{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى}
الأحد،4 ذوالحجة1435ه الموافق28أيلول/سبتمبر2014 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
محمد حسن نور الدين إسماعيل
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282].
لَمَّا ذكر الله تعالى الربا وما فيه من قبح وشناعة – لأنه زيادة مقتطعة من عرَق المَدِين ولحمه، وهو كسب خبيث يمقته الإسلام ويُحرِّمه – أعقبه بذكر القرض الحسن بلا فائدة، وذكر الأحكام الخاصة بالدَّين والتجارة والرهن، وكلها طرق شريفة لتنمية المال وزيادته، بما فيه صلاح الفرد والمجتمع، وآية الدَّين هي أطول آية في القرآن الكريم على الإطلاق؛ مما يدل على عناية الإسلام بالنظم الاقتصادية.
فينادي – سبحانه وتعالى – المؤمنين، فيقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾[1]؛ أي: إذا داين بعضكم بعضًا في شراء أو بيع أو سَلَمٍ أو قرض.
﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾: وقت محدد بالأيام أو الشهور أو الأعوام.
﴿ بِالْعَدْلِ ﴾: بلا زيادة أو نقصان، ولا غش أو احتيال، بل بالحق والإنصاف.
﴿ وَلَا يَأْبَ ﴾؛ أي: لا يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب.
﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾؛ لأن إملاءه اعترافٌ منه وإقرار بالذي عليه من الحق.
﴿ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾: لا ينقص من الدَّين الذي عليه ولو قل، وليذكره كله.
﴿ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا ﴾: السفيه: الذي لا يُحسِن التصرفات المالية، والضعيف: العاجز عن الإملاء؛ كالأخرس أو الشيخ الهرم.
﴿ وَلِيُّهُ ﴾: مَن يلي شؤونه لعجزه وقصوره.
﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾؛ أي: المسلمين الأحرار، دون الكفار والعبيد.
﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾: تنسى أو تُخطئ لقصر إدراكها.
﴿ وَلَا تَسْأَمُوا ﴾: لا تضجروا أو تملوا من الكتابة، ولو كان الدَّين صغيرًا مبلغه.
﴿ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: أعدل في حكم الله وشرعه.
﴿ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ﴾: أثبت لها وأكثر تقريرًا؛ لأن الكتابة لا تُنسى، والشهادة تنسى، أو يموت الشاهد أو يغيب.
﴿ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾: أقرب أن تشكُّوا، بخلاف الشهادة بدون كتابة.
﴿ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾؛ أي: تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود، فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.
﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾: إذا باع أحد أحدًا دارًا، أو بستانًا، أو حيوانًا، يُشهِد على ذلك البيع.
﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ بأن يكلف ما لا يقدر عليه، بأن يُدعَى ليشهد في مكان بعيد يشق عليه، أو يطلب منه أن يكتب زورًا أو يشهد به.
﴿ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾؛ أي: خروج عن طاعة ربكم، لاحق بكم إثمه، وعليكم تبعته يوم القيامة.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ في أوامره فافعلوها، وفي نواهيه فاتركوها، وكما علمكم هنا يعلمكم ما تحتاجون، فاحمدوه بألسنتكم، واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها وهو ﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
معنى الآية الكريمة:
لَمَّا حث تعالى على الصدقات، وحرَّم الربا، ودعا إلى العفو عن المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدَّين، الأمر الذي يتبادر إلى الذهن أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة – فجاءت هذه الآية (آية الدَّين) الكريمة لتعطي للمال حقه، وترفع شأنه، فإنه قوام الحياة، فقررت واجب الحفاظ عليه، وذلك بكتابة الديون، والإشهاد عليها بمن تُرضَى عدالتهم، وكون الشاهدينِ رجلينِ مسلمين حرَّين، فإن انعدم رجلٌ من الاثنين، قامت امرأتان[2] مقامه، واستحث الله تعالى مَن يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان ذا سَعَة[3] من أمره، وحرَّم على الشهود إذا ما دُعوا لأداء الشهادة أن يتخلَّوا عنها، وحرم على المتداينين ألا يكتبوا ديونهم ولو كانت قليلة، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ﴾.
ورخَّص تعالى منه عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه، فقال: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾.
وأمر بالإشهاد على البيع، فقال: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾، ونهى عن الإضرار بالكاتب أو الشهيد بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو في شغله، أو أن يدعى إلى مسافات بعيدة تشق عليه؛ إذ أمره تطوُّع وفعل خير لا غير، فيُطلَب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما، وحذَّر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والإضرار بالكاتب والشهيد، فقال: ﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾، وأكد ذلك بأمره بتقواه، فقال: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾[4].
فوائد من الآية الكريمة:
1- العلم نوعان: كسبي ووهبي:
أما الأول، فيكون تحصيله بالاجتهاد والمثابرة والمذاكرة.
وأما الثاني، فطريقه تقوى الله والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾، وهذا يسمى العلم اللدني، ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، وهو العلم النافع الذي يَهَبُه الله تعالى لمن يشاء من عباده المتقين[5].
2- كون الشهود لا يقلُّون عن اثنين، هذا عام في كل شهادة، إلا شهادة الزنا، فإنهم لا يقلون عن أربعة أبدًا.
3- قوله تعالى: ﴿ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ دل على أن الشهود يأتون الحاكم ليشهدوا، ودل على أن مَن لم يُدْعَ ليس عليه أن يشهد، ولكن ورد في السنة الترغيب في أداء الشهادة ولو لم يُدْعَ إليها المسلم، لا سيما إذا توقف على شهادته إثبات حق من الحقوق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خير الشهود من أدَّى شهادته قبل أن يُسأَلَها))[6].
4- جواز النيابة في الإملاء لعجز عنه وعدم القدرة عليه.
5- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء، لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجَّلة.
6- وجوب الإشهاد على الكتابة؛ لتأكدها به وعدم نسيان قدر الدَّين وأجله.
7- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدَّين صغيرًا تافهًا.
8- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
9- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بالٍ.
10- حرمة الإضرار بالكاتب أو الشهيد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾.
11- تقوى الله تُسبِّب العلم، وتكسب المعرفة بإذن الله تعالى؛ لقوله: ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29]؛ أي: تفرِّقون به بين الحق والباطل[7].
12- تكرار لفظ الجلالة (الله) في الجمل الثلاث: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾؛ لإدخال الروعة[8]، وتربية المهابة في النفوس.
13– ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل مبالغةً في التحذير[9].
فوائد من الآية الكريمة من كتاب تفسير السعدي – رحمه الله تعالى -:
1- ثبوت الولاية على القاصرين من الصغار والمجانين والسفهاء ونحوهم.
2- أن الولي يقوم مقام مُوليه في جميع اعترافاته المتعلقة بحقوقه.
3- وجوب الاعتراف بالحقوق الخفية، وأن ذلك من أعظم خصال التقوى، كما أن عدم الاعتراف بها من نواقض التقوى ونواقصها.
4- الإرشاد إلى إشهاد رجلينِ عدلين، فإن لم يمكن أو تعذَّر، فرجل وامرأتان، وذلك شامل لجميع المعاملات: بيوع الإدارة، وبيوع الدَّين، وتوابعها من الشروط والوثائق وغيرها، وإذا قيل: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد واليمين، والآية الكريمة ليس فيها إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين؟ قيل: الآية فيها إرشاد الباري عباده إلى حفظ حقوقهم؛ ولهذا أتى فيها بأكمل الطرق وأقواها، وليس فيها ما ينافي ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالشاهد واليمين، فباب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر يرشد فيه العبد إلى الاحتراز والتحفظ التام، وباب الحكم بين المتنازعين ينظر فيه إلى المرجحات والبينات بحسب حالها.
5- أن شهادة المرأتين قائمة مقام الرجل الواحد في الأمور الدنيوية، أما في الأمور الدينية؛ كالرواية والفتوى، فإن المرأة فيه تقوم مقام الرجل الواحد.
6- أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الكتابة والشهادة حيث وجبت؛ لأنه حق أوجبه الله على الكاتب والشهيد.
7- أن تعلُّم الكتابة من الأمور الدينية؛ لأنها وسيلة إلى حفظ الدين والدنيا وسبب للإحسان.
8- الإرشاد إلى حكمة جعل الشارع شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل؛ وذلك لضعف ذاكرة المرأة غالبًا، وقوة حافظة الرجل[10].
9- مشروعية الوثيقة بالحقوق، وهي الرهون والضمانات التي تكفُلُ للعبد حصولَه على حقه، سواء عامَلَ برًّا أو فاجرًا، أو أمينًا أو خائنًا، فكم في الوثائق من حفظ حقوق وانقطاع منازعات.
10- أنه كما أنه من العلم النافع: تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات، فمنه أيضًا تعليم الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات، فإن الله تعالى حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم، وكتابه العظيم فيه تبيان لكل شيء[11].
________________________________________
[1] تداين: تفاعل من الدَّين، يقال: داينت الرجل: عاملته بدَين معطيًا أو آخذًا، كما بايعته: إذا بعته أو باعك.
[2] الجمهور على أن اليمين تقوم مقام الشاهد؛ أي: إذا انعدم الشاهد الثاني قضى القاضي بالشاهد واليمين التي يحلفها المطالب بالبيِّنة، ومن هنا إن وجد من الشهود امرأتان فقط اعتبرتا شاهدًا واحدًا، وزيدت اليمين وقضى القاضي بذلك، وهذا في الأموال خاصة.
[3] إذا كان الكاتب في سَعَة من أمره، فليكتب على سبيل الندب، وإن لم يوجد غيره، وجب عليه أن يكتب، وفي قوله: ﴿ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾ [البقرة: 282] أمر له أن يكتب الوثائق على طريقتها فلا يبدل ولا يغير، وفيه تذكير له بنعمة الله.
[4] أيسر التفاسير – الجزائري ج1ص152.
[5] صفوة التفاسير – الصابوني.
[6] رواه ابن ماجه – رحمه الله تعالى – عن زيد بن خالد – ص. ج للألباني رقم 3277.
[7] أيسر التفاسير – الجزائري ج 1ص152.
[8] الروعة: الفزعة، والرَّوع – بالفتح -: الفزع، والرُّوع بالضم: القلب والعقل، يقال: وقع في رُوعي؛ أي: في خلدي وبالي، وفى الحديث: ((إن الروح الأمين نفث في رُوعي))؛ مختار الصحاح.
[9] صفوة التفاسير – الصابوني.
[10] لفظ هذه الفائدة ليس من كلام الشيخ السعدي رحمه الله تعالى، وإنما هو لفظ الشيخين عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل، ومحمد الصالح العثيمين في تقديمهما وتعليقهما على كتاب “تيسير الكريم الرحمن، في تفسير كلام المنان”؛ للشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى.
[11] تفسير الشيخ السعدي رحمه الله.
المصدر: الألوكة