هذا القول الطيب.. فهل حققه العمل الصالح؟
الجمعة 23جمادى الثانية 1437// 1 أبريل/نيسان 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
مجلة الهدي النبوي
هذا القول الطيب.. فهل حققه العمل الصالح؟
إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ ♦♦♦ فإن فسادَ الرأي أن تتردَّدا
يسرنا كل السرور أن مجلة الرسالة الغراء قد فتحت هذه الأيام باباً واسعاً للبحث في الإصلاح الديني يتصدره الأستاذان الشيخ محمود شلتوت، وتلميذه الشيخ محمد المدني، ويفيضان على صحائف الرسالة من بليغ القول وصادق العزيمة، وسديد الخطى ما يستحثان به دعاة الإصلاح إلى العمل للإصلاح، فقد طالما قالوا وكثيراً ما تكلموا. وقد مضت الأيام والسنون والحال هو الحال، بل ربما تأخر عن غاية الإصلاح خطوات.
والشيخان شلتوت والمدني وغيرهما من الذين يقض مضجعهم وينغص عيشهم ما بلغت إليه حال المسلمين اليوم من التقهقر والانحلال؛ ويسهر ليلهم ويشغل نهارهم التفكير في الطريق الأقوم الذي يأخذ بالمسلمين إلى بر السلامة وشاطي النجاة: أولئك جميعاً مطمح أنظارهم الأزهر، فإنه المورد الذي إذا صلح صلحت كل الجداول والأنهار التي تجري في مختلف شئون الأمة، وهم ينظرون إلى الأزهر ويعلقون به آمالاً كباراً جداً في الإصلاح الديني، وعلى رأس الأزهر الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ المراغي الذي وضع مذكرته المشهورة في سنة 1928 عند توليه مشيخة الأزهر في المرة الأولى. وقد تقدم بمذكرته هذه يرسم للأمة والحكومة طريقته التي سيسلكها في إصلاح الأزهر، ويطالب الأمة والحكومة أن يقدما له من المعونة المادية والأدبية ما يساعد على تحقيق أمنية الإصلاح.
وقد نشرت الرسالة قطعة من هذه المذكرة قدم لها الأستاذ الزيات بكلمة يقول فيها “الأستاذ المراغي قد وضع هذه المذكرة لتكون برنامجه في سياسة الأزهر ثم أقرتها الحكومة وارتضتها الأمة، فلم يبق عليه إلا أن ينفذ ما وضع، ويطبق ما شرع. ولكن أزهر المراغي لا يزال كأزهر الظواهري، يغير في الشكل ولا يغير في الموضوع. فهل يستطيع كاتب من الكتاب أن يبين الحوائل ويشرح الأسباب؟”.
ونحن كذلك نقول: هل خطا الأزهر ولو خطوة واحدة في تحقيق ما سجله فضيلة الشيخ الأكبر المراغي في هذه المذكرة؟ ومتى يبدأ السير إلى العمل على هذا التحقيق؟ ثم نسجل على صفحات “الهدي النبوي” تلك القطعة القيمة من مذكرة الشيخ الأكبر المراغي، فلعل إعادة النشر تعيد إلى العمل الصالح النشاط الذي يبعث في الإصلاح روح الحياة بصدق وإخلاص، والله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.
يقول الشيخ الأكبر سدد الله خطاه في سبيل الإصلاح:
أوجب الدين الإسلامي على أهله أن تختص طائفة منهم بحمله وتبليغه إلى الناس ﴿ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
وأوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى السبيل الموصلة إليه ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
وقواعد العلماء كلها متفقة على وجوب السعي إلى نشر الدين وإقناع العباد بصحته، وعلى وجوب حمايته من نزعات الإلحاد وشُبه المضلين.
وفي الكتاب الكريم آيات كثيرة تحث على النظر في الكون وعلى فهم ما فيه من جمال ودقة صنع. وقد لفت النظر إلى ما في العالم الشمسي من جمال باهر وصنع محكم ولفت النظر إلى ما في الحيوانات من غرائز تدفعها إلى الصنع الدقيق والأعمال التي لها غايات محدودة؛ وأشار إلى سير الأولين، وحث على العلم وفاضل بين العلماء والجهال وأعمال السلف الصالح وسير العلماء لا تدع شبهة في أن الدين الإسلامي يطلب من أهله السعي إلى معرفة كل شيء في الحياة. وقد تولى سلف علماء الأمة القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وكمله، فخلفوا تلك الثروة العظيمة من المؤلفات في جميع فروع العلم، ودرسوا أصول المذاهب في العالم، ودرسوا الديانات، ودرسوا الفلسفة على ما كان معروفاً في زمنهم، وكتبوا المقالات في الرد على جميع الفرق، وكانت للعقل عندهم حرمته وله حريته التامة في البحث، وكان الاجتهاد غاية يسعى إليها كل مشتغل بالعلم متفرغ له.
ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديث، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين!
في الدين الإسلامي عبادات وعقائد وأخلاق، وفقه في نظام الأسرة، وفقه في المعاملات مثل البيع والرهن، وفقه في الجنايات. وقد عرض الدين الإسلامي لغير من الديان، وعرض لعقائد لم تكن لأهل الأديان؛ وأشار إلى بعض الأمور الكونية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة من جماد ونبات وحيوان.
وقد هوجم الإسلام أكثر من غيره من الديانات السابقة؛ هوجم من أتباع الأديان السابقة، وهوجهم من ناحية العلم، وهوجم من أهل القانون.
لذا كانت مهمة العلماء شاقة جداً تتطلب معلومات كثيرة، تتطلب معرفة المذاهب قديمها وحديثها، ومعرفة ما في الأديان السابقة، ومعرفة ما يجد في الحياة من معارف وآراء، ومعرفة طرق البحث النظري وطرق الإقناع؛ وتتطلب فهم الإسلام نفسه من ينابيعه الأولى فهماً صحيحاً، وتتطلب معرفة اللغة وفقهها وآدابها وتتطلب معرفة التاريخ العام، وتاريخ الأديان والمذاهب، وتاريخ التشريع وأطواره وتتطلب العلم بقواعد الاجتماع.
والأمة المصرية أمة دينها الإسلام، فيجب عليها وهي تجاهر بذلك أن ترقى في تعليمه، ليرقى حملته ويكونوا حفاً ومرشدين يدعون الناس إليه.
ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير، فإن العامة تتلقى أحكام الدين والأخلاق الدينية بسهولة لا تحتاج إلى أكثر من واعظ هاد حسن الأسلوب جذاب إلى الفضيلة بعمله وبحسن بصره في تصريف القول في مواطنه ولذلك كان الدعاة إلى الفضيلة قديماً وحديثاً يلجؤون إلى الأديان يتخذونها وسائل للإصلاح؛ بل إن كل دعاة المذاهب السياسية وحملة السيوف لم يجدوا بداً من الرجوع إلى الأديان وصبغ دعواتهم بها. كل ذلك لأن حياة المجتمعات لا تدين لنوع من أنواع الإصلاح إلا إذا صبغ بصبغة دينية يكون قوامها الإيمان.
والأمة المصرية، بل والأمم الشرقية جمعاء، تدهورت أخلاقها فضعفت لديها ملكات الصدق والوفاء بالوعد والشجاعة والصبر والإقدام والحزم وضبط النفس عن الشهوات، وضعفت الروابط بين الجماعات، فلم يعد الفرد يشعر بآلام الآخرين ومصائبهم، وقد أثرت الحياة الفردية في حياة الجماعة أثرها الضار فانحطت منزلة الأمم ورضيت من المكانة بأصغر المنازل.
وقد أرى أن الأمة المصرية وهي تريد النهوض والمجد، وتتطلع إلى حياة سياسية راقية؛ يجب عليها أن تذكر دينها، ولتفت إلى حملة ذلك الدين فتصلح شأنهم، وترقي تعليمهم، وتضعهم في المكانة اللائقة بالمرشدين، والتي يجب أن يكون عليها حملة الدين. أما إهمال هذه الناحية والساعي إلى ترقية النواحي الأخرى من حياة الأمة، فلا ارى أنه يوصل إلى الغرض المنشود؛ فالخلق هو العمود الفقري للأمم لا يمكنها أن تنهض بغيره؛ وأسهل طريق لتكوينه هو طريق الدين إذا أصلح تعليمه وهذب دعاته.
وقد كان الأزهر مصدر أشعة نوار العلوم الدينية والعربية وغيرها إلى البلاد الإسلامية. وقد أصابه ما أصاب غيره في الشرق من خمول وضعة، فيجب على الأمة المصرية وهي تحمل راية الأمم الإسلامية أن تنقي هذا المصباح (الأزهر) من الأكدار، وأن توجد له جهازاً قوياً يستمد نوره منه على طريقة تتناسب مع ما جد في العالم من أطوار في العلم وفيا لتفكير وفي الحوار والتخاطب وفي طرق الاستدلال والبحث. والدولة تنفق على الأزهر قدراً عظيماً من المال لا تستطيع أن تمنعه عنه، ولا تستطيع أيضاً أن تلغي الأزهر وما يتبعه من معاهد لتوجد بدلها معاهد أخرى فالحاجة إلى إصلاح الأزهر واضحة لا تحتمل نزاعاً ولا جدالاً.
وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم؛ وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه. وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر، أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله تعالى فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة.
يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن يفهمها على وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني، وعلى وفق قواعد العلم الصحيحة، وأن يبتعد في تفسيرهما عن كل ما أظهر العلم بطلانه وعن كل ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية.
يجب أن تهذب العقائد والعبادات وتنفي مما جد فيها وابتدع، وتهذب العادات الإسلامية بحيث تتفق وقواعد الإسلام الصحيحة.
يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والامكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء.
يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام بما هو موجود في الدين الإسلامي، ليظهر للناس يسره وقدسه وامتيازه عن غيره في مواطن الاختلاف. ويجب أن يدرس تاريخ الأديان وفرقها، وأسباب التفرق، وتاريخ الفرق الإسلامية على الخصوص وأسباب حدوثها.
يجب أن تدرس أول المذاهب في العالم قديمها وحديثها وكل المسائل العلمية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة، مما يتوقف عليه فهم القرآن في الآيات التي أشارت إلى ذلك.
يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة كما درسها الأسلاف، وأن يضاف إلى هذه الدراسة دراسة أخرى على النحو الحديث في بحث اللغات وآدابها.
يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية و اللغوية على طريقة التأليف الحديثة، وأ، تكون الدراسة جامعة بين الطرق القديمة (في عصور الإسلام الزاهرة) والطرق الحديثة المعروفة الآن عند علماء التربية. وعلى الجملة يحجب أن يحافظ على جوهر الدين؛ وكل ما هو قطعي فيه محافظة تامة؛ وأن تهذب الأساليب ويهذب كل ما حدث بالاجتهاد بحيث لا يبقى منه إلا ما هو صحيح من جهة الدليل وكل ما هو موافق لمصلحة العباد.
يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين، لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة ودينه عام، ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة، والأمكنة المختلفة، وإن لم يفعل هذا فإنه يكون عرضة للنفور منه والابتعاد عنه كما فعلت بعض الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها إذ تركت الفقه الإسلامي، لأنها وجدته يحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم. ولو أن الأمة المصرية وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان، وتبدل العرف والعادة، وراعى الضرورات والحرج، لما تركته إلى غيره لأنه يرتكن إلى الدين الذي هو عزيز عليها.
ولست أنسى أن هذه الدراسة التي أسلفت بيانها دراسة شاقة تحتاج إلى مجهود عظيم، وتحتاج إلى رجال قد لا تجدهم في طائفة العلماء، وتحتاج إلى مال يكافأ به العاملون ولكن سمو المطلب يجعلنا على تذليل كل عقبة، وتوجب علينا السخاء والبذل لأننا نريد إصلاح أعز شيء على النفوس، ونريد بهذا الإصلاح تقويم الأمة ونهوضها.
مجلة الهدي النبوي: المجلد الخامس – العدد 8-9 – جمادى الأولى 1360هـ
-الألوكة-