طب مصري
نبدأ بالتذكير -تحديدا ويقينا- بأن مخاوف المجتمع الدولي بشأن منطقة الخليج العربي لا تزال كما هي، حتى وإن صورت دول الخليج العربية أو صور المجتمع الدولي أو اتفقا كلاهما على تصوير الأمر بغير ذلك.
وتتمثل هذه المخاوف الجوهرية أساسا في القلق على سلامة منابع معتدلة السعر للطاقة (البترول والغاز الطبيعي)، وما تمثله هذه المنابع من تأمين متدفق ومضمون للمدخلات اللازمة للتصنيع وحركة النقل على حد سواء.
ومهما قيل عن تنامي احتمالات الاعتماد على البترول الصخري، وغيره من موارد الطاقة التقليدية أو مواردها الجديدة والمتجددة؛ فإن البترول الخليجي (ومعه الغاز الطبيعي) يظل في الوضعية التي تجعله بمثابة أفضل الموارد المعهودة والمتاحة أوالمنظورة، كما يبقى حائزا لهذه الأفضلية النسبية استنادا إلى طول فترة تعوّد الاعتماد عليه، ومعقولية سعره مهما ارتفع، وحيوية إمداداته لرسوخ تقاليد نقله وتنوع مساراتها.
ويكاد مثقفون أوروبيون بارزون كثر لا يعرفون مصدراً آخر للطاقة غير البترول الخليجي تحديدا، مع أن هؤلاء يعيشون العصر الذي إن سُمّي بعصرالمعلومات -من باب تجلياته- فإنه في الحقيقة هو عصر الطاقة من باب غذائه أو خاماته.
بل إن بعض المفكرين الأوروبيين يعزون كل ما تحقق من التقدم التكنولوجي -الذي تحقق مع طفراته المتقدمة (والمتكررة التطفير)- إلى ذلك النجاح، الذي شهده زماننا المعاصر في توظيف هذا المصدر من مصادر صناعة الحياة والحضارة على حد سواء.
أما العامل الذي يفوق هذه العوامل إستراتيجيةً وأهميةً فهو حرص مُلاك هذا البترول على بيعه أو بالأحرى تصريفه بطريقة ملحّة، وهو حرص طبيعي وشرطي لأنه مرتبط بما نشأ من اعتماد خطط التنمية الطموحة، ونفقات الحياة اليومية (من قبلها) على ما توفره عائدات النفط من النقد الكفيل بتمويلها وتطويرها أيضا. ومن الإنصاف للخليجيين أن نثني على عنايتهم الفائقة بالتنمية من دون تأجيل (أو مساومة غير حكيمة) لعجلة الزمن.
وإذا أدركنا حقيقة حجم أو نسبة الإسهام الخليجي في الإمدادات النفطية للعالم؛ فإننا نكون قد بدأنا مقارباتنا الفكرية الكفيلة بأن تجعلنا قادرين حقا على تصورالقيمة الإستراتيجية غير المتناقصة للخليج العربي ودوله وسياساته، ومن ثم أمنه ونزاعاته ومغامراته.
وعندئذ يمكننا أن نستوعب -بدقة وثقة في النفس- كل ما يتبدى أمام أعيننا من الآليات، التي انتهجها وينتهجها المجتمع الدولي في النظر إلى أزمات الخليج وصراعاته.
الخوف الثاني يتمثل في التحسب المبرر من الآثار الجانبية لظاهرة حصرية السلطة في الدول الثلاث الكبرى في الخليج، وهي بالاسم: السعودية وإيران والعراق. ومن المتفق عليه -في أروقة الدراسات الاستشراقية والخليجية الحالية- أن هذه الدول الثلاث تكاد تعاني من حصرية السلطة بنسبة 100%، حتى وإن كانت حكومات الغرب مشاركة في عملية اتخاذ القرار أو العملية السلطوية نفسها.
ومع أن تحريك قبضة السلطة -في إيران منذ ١٩٧٩ وفي العراق منذ 2003- قد خلّف آثاراً سلبية فاقت وتفوق ما كان الغرب يعانيه من التخوفات المعهودة من النظم السابقة، فإن التحسب الأكبر حاليا يظل مرتبطا بالسعودية التي بدأت منذ 2013 تُصبح موضوعا ملحًّا بازدياد على ميادين الدراسات الإستراتيجية الغربية.
ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الدراسات والمناقشات الجديدة لم تبدأ من نقطة الصفر، وإنما بنت أفكارها وفرضياتها على سيناريوهات معروفة سبق طرحها وتداولها من دون أن يكون قد تم تناولها بتوسع أو تعمق.
سواء في ذلك ما يتعلق بوحدة أراضي المملكة تحت حكومة مركزية واحدة رغم مساحتها الشاسعة، أو بانتقال السلطة -كما هي وبدون أي تغيير في الحدود والصلاحيات- من جيل إلى آخر داخل العائلة الحاكمة نفسها، أو في ظل تنامي عامل ثالث أخطر وهو العامل الراهن الذي فرض نفسه ووجوده، في ظل وجود التحسبات والتحسبات المضادة في فهم طبيعة الربيع العربي ومواجهته أو التعامل معه.
وقد تمثلت خطورة الديناميات -التي صدرت عنها ردود الفعل المتعلقة بهذا العامل الراهن- في ارتباطها -الذي لم يكن متوقعا إلى هذا الحد- بانقلاب حاد ومفاجئ في التوجهات الحاكمة للحراك الاجتماعي والاقتصادي، جعل الاستقرارالتقليدي الهادئ نفسه غير قابل للاستعادة في المنظور القريب.
وقد جاءت صناعة هذا الانقلاب في التوجهات على نحو ظن مهندسوه الأميركيون أنه قادر على أن يواجه -بل ويستبق- أية رغبة طبيعية في التطور الطبيعى المضمون النتائج.
ومن ناحية أخرى؛ وجد مهندسو هذا التيار الجديد أن بإمكان تصوراتهم -المتجاوزة للأعراف الخليجية- أن تُجهض كل حركة، أو توجه يمكن أن يمثل خطرا على أصحاب المصلحة في استمرار حصرية السلطة على ما هي عليه، لكن هذا الهدف -الذي قد يمكن النظر إليه على أنه هدف مشروع- سرعان ما انقلب دون قصد إلى أهداف أخرى مناقضة.
وذلك بحكم ما انتهجته القرارات المسرعة من وسائل غير معهودة في تحقيق الهدف، وباختصار شديد بعيد عن المصطلحات فإنه إذا كان النظام السعودي حريصا على استقرار الوضع للأسرة المالكة في السعودية؛ فإنه لا بد له أن يعمل من أجل هذا الهدف بما يؤدي إليه لا بما لا يؤدي إلا إلى عكسه.
وذلك من قبيل إجراءات المصادرة والتصفية والحراسة والاستيلاء، وتشويه سمعة البعض ونزاهتهم مع أنهم يمثلون رموزا، وما إلى هذا من تقنيات يسميها المجتمع العربي بتقنيات الناصرية التي تنسب إليها الجماهير العربية (مهما كانت محبة للناصرية) بصوتها الخفيض السببَ المباشر والوحيد في إفقار أكبر وأغنى دولة عربية.
وجدير بالذكر أيضا أن بعض هذه الحركيات السعودية الداخلية سرعان ما تركت عددا من الانطباعات ثم الآثار الدولية المهمة، بعيدا عن الآثار المباشرة والمحلية لمثل هذه السياسات، التي تمت بدعم رئاسي أميركي استثنائي في إطار ممارسات دونالد ترمب الأكثر إلحاحا على استنزاف الثروة الخليجية.
لكن حسن الحظ وحده جعل هذه الآثار لا تشهد تعبيرا عن نفسها بالصورة الزاعقة القصوى في سوق الأسهم والأوراق المالية مثلا، ويرجع هذا بالطبع إلى ما هو معروف من عوامل التنويع الذكية في الاقتصاديات والاستثمارات على حد سواء، وهو ما حمى الاقتصاديْن القطري والإماراتي -مع اختلافهما- من آثار سياسة الحصار.
لكن مستقبل سوق الاستثمار العالمي في منطقة الخليج قد تأثر بالفعل، كما تأثرت توقعات النمو وكفاءة الأدوات المصرفية بسبب هذا الإلحاح السعودي/الإماراتي على إظهار قوة عضلاته، دون أن تكون هذه القوة حقيقية الوجود بذات الدرجة.
وكانت النتيجة أنه لأول مرة في التاريخ الحديث تضطرب العلاقة بين السياسة والاقتصاد في تصور صاحب القرار (لا على أرض الواقع)؛ فيصبح الاستقرار السياسي في نظر مَنْ يستهدفه مرتبطا بالعمل على إحداث أكبر قدر من الاضطراب الاقتصادي، بل والاضطراب الاجتماعي.
وقد بدا بوضوح أن الانصياع السعودي التام للمتطلبات الأميركية طيلة السنة الأولى من حكم ترمب لم يؤمن -بأي قدر- ما يقابله من التزامات أميركية.
ومع ما يبدو من بعد منطقة الخليج العربي عن قلب العالم الغربي؛ فإن زعماء الغرب مشغولون مثلا بواجبهم في تأمين تنفيذ اتفاقهم النووي مع إيران، في حين لا تزال السياسة السعودية تتصور أن أميركا قادرة وراغبة في أن تنكص عن الوفاء بالتزاماتها في هذا الاتفاق.
الخوف الثالث من منطقة الخليج العربي خوف غامض لكنه متوافر الأسانيد والقرائن حتى مع انعدام صوابه كلية، وهو كما قلنا خوف غامض لكنه معلن، وإن لم يكن التعبير عنه وصل إلى مرحلة التصريح بعدُ؛ ويتمثل هذا الخوف في الظن المرجح بأن منطقة الخليج (وتحديدا السعودية وليس أية دولة أخرى) هي المسؤولة عن روح العداء للغرب.
ويستند الباحثون الغربيون -في دعواهم هذه- إلى المسار التاريخي في القرنين الأخيرين، حيث تغلبت مقومات العيش المشترك بين أوروبا وأميركا من ناحية، ومصر والسودان والشام والعراق والمغرب العربي من ناحية أخرى، على ما كان ممكنا أن يتأجج من صراعات تقليدية بسبب الاختلافات القائمة في الدين والثقافة واللغة.
وعلى حين تم البناء بسلاسة على هذا التعايش حتى في ظل الصراع العسكري مع الاحتلال؛ فإن السعودية -على سعة أرضها- لم تشهد هذا ولو بقدر ضئيل.
بل إن الأمر الذي استلفت نظر المفكرين الغربيين هو أن مقومات العيش الأوروبي المشترك مع الإيرانيين قد تراجعت في تأثيرها، بعد أن تمكنت المؤسسات السياسية للثورة الإيرانية الإسلامية من مفاصل المجتمع الإيراني، على النحو الموازي والمعادل لردة الفعل السعودية تجاه هذه الثورة.
وقد وجد المعادون للإسلام في مثل هذه الملاحظات العابرة مادة خصبة للبرهنة المغرضة لا على صعوبة العيش مع الخليج فحسب، وإنما للبرهنة أيضا على أن منطقة الخليج العربي -وخاصة السعودية- هي منبع الفكر والعمل الإرهابييْن، وبالطبع فإن أحداث 11 سبتمبر 2001 بأميركا أصبحت جاهزة دوما للاستدعاء، لتتويج كل نظرية مختلقة في هذا الإطار الظالم للسعودية.
وقد كانت التوقعات النظرية تسير في اتجاه القول باحتمال (بل بترجيح) أن تنضم الإمارات إلى قطر والكويت في صياغة صورة منفتحة ومتفتحة للخليج، بالاتكاء على ما أسهمت به هذه الدول الثلاث (ذات المعدلات المتقدمة في مؤشرات التنمية البشرية) في التفاعل الحضاري والتوافق العولمي.
لكن الإمارات -لسبب غير مفهوم منطقيا- آثرت أن تدفع بنفسها دفعا قويا مع السعودية في اتجاه معادٍ للتحديث القطري والكويتي، مع تناقض ما ترفعه من شعارات لم ينخدع بها أحد في المجتمع الدولى.
وعلى حين تصورت السعودية -والإمارات من خلفها- أن تبديل رقعة اللاعبين في الشطرنج كفيل بتبديل المواقف من أسود إلى أبيض والعكس؛ فإن الفهم الغربي كان أكثر تمرُّساً بالخبرة الجديدة التي نشأت عن عقود احتراف اللاعبين، والتي جعلت أدوار اللاعبين والأندية أكثر دينامية مما تتصوره السعودية والإمارات عن قاعدة الأبيض والأسود في لعبة الشطرنج.
المصدر : الجزيرة.نت