ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا (2)
الأربعاء20 جمادى الأولى1436//11 مارس/آذار 2015وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
تكلمنا في المرة السابقة عن الغل وتعريفه وخطورته واليوم بإذن الله تعالى نتكلم عن صوره وأسبابه وكيفية علاجه.
صور الغل
وللغل والحقد عدة صور وعلامات تظهر على من ابتلي بهذا المرض أعاذنا الله وإياكم منه:
1- تمني الشر للمسلمين والفرح بما يصيبهم من سوء
وهي علامة ظاهرة على من في قلبه غل وحقد فهو لا يحب الخير للمسلمين ويحزن إذا رأى توسعة من الله على عبد من عباده أو رأى أحد الناس يرتفع في منزلته أو يحبه الناس ويلتفون حوله وهذا بسبب ما في قلبه من بغضاء وشحناء وهذه العلامة تضعف من إيمان العبد كما قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وهي صفة أيضا من صفات المنافقين وأهل الكتاب كما أخبر عنها ربنا سبحانه وتعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119-120]
وقال تعالى مخبرًا نبيه صلى الله عليه وسلم عن أحوال المنافقين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50].
2- الشك وسوء الظن بالمسلمين
فترى من في قلبه غل وحقد يشك في كل من حوله ويسيء الظن فيهم بسبب أو بدون سبب فهو يتمنى أن يكون الآخرون على خطأ ويشعر دائما أنهم يبطنون خلاف ما يظهرون, وهذا طبيعي فمن امتلأ قلبه بالحقد على الناس والغل لهم فمن باب أولى ألا يحسن الظن فيهم فلا يحسن الظن إلا مؤمن طاهر القلب يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
قال الشيخ السعدي في تفسيره لهذه الآية: (نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه) [تفسير السعدي].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث) [متفق عليه].
3- الاستهزاء والسخرية من الآخرين
فيهزأ من في قلبه غل وحقد بمن حوله لشعوره بأن هذه الطريقة تحط من منزلتهم وترفع من منزلته هو, وكان هذا هو حال الكفار والمنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم حين كانوا يسخرون منه حقدا وغلا في صدورهم, فتارة يهزئون به صلى الله عليه وسلم ويصفونه بأنه غير عظيم يقول تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وتارة يقولون أن ما يأتيه أضغاث أحلام وشعر يقول تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5].
ووضح الله تعالى لماذا يفعل المشركون وأهل الكتاب ذلك فقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
أسباب الغل
للغل أسباب متعددة وهي كما يلي:
1 – اتباع الشيطان:
وهي من أكبر أسباب جلب الغل والحقد للقلوب, قال تعالى: {وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الّتي هِىَ أحسَنُ إنّ الشَيطَانَ يَنَزَغُ بَيَنَهُم إن الشَيطَانَ كَانَ للإنَسانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء: 53]
قال الطبري رحمه الله: (يفسد بينهم، يهيج بينهم الشر) [تفسير الطبري].
وقال ابن كثير رحمه الله: (يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة) [تفسير ابن كثير].
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ} أي: يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم.
فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها، وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه, وأما إخوانهم فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم وسعى في العداوة فإن الحزم كل الحزم السعي في ضد عدوهم وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم) [تفسير السعدي].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, ولكن في التحريش بينهم)
2 – الغضب:
فالغضب هو أس كل بلاء وسبب كل شر وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بالبعد عن الغضب فقال: (لا تغضب) فرددها مراراً وذلك لأن الغضب طريق إلى التهكم بالناس والتكبر عليهم وبخس حقوقهم وإيذائهم بالأقوال والأفعال وغير ذلك مما يولد البغضاء والفرقة.
قال العلامة ابن حجر رحمه الله: (جمع صلى الله عليه وسلم في قوله “لا تغضب” خير الدنيا والآخرة, لأن الغضب يئول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين) [فتح الباري, ابن حجر]
3 – التنافس على الدنيا:
والحقد في الغالب يكون بين الأقران، ولذلك فالضرة تحقد على ضرتها، والفقير يحقد على الغني، وكل من سلب نعمة يحقد على من أنعم الله عليه بها، وكل صاحب رئاسة يحقد على من ينازعه الرئاسة، وكل إنسان يحقد على من يتفوق عليه بشيء, خاصة في هذا الزمن حيث كثر هذا الأمر واسودت القلوب وبعدت عن علام الغيوب سبحانه والناس لا تدري أن الدنيا لا تستحق منهم كل هذا فهي ملعونة كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما)
قال في تحفة الأحوذي: (أي مبغوضة من الله لكونها مبعدة عن الله)
وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
4 – حب الشهرة والرياسة:
قال سفيان رحمه الله: (حب الرياسة أعجب إلى الرجل من الذهب والفضة, ومن أحب الرياسة طلب عيوب الناس) [طبقات الحنابلة, ابن أبي يعلى], وهذا مشاهد بكثرة في كل مكان وخاصة بين الموظفين والعمال والمدراء في الشركات والمصانع وقد يتطور الأمر إلى أن يفتري أحدهم الكذب على زميل له حتى ينال الترقية بدلا منه.
6- علاج الغل والحقد
اعلمي أيتها الفاضلة أن الله تعالى امتن على عباده المؤمنين سكان الجنان بنزع الغل من قلوبهم وصدروهم حين قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43].
وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: (وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن الله يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين، وأخلاء متصافين) [تفسير السعدي]
ومن ثم كان الجهد الذي ستبذلينه لإزالة الغل والحقد من قلبك وجعله سليما صافيا لا يحمل لأحد حقدا أمرا يستحق منكِ العناء والجهد والتضحية وإليكِ الطريق عبر العناصر التالية:
أولاً: الإخلاص:
عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله: {ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم} [رواه أحمد وابن ماجه].
ومن المعلوم أن من أخلص دينه لله عز وجل فلن يحمل في نفسه تجاه إخوانه المسلمين إلا المحبة الصادقة، وعندها سيفرح إذا أصابتهم حسنة، وسيحزن إذا أصابتهم مصيبة؛ سواءً كان ذلك في أمور الدنيا أو الآخرة.
ثانياً: رضا العبد عن ربه وامتلاء قلبه به:
قال ابن القيم رحمه الله في الرضا: (إنه يفتح للعبد باب السلامة، فيجعل قلبه نقياً من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا، وكلما كان العبد أشد رضاً كان قلبه أسلم، فالخبث والدغل والغش: قرين السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضا، وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا).
ثالثاً: قراءة القرآن وتدبره:
فهو دواء لكل داء، والمحروم من لم يتداو بكتاب الله، قال تعالى: قُل هُوَ لِلذِينَ ءَامَنُوا هُدىً وَشِفَآءٌ [فصلت:44]، وقال: وَنُنَزِلُ مِنَ القُرءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسَاراً [الإسراء:82]. قال ابن القيم رحمه الله: (والصحيح أن “من” ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: يَاأيُها النّاسُ قَد جَآءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِكُم وَشِفَآءٌ لِمَا فىِ الصُدُورِ [يونس:57].
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة.
رابعاً: تذكر الحساب والعقاب:
الذي ينال من يُؤذي المسلمين من جراء خُبث نفسه وسوء طويته من الحقد والحسد والغيبة والنميمة والإستهزاء وغيرها.
خامساً: الدعاء:
فيدعو العبد ربه دائماً أن يجعل قلبه سليماً على إخوانه، وأن يدعوا لهم أيضاً، فهذا دأب الصالحين، قال تعالى: وَالذِّينَ جَآءُو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجعَل في قُلُوبِنَا غِلاً لِلّذِينَ ءَامَنُوا رَبَنَا إنّكَ رَءُوفٌ رّحِيم [الحشر:10].
سادساً: الصدقة:
فهي تطهر القلب، وتُزكي النفس، ولذلك قال الله تعالى لنبيه: خُذّ مِن أموالِهم صَدَقَةً تُطَهِرُهُم وَتُزَكِيِهِم بِهَا [التوبة:103].
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: { داووا مرضاكم بالصدقة } [صحيح الجامع]. وإن أحق المرضى بالمداواة مرضى القلوب، وأحق القلوب بذلك قلبك الذي بين جنبيك.
سابعا: إفشاء السلام:
عن أبي هريرة قال رسول الله: { والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم } [رواه الإمام مسلم].
قال ابن عبد البر رحمه الله: (في هذا دليل على فضل السلام لما فيه من رفع التباغض وتوريث الود).
ثامنا: ترك كثرة السؤال وتتبع أحوال الناس:
امتثالاً لقول النبي: { من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه } [رواه الترمذي].
تاسعا: محبة الخير للمسلمين:
لقوله: { والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } [رواه البخاري ومسلم].
عاشرا: عدم الاستماع للغيبة والنميمة:
حتى يبقى قلب الإنسان سليماً: قال: { لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر } [رواه أحمد] والكثير اليوم يلقي بكلمة أو كلمتين توغر الصدور خاصة في مجتمع النساء وفي أوساط البيوت من الزوجات أو غيرهن.
الحادي عشر: إصلاح القلب ومداومة علاجه:
قال: { ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } [رواه البخاري ومسلم].
الثاني عشر: السعي في إصلاح ذات البين:
قال تعالى: فَاتَقُوا اللّهَ وَأصلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم [الأنفال:8 ] قال ابن عباس رضي الله عنه: (هذا تحريم من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم).
وقال: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟) قالوا: بلى. قال: (إصلاح ذات البين) [رواه أبو داود].
المصدر:مفكرة الإسلام