هل ينجح الاتفاق الأوروبي التركي حول اللاجئين؟
أماني السنوار، باحثة في الشوون الأوروبية وحقوق الإنسان
الاثنين 12 جمادى الثانية 1437// 21 مارس/آذار 2016 وكالة معراج للأنباء الإسلامية “مينا”
توافقه مع تركيا حول خطة عمل تعالج أزمة اللجوء، دشن الاتحاد الأوروبي ما اعتبره نهاية لفصل طويل ودامٍ من الهجرة غير النظامية نحو أراضيه.
فمنذ يناير/كانون الثاني ٢٠١٥، عبَر البحر الأبيض المتوسط نحو مليون و١٦٥ ألف مهاجر غير نظامي نحو الشواطئ الأوروبية، مسجلين أعلى موجة لجوء نحو أوروبا على الإطلاق، ولأن نسبة تتجاوز الثمانين بالمائة من هؤلاء المهاجرين انطلقوا من الحدود التركية، جاءت الطموحات الأوروبية عالية بالتخلص من عبء المهاجرين بعد إبرام الاتفاق الأوروبي التركي.
مضامين الاتفاق
نصت وثيقة الاتفاق على جملة من الالتزامات المتبادلة بين الطرفين، فعلى الجانب التركي، تعهدت أنقرة بضبط حدودها المائية والبرية ضد موجات تهريب البشر، واستعادة جميع المهاجرين غير النظاميين، بمن فيهم السوريون الذين سيعبرون حدودها سرا نحو اليونان ابتداء من ٢٠ مارس/آذار الجاري، على أن تبدأ عمليات الترحيل في الرابع من إبريل/نيسان، إلى جانب أن تمنع فتح مسارات هجرة جديدة نحو أوروبا من غير البوابة اليونانية، لا سيما بوابتي إيطاليا وبلغاريا.
أما على الجانب الأوروبي، فمقابل كل لاجئ سوري سيُرحل إلى تركيا، سيسعى الاتحاد لاستقبال لاجئ سوري نظامي، بشرط ألا يكون قد حاول العبور إلى أوروبا بطريقة غير نظامية، وفق حد أعلى لن يتجاوز ٧٢ ألف لاجئ. كما سيسرع بإيصال المنحة المالية البالغة ٣ مليارات يورو مخصصة لتمويل مشاريع تعالج الحاجات الإنسانية الأساسية للاجئين السوريين على الأراضي التركية. وفي حال التزمت تركيا بالمعايير الأوروبية في إنفاق هذا المبلغ على اللاجئين، ستتم جدولة ٣ مليارات أخرى تُمنح لتركيا حتى نهاية ٢٠١٨.
وفي مقابل مطالب أنقرة بتسريع مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتحديدا فتح خمسة فصول جديدة محظورة منذ سنوات بفعل “فيتو” من قبرص، وافق الاتحاد على فتح فصل آخر لم يكن محظورا هو الفصل رقم ٣٣ حول الموازنة، مع وعد بفتح المزيد من الفصول دون المساس بـ”مواقف الدول الأعضاء” في إشارة تطمينية للقبارصة اليونان.
كما اشترط الاتحاد التزام أنقرة بالمعايير المنصوص عليها في خارطة الطريق لتحرير تأشيرة “شينغن” مع نهاية يونيو/حزيران المقبل، فيما قوبل الطلب التركي بدعم مساعي إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، بعبارة غامضة، حيث لم تذكر مفردة “المنطقة الآمنة” صراحة، وجاءت في ذيل الاتفاق.
نجاح الاتفاق أوروبيا
لا يخفى أن الهدف العريض من الاتفاق الأوروبي التركي هو إيقاف الهجرة غير النظامية عبر تحويل تركيا إلى بوابة صد أمام تصدير مزيد من المهاجرين نحو اليونان الخاصرة الأضعف للاتحاد الأوروبي.
الاتفاق ذاته، نص على مراجعة شهرية لأرقام المهاجرين غير النظاميين لاختبار مدى الجدية التركية في ضبط الحدود، ونجاعة الاتفاق في تحقيق أهدافه، وبالتالي تقييم مصيره. وبعيدا عن أخلاقية هذا الهدف في ميزان القانون الدولي، لا سيما وأنه قد تلقى العديد من الانتقادات الأممية والحقوقية، إلا أن إمكانية ترجمة الاتفاق على أرض الواقع تثير العديد من الشكوك.
فمن جهة، سعى الاتحاد لجعل الاتفاق أكثر توافقا مع القيم الإنسانية والتزامات أوروبا التاريخية نحو قضايا اللجوء وحقوق الإنسان، متعهدا بأن يتم معالجة ملفات اللاجئين غير النظاميين في اليونان بصورة فردية قبل إرجاعهم، تجنبا لمخالفة الترحيل الجماعي المجرمة دوليا، لكن السجل غير الناصع لليونان في التعامل مع طالبي اللجوء، يُثير التساؤلات حول قدرة أثينا على إنجاز معاملات اللاجئين بكفاءة خلال فترة قصيرة.
ومن جهة أخرى، وإن كانت أوروبا قد سعت لمحاربة دعاية مهربي البشر عبر إيصال رسالة للطامحين إلى الهجرة بأن سلوكهم طرقا غير نظامية لن يقودهم لتحقيق حلم الاستقرار والتوطين، فإنها في الوقت ذاته قدمت البديل الشرعي للجوء في طبق هزيل جدا.
فوصول قرابة ٨٠٠ ألف طالب لجوء إلى اليونان خلال عام، قابلته وعود أوروبية غير إلزامية باستقبال ما لا يزيد عن ٧٢ ألف لاجئ. المقلق هنا، أن دول الاتحاد لم تتوافق إلا على منح اللجوء لـ ١٨ ألف شخص فقط، أما الـ ٥٤ ألف المتبقية، فقال الاتحاد أنه سيدعو الدول الأعضاء إلى التوافق عليها لاحقا وبصورة طوعية، وهو الأمر الذي لا يقدم ضمانات حقيقية بأنها ستُمنح أصلا، كما يُعيد الأمر إلى الأذهان تصريحات بعض الدول مثل بلجيكا وسلوفاكيا والمجر، المعبرة عن رغبتها باستقبال لاجئين مسيحيين فقط، أو من أبناء الأقليات.
كما أن وجود أربعين ألف لاجئ في اليونان منذ أيام، لا تشملهم إجراءات الترحيل إلى تركيا، يثير الشكوك حول قدرة الاتحاد الاوروبي على التوافق الطوعي على جلب مزيد من اللاجئين الجدد من خارج حدوده، فيما هو عاجزة عن معالجة مصير من أصبحوا بالداخل.
ومن الجدير ذكره، أن الاتحاد الأوروبي لم يُحدد سقفا زمنيا يبدأ فيه بعملية توطين اللاجئين السوريين من تركيا أو ما أسماه بمخطط “القبول الإنساني الطوعي”، وإنما تحدث الاتفاق بأن المخطط سيبدأ عندما “تتوقف الهجرة غير النظامية، أو على الأقل تشهد معدلاتها انخفاضا كبيرا ومستداما”. مما يعني أن أوروبا اليوم تعمل على إيصاد حدودها في وجه لاجئي الحرب والنزاعات دون أن تقدم لهم بديلا “شرعيا” مقنعا، وهو الأمر الذي يرشح أن تعود موجات الموت الجماعي في البحر المتوسط من جديد، بعد أن يسلك اليائسون طرقا أكثر خطرا وتهلكة.
نجاح الاتفاق تركيا
أما على الجانب التركي، فلا شك أن الهم الأكبر كان التخفف -قدر الإمكان- من عبء اللاجئين السوريين الذين ثقلت فواتيرهم المالية والأمنية في حسابات أنقرة. فمن جهة، تستقبل تركيا أكبر حصة منهم في العالم، وتقول إنها أنفقت ١٠ مليارات دولار لتغطية احتياجاتهم الأساسية، فيما لا يظهر في الأفق حل قريب للأزمة السورية.
التململ التركي بدا واضحا في ما هو أكبر من التصريحات الحادة التي يطلقها المسؤولون الأتراك ضد أوروبا والمجتمع الدولي للتقصير تجاه اللاجئين، إذ إن معدلات الهجرة غير النظامية التي ارتفعت بشكل ملحوظ، انطلاقا من الشواطئ التركية، كانت تشي بأن أنقرة تعمدت تصدير أزمة اللاجئين إلى أوروبا، أو على الأقل، غضت الطرف عن عمليات التهريب المحمومة انطلاقا من شواطئها.
اعتبر الأتراك الاتفاق مع أوروبا “تاريخيا” في نغمة منتصرة طغت على تصريحات المسؤولين الأتراك من مختلف المستويات، ولعلها كانت منطلقة من مرارة التجربة الطويلة على أعتاب الاتحاد الأوروبي، وكون أنقرة جلست للمرة الأولى على طاولة القادة الأوروبيين للتفاوض بمنطق الندية، نظرا لاحتياج أوروبا الماس لمعالجة أزمة اللجوء، وهو الأمر الذي دفع أنقرة للمطالبة بمكاسب إضافية خارج إطار معضلة اللجوء، فاستدعت تسريع مطالب تحرير التأشيرة ومفاوضات الانضمام.
من وجهة نظر تركية، سيقيم نجاح الاتفاق في حال استطاعت أنقرة التخفف من دفع فاتورة اللاجئين وحدها، عبر ترجمة الوعود المالية إلى مشاريع حقيقية تساعد اللاجئين على أراضيها، إلى جانب نجاح مساعي تحرير التأشيرة في موعدها أواخر يونيو/حزيران، وتحقيق تقدم ما على مسار مفاوضات الانضمام. وإن كان الهدف الأول قريب المنال، إلا أن التوقعات تستبعد تحقيق إنجاز قريب في تحرير التأشيرة، فضلا عن اختراقات حقيقية في مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد.
تحرير تأشيرة شينغن
تضمن الاتفاق الأوروبي التركي تعهدا أوروبيا بتسريع إجراءات رفع التأشيرة عن المواطنين الأتراك في دخولهم ٢٦ دولة أوروبية منضمة إلى فضاء “شينغن”، ولكنه جعل هذا الأمر مشروطا بإيفاء أنقرة لالتزاماتها المنصوص عليها وفق خارطة الطريق الموقعة أواخر ٢٠١٣.
والواقع أنه منذ ذلك الحين، تسعى تركيا للمواءمة مع هذه الالتزامات، في أربعة اتجاهات:
– الأول: أمن الوثائق وجوازات السفر التركية، بما يضمن تحصينها من التزوير.
“هناك قصور واضح في توفير الآليات والضمانات اللازمة لوقف الهجرة غير النظامية، ومن المستبعد أيضا رفع تأشيرة شنغن عن الأتراك في الوقت المحدد، ليس فقط لصعوبة تكيف أنقرة مع المعايير المتبقية، بل لأن بنود الاتفاق إشكالية بما يكفي للتنصل الأوروبي من التزامهم تجاه الأتراك”
– الثاني: إدارة الهجرة والتأشيرات.. وقد قامت تركيا استجابة للمطالب الأوروبية بجملة من المواءمات، بينها: فرض التأشيرة على مواطني مناطق النزاع مثل ليبيا وسوريا، أو إلغاء التأشيرات الفورية الممنوحة لمواطني بعض الدول كالعراق. كما تعهدت بالتشدد حيال منح تأشيرات ١٨ دولة أخرى، وبحث إبرام معاهدات ترحيل مع ١٤ دولة. كما استجابت لمطالب الأوروبيين بمنح تصريحات عمل للاجئين السوريين ابتداء من يناير/كانون الثاني ٢٠١٦.
-الثالث: النظام العام والأمن، لا سيما في الانضمام إلى جملة من البروتوكولات الأوروبية الخاصة بتبادل المعلومات الاستخبارية والقضائية حول الإرهاب والجريمة المنظمة والمطلوبين والتحويلات المالية للمنظمات المصنفة إرهابية في أوروبا.
– الرابع: الحقوق الأساسية والحريات العامة وحقوق الإنسان.. وهو البند الذي يتضمن المصادقة التركية على بعض البروتوكولات الدولية والأوروبية حول استقلال القضاء وحقوق الأقليات وحرية الإعلام.
ومن ضمن المعايير الـ٧٢ التي وضعتها خارطة الطريق، اعتبر تقرير صادر عن الاتحاد مطلع مارس/آذار، أن تركيا نجحت أو أوشكت على النجاح في استيفاء ٣٦ شرطا، بينما لم تستوف بعد النصف الثاني من الشروط، وهو النصف الذي يحتوي في بعض تفاصيله على شروط أشبه بالتعجيزية بالنسبة لتركيا، أبرزها الاعتراف بجمهورية قبرص تحت الإدارة اليونانية، وهو مناط النزاع الطويل بين تركيا واليونان.
ختاما.. هناك الكثير مما يقال حول مناقضة الاتفاق الأوروبي التركي حول اللاجئين للمبادئ الدولية التي كفلت حق اللجوء، وجرمت ترحيل اللاجئين إلى مناطق لا تصنف “آمنة” لطالبي اللجوء، ومن بينها تركيا التي لا تتوفر فيها آليات لجوء لمواطني العالم الثالث.
لكن الغوص في تفاصيل الاتفاق يكشف قصورا واضحا في توفير الآليات والضمانات اللازمة لإنجاح هدفه في وقف الهجرة غير النظامية، وتضميد نزيف الأرواح على أعتاب القارة الأوروبية. كما من المستبعد أن يُفضي إلى رفع تأشيرة شنغن عن المواطنين الأتراك بحلول يونيو/حزيران، ليس فقط لصعوبة تكيف أنقرة مع المعايير المتبقية، بل لأن بنود الاتفاق إشكالية بما يكفي للتنصل الأوروبي من التزامهم تجاه الأتراك.
ولعل السيناريو الأوفر حظا هنا، أن تنجح أوروبا في صد مؤقت لموجات الهجرة إلى اليونان، ما تلبث أن تعود بشراسة عبر مسارات أخرى، وبتجاهل تركي جديد لموجات هجرة صيفية تضرب الشواطئ الأوروبية، عقابا لتلكؤ الاتحاد في إنفاذ وعوده الطموحة لأنقرة.
المصدر : الجزيرة.نت