ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا (1)

الأربعاء20 جمادى الأولى1436//11 مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
الطريق إلى الله يقطع بالقلوب لا بالأبدان كما قال يحيى بن معاذ (مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب) [صفة الصفوة, ابن الجوزي, (1/425)], ومن ثم كان الاهتمام بالقلب ومحاولة تزكيته وتطهيره من الآفات والأمراض التي ربما تصيبه أمرًا هاما لكل سائر إلى الله تعالى, ومن أخطر الأمراض وأشدها ضرواة على القلب مرض الغل والحقد الذي ما يصيب عبدا حتى يأتي على الأخضر واليابس في قلبه ويقلب حياته إلى جحيم لا يطاق.
تعريف الغل
عرفه البعض بأنه: (الغشُّ والحِقدُ أيضاً, وقد غلّ صدره يَغِلُّ بالكسر غِلاًّ، إذا كان ذا غش أو ضِغْنٍ وحقدٍ) [الصحاح في اللغة].
وعرفه ابن منظور بأنه: (الغِلُّ بالكسر والغَلِيلُ الغِشُّ والعَداوة والضِّغْنُ والحقْد والحسد) [لسان العرب, ابن منظور].
ومن خلال التعريفات السابقة يتضح لنا أن الغل هو الحقد وحمل الضغينة للمسلمين
حكم الغل والحقد
من المعلوم أن الغل والحقد محرم بين المؤمنين، واجب ضد الكفار المحاربين للمسلمين. لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
ولقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
ولقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وقد ورد النهي الصريح عن الحقد والشحناء والبغضاء بين المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) [متفق عليه].
يقول العلامة ابن حجر رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: (أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء … وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله) [فتح الباري, ابن حجر].
وقد حرم الله على المؤمنين كل ما من شأنه أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91], ومن ثم كان الحقد محرمًا لأنه سبب رئيسي في وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين.
وقد عده الإمام ابن حجر الهيثمي من كبائر الذنوب, يقول رحمه الله: (“الكبيرة الثالثة: الغضب بالباطل والحقد والحسد”, لما كانت هذه الثلاثة بينها تلازم وترتب إذ الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب كانت بمنزلة خصلة واحدة، فلذلك جمعتها في ترجمة واحدة لأن ذم كل يستلزم ذم الآخر إذ ذم الفرع وفرعه يستلزم ذم الأصل وأصله وبالعكس) [الزواجر عن اقتراف الكبائر, ابن حجر الهيثمي].
3- خطورة الغل وضرره
1- التعاسة والشقاء في نفس الحاقد
يقول الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله: (والحقد حين تحليله يتبين من عناصره ما يلي:
أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف.
وثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.
وثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام.
تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد, لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء … وهكذا) [محاضرة للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان تصفية النفوس من الأحقاد]
قال الدكتور مصطفى السباعي : (لا تحقدْ على أحدٍ فالحقد ينال منك أكثر مما ينال من خصومك ويبعد عنك أصدقاءك كما يؤلّب عليك أعداءك ، ويكشف من مساوئك ما كان مستوراً ، وينقلك من زمرة العقلاء إلى حثالة السفهاء ، ويجعلك بقلب أسود ووجه مصفر ، وكبد حرّى) [حرمة المسلم على المسلم, ماهر ياسين الفحل]
(ماذا استفاد الحاقدون ؟ ماذا استفاد الحاسدون ؟
ما استفادوا إلا النصب وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات, ووالله لن يردوا نعمة أنعم الله بها على عبد أي كان.
أصبر على مضض الحسود…… فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها………إن لم تجد ما تأكله) [هكذا علمتني الحياة, علي القرني]
وصدق الشاعر حين قال:
مالي وللحقد يُشقيني وأحمله.. ..إني إذن لغبيٌ فاقدُ الحِيَل؟!
سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي.. ..ومركب المجد أحلى لي من الزلل
إن نمتُ نمتُ قرير العين ناعمـها.. .. وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي
وأمتطي لمراقي المجد مركبــتي.. ..لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي
مُبرَّأ القلب من حقد يبطئـــني.. .. .أما الحقود ففي بؤس وفي خطــل
2- أن الحقد يجلب الحسد
فأنتِ إذا حقدتِ على أخيكِ المسلم فلاشك أنَّك ِستحسدينه على النِّعم التي أفاء الله بها عليه ، وأنَّكِ سَتُسَرُّين بالمصائب التي تصيب أخاكِ المسلم ، وهذا بلا شك من صفات المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر قال تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِم دَائِرةُ السَّوءِ} [التوبة: 98], ولعل الحقد يزداد عند بعضهم فيدفعه على التشمت بالآخرين
والحسد مذموم في الشرع ولا شك لأنه من كبائر الذنوب ووردت الاستعاذة منه في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 1-5].
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (والحسد آفة عظيمة، فهو من كبائر الذنوب، لأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ ولأنه من خصال اليهود، كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]) [لقاءات الباب المفتوح, اللقاء رقم (165)].
3- أن الغل والحقد مدعاةٌ إلى فساد ذات البين
وهذا أمر طبيعي فالإنسان الذي يحقد على أخيه المسلم سيدعوه هذا إلى مقاطعته وهجره والعكس صحيح فمن علم أن هناك من يحقد عليه من المسلمين فمن المؤكد أنه سيهجره ويقاطعه وهو أمر مخالف لشرع الله تعالى, يقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة) قال في تحفة الأحوذي: (الحالقة هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر) [تحفة الأحوذي].
4- أن الغل طريق موصلة للكذب والغيبة والنميمة
فالغل يؤدي بالمسلم (إلى أنْ تتكلم في أخيك المسلم بما لا يحل ، وقد يؤول بك ذلك إلى الكذب عليه أو غيبته وإفشاء سره وهتك ستره ، بل ربما دفعك ذلك إلى وشايته بما يؤول إلى قتله ، إلى غير ذلك من الأضرار التي تنجم عن الحقد ، كالاستهزاء به والسخرية منه ، وإيذاءه بالضرب ، أو أنْ تمنعه حقه من قضاء دَين أو صلة رحم أو رد مظلمة ، وكل ما ذُكِرَ من أضرار الحقد إنَّما هي معاصٍ يُحاسَب عليها العبدُ يوم القيامة ، ويجد ذلك مكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وسيكون حينذاك الندم ، لكن لا ينفع الندم) [حرمة المسلم على المسلم, ماهر ياسين الفحل].
فمن امتلأ قلبه بالغل والحقد سيسعى جاهدا أن يحط من منزلة من يحقد عليه بين الناس بالغيبة والنميمة ونشر الأكاذيب والأراجيف حوله, والغيبة والنميمة من كبائر الذنوب وصاحبها على خطر عظيم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
وقد نرى هذا بكثرة للأسف الشديد بين أوساط الدعاة وطلبة العلم ممن لم يتحلوا بأخلاق العلم والعلماء فتجد بعضهم يتكلم على بعض وتنتشر الاتهامات بالتبديع والتفسيق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5- أن الغل والحقد يوقع صاحبه في مجموعة من الأمور المحرمة
قال الغزالي: (والحقد يثمر ثمانية أمور:
(1) الحسد: وهو أن يحمل الحاقد على أن يتمنى زوال النعمة عن المحقود عليه، فيغتم بنعمة إن أصابها، ويسر بمصيبة إن نزلت به.
(2) أن يزيد الحاقد على إضمار الحسد في الباطن، فيشمت بما أصابه من البلاء.
(3) أن يهجر ويصارم وينقطع عنه، وإن طلب وأقبل على المحقود عليه وهو دونه.
(4) أن يعرض الحاقد عن المحقود عليه استصغاراً له.
(5) أن يتكلم الحاقد في المحقود عليه بما لا يحل، من كذب، وغيبة، وإفشاء سر، وهتك ستر، وغيره.
(6) أن يحاكي الحاقد المحقود عليه استهزاءً به، وسخرية منه.
(7) الاعتداء عليه بأي صورة من الصور.
(8) أن يمنعه حقده من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام) [إحياء علوم الدين, الغزالي].
6- أن الغل والحقد قد يدفع صاحبه إلى القتل
كما حدث مع ابني آدم عليه السلام حين قتل أحدهما الآخر بسبب الحقد والحسد, قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) } [المائدة: 27-30]
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغيا عليه وحسدا له، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة) [تفسير ابن كثير]
7- أن الغل والحقد يؤخر مغفرة الله للعبد
فمن كانت بينه وبين أخيه شحناء وبغض لا يغفر الله له حين ترفع الأعمال لله عز وجل يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع كما قال صلى الله عليه وسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا, إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء, فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا, أنظروا هذين حتى يصطلحا, أنظروا هذين حتى يصطلحا)
مفكرة الإسلام

اقرأ أيضا  صدق الرسالة المحمدية
Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.