نعمة إنزال القرآن
السبت،9 شعبان 1435الموافق7 حزيران/يونيو2014 وكالة معراج للأنباءالإسلامية”مينا”.
د. فارس العزاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحْبه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعدُ:
فإنه مما لا شكَّ فيه أن إنزال القرآن يُعَدُّ مِنَّة عظمى على هذه الأمة؛ وذلك لصلاح أمر الناس كافَّة؛ رحمةً بهم ولهم؛ لتبليغهم مراد الله تعالى منهم؛ قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
فكان المقصد الأعلى من إنزال هذا الكتاب، هو صلاحَ الأحوال الفردية والجماعية، وصلاح العمران والبناء، فالصلاح الفردي يعتمد تهذيبَ النفس وتَزْكِيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح الظاهر والباطن؛ صلاح الظاهر كالعبادات الظاهرة: الصلاة، والحج، وغيرهما، وصلاح الباطن: إنما بتطهير النفس من الأخلاق الرذيلة – كالحسد، والحقد، والبُغض والكِبر – والتخلُّق بالأخلاق الحميدة؛ أُسوةً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قالت عنه عائشة – رضي الله عنها – واصفةً خُلقَه – عليه الصلاة والسلام -: ((كان خلقُه القرآن))؛ مسند الإمام أحمد، رقم (24601).
وصلاح الجماعة إنما يكون بصلاح الفرد؛ لأن إصلاح الكلِّ لا يكون إلا بصلاح أجزائه، ومن ثَمَّ صلاح البناء والعمران، وذلك بحفظ النظام الإسلامي، وضبْط تصرُّف الجماعات والأقاليم بعضها مع بعض، وهذا هو المقصد الأسمى، وقد اتَّفق أهل العلم على أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولكن الاستفادة الحقَّة من هذا الكتاب، إنما تكون بدوام الصلة به – علمًا وعملاً، تلاوة وتدبُّرًا، فهمًا وتذكُّرًا – قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
ومن سُبل ذلك:
التدبُّر والفَهْم، وإنما يكون ذلك بالنظر في كتاب الله، والوقوف على مقاصده القريبة والبعيدة؛ وَفْقًا لمنهج التدبر والتفكُّر والتفقُّه، والتفهُّم والتذكُّر، وباعتبار سياقاته المختلفة: السياق النصِّيّ، والسياق الموضوعي، والسياق التنزيلي.
أما السياق النصي، فيكون بأخْذ النص القرآني في إطار محيطه وبيئته اللفظية – سواء القريبة منها والبعيدة – في ظل قاعدة: السياق والسباق مُحكم، أو بعبارة أخرى قاعدة: السياق والسباق واللحاق، وأما السياق الموضوعي، فيكون في إطار اعتبار الموضوع القرآني في سوره المختلفة، كما اصطَلحوا عليه أخيرًا بالتفسير الموضوعي، وأما السياق التنزيلي، فيكون في إطار اعتبار أسباب النزول – إن صحَّ سندُها ومتنُها – وهذا الاعتبار إنما يكون مُعينًا في فَهم الآية، وليس حاكمًا عليها؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع الأخْذ بنظر الاعتبار أن صورة سبب النزول قطعية الدخول في مقتضى اللفظ، ومن المهم أن نؤكِّد في هذا السياق أن فَهْم القرآن وتدبُّره، لا يتحقَّق إلا باعتبار بيانه النبوي، فمن شأن السُّنة النبوية: بيانُ مُجمل القرآن، وتوضيح مُشكِله، وتفصيل أحكامه، كما أنه لا يُستغنَى عن كتب التفسير ومعاجم اللغة، وكتب الأصول في إتمام المنظومة المفاهيميَّة لأخْذ القرآن.
هذا المسلك المنهجي كان مستحضرًا عند السلف؛ فقد أخرج غير واحد من أهل العلم كيفيَّة هدْي السلف في التعامل مع القرآن الكريم، ومن ذلك ما أخرجه البيهقي في “شُعب الإيمان” من حديث أبي عبدالرحمن السُّلَمي عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – رقم (1801)، قال: “كنَّا إذا تعلَّمنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات من القرآن، لم نتعلَّم من العشر التي أُنزِلت بعدها، حتى نتعلَّم ما فيه”، قيل لشُريك: مِن العلم؟ قال: نعم، وفي الرواية التي بعدها: كنا نتعلَّم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات، لا نتعلَّم العشر التي بعدهنَّ، حتى نَعلمَ ما أُنزِل في العشر من العلم، وأخرجه أحمد في المسند من لفظ أبي عبدالرحمن السُّلَمي رقم (23482)، قال: حدَّثنا من كان يُقرئنا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يَقترئون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يَعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلِمنا العلم والعمل،حأحأحك وأخرجه الطحاوي في “مشكل الآثار” رقْم (1251) بلفظ: كنَّا نَعلم عشر آيات، فما نتجاوزهنَّ حتى نعلم ما فيهنَّ من عملٍ.
فما دلَّت عليه هذه الآثار يُعَد هو الهدفَ والغاية التي تترتَّب عليه الهداية الإلهية في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 123- 126].
وقد جاء هذا الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أيضًا في سياق البيان النبوي؛ إذ قال – عليه الصلاة والسلام – كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه: ((والقرآن حُجة لك أو عليك)).
ويا لله! ما أشدَّ فقهَ السلف وفَهْمَهم حين أدرَك بعضهم الخَلل المنهجي الذي أصاب بعض مَن عاصره الأصحاب – رضي الله عنهم – فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – رقم (101)، يقول: لقد عِشنا بُرهة من دهرنا، وإن أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتَنزِل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فيتعلَّم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يُوقَف عنده كما تعلمون أنتم القرآن، ثم قال: لقد رأيتُ رجالاً يُؤتى أحدهم القرآن، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما أمرُه ولا زَاجرُه، ولا ما ينبغي أن يُوقَف عنده منه، يَنثُره نَثْرَ الدَّقَل.
فالقِيمة التي يَحملها القرآن لا تقف عند إقامة اللفظ دون الغوص في معانيه، وتدبُّر آياته والعمل بمقتضياته، بل لا بد أن يكون المسلم المعاصر مُتَّبعًا للمنهجية المعرفية القرآنية التي تَعلَّمها الأصحاب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحمَلوها إلى العالمين، فكان القرآن رائدَهم ومرجعهم الذي لا يَحيدون عنه، ولا يهجرون آياته، تلاوة وتعلُّمًا وتدبُّرًا وعملاً، فنسأل الله – عز وجل – أن يَجعلنا من أهل القرآن وحمَلته، ويَجعله حُجة لنا لا علينا، وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصَحْبه وسلم.
المصدر: الالوكة