العقل بين المفهوم الغربي والبيان القرآني (1/2)
الجمعة 13 ذوالحجة1434 الموافق18 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أرسل الله إلى كلِّ أمةٍ نبيًّا يعلِّمها أمرَ دينها، وكان من حكمة الله – تعالى – البالغة أنْ كان كلُّ رسولٍ يأتي لينذر قومه بلسانهم الذي يتحدَّثون به، وبآيةٍ مما يختصُّ بها قومه؛ ليكون أبلغ في إقامة الحجة عليهم، وكان من شأن هذه الأمة أنْ أنزل الله إليها كتابًا هو خاتم الكتب، فكان عربيًّا مبينًا، وكان مُعجِزًا في ذاته، فكان العرب يستمعون القرآن ويُدرِكون ما فيه من المعاني بغير كُلْفةٍ ومشقَّة، بل كانت تُبهِرهم فصاحته وبيانه بما يملكونه من ذائقةٍ عربية سليمة، ثم احتاج المسلمون مع مرور الوقت وضعف المسلمين إلى ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية.
وكانت الترجمة التي فرَضَتْها ضرورات الدعوة تحمل في طيَّاتها مخاطَرة الخطأ في توصيل المعنى المراد، خاصةً أنه قلَّما يجتمع في المترجم المؤهِّلات التي تُمَكِّنه من القيام بهذه المهمَّة الشاقَّة، بَلْهَ أن يستطيع ذلك مع كلام الله – تعالى – المعجز، فكان التتبُّع لأخطاء الترجمات وتتبُّع كيفية تلقِّي القارئ الغربي لها واجبًا تفرضه الحاجة إلى تصحيح مستمر، يعلم المتتبِّع له أنه لن ينقطع طالما أن البيان الإنساني لن يرقى يومًا للإحاطة بمعاني القرآن، وطالما كانت عملية الترجمة مجرَّد محاولة لتقريب النص الأصلي ولا تطرح نفسها بديلاً عنه.
تُعَدُّ ترجمة المستشرق الألماني رودي باريت للقرآن الترجمة العلمية الأهم إلى اللغة الألمانية؛ حيث تحظى بتقديرٍ علمي واحتفاءٍ شديد في أوساط المستشرقين والمسلمين على حدٍّ سواء، وقد تناوَلَها المهتمِّين بالدراسات الإسلامية وترجمة القرآن بالفحص والمراجعة والنقد، طوال عقودٍ من ظهورها؛ حيث التزمت الترجمة بالدقَّة في نقل المعنى، إلى الحدِّ الذي جعلها في بعض المواضع ترجمةً معقَّدة وغير مستساغةٍ للقارئ غير المتخصص.
نعرض في هذا المقال دراسةً قام بها الكاتب الألماني نافيد كرماني حول ترجمة رودي باريت لمصطلح (العقل) في القرآن الكريم، تحت عنوان “هل يدعو الله إلى العقل… ملاحظات حول معاني العقل في القرآن وترجمة رودي باريت لها“[1].
ونافيد كرماني هو واحد من أشهر الباحثين في الدراسات الإسلامية في ألمانيا، ويعمل الآن صحفيًّا مستقلاًّ في عِدَّة صحف ألمانية، كما أنه كاتب مسرحي وروائي معروف، برَز اسمه للرأي العام في السنة الماضية بسبب حصوله على جائزة ولاية هيسن الثقافية، ثم سحبها منه على إثر اعتراض اثنين من رجال الكنيسة على مشاركته لهما في هذه الجائزة؛ لأنه انتَقَد فكرة صلب المسيح في أحد مقالاته.
ترجع أهمية هذه الدراسة إلى إظهارها لأثر اختلاف السياق الثقافي في فهْم الغرب لحقيقة الإسلام والمفاهيم القرآنية، والذي يجعل الكلمة الواحدة تفقد كثيرًا من معناها أثناء استعمالها في محيطٍ مختلفٍ ثقافيًّا وتاريخيًّا عن البيئة التي نشَأت فيها، بل ربما تنتج الكلمة عكس مفهومها في بعض السياقات الأخرى.
يترجم باريت مشتقَّات الفعل (عقل)، والتي وردت في القرآن 49 مرة إلى التركيبين Verstand haben، أو verständig sein، واللذان يعنيان حرفيًّا: العقلاء، أو: الذين لهم عقول، وهنا يشير كرماني إلى المفارقة التي تظهر للمطَّلع على القرآن من خلال ترجمة باريت فحسب، إذا علم أن لفظة (العقل) بصيغتها الاسمية لم تَرِد في القران إطلاقًا.
تبحث هذه الدراسة المتعمِّقة مدى صحة هذه الترجمة في السياقات المختلفة للآيات، وما تثيره هذه الترجمات من تداعيات وتساؤلات لدي المتلقِّي الغربي؛ نتيجة اختلاف الثقافات والبيئات.
ووصولاً إلى هذا الهدف؛ فقد قسَّم كرماني الآيات ذات الصلة بموضوع العقل إلى عِدَّة مجموعات، تمثِّل المجموعة الأهم تلك الآيات التي ورَدَت فيها حجج عقلية قرآنية صريحة؛ مثل قوله – تعالى -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]، وأمثالها من الآيات التي وَرَد فيها الفعل (يعقلون) في سياق المدح للذين آمنوا، والحض على طريقتهم في تدبُّر آيات الله؛ حيث يترجم رودي باريت قوله – تعالى -: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65].
“Habt ihr denn keinen Verstand”
وهذه الترجمة نقلت المعنى عن طريق استخدام فعل الملكية، بالإضافة إلى كلمة العقل في صيغتها الاسمية التي أشرنا سابقًا إلى عدم ورودها في القرآن، ومع التسليم بأن هذه الترجمة ليست ترجمة خاطئة إلا أنها ليست صحيحة تمامًا، لماذا؟
لأن ترجمة باريت ليست قريبةً بما يكفي إلى النص الأصلي؛ مما يُوقِع القارئ في تداعيات خاطئة؛ لأن استخدام باريت للصيغة الاسمية أثناء ترجمة الفعل (عقل) يذهب بحيوية الجملة الفعلية وتجدُّدها، وهذه الملحوظة وإن بَدَتْ أسلوبية وغير جوهرية، إلاَّ أنها تؤدِّي إلى لَبْسٍ لدى المتلقِّي الغربي؛ حيث ارتبطت كلمة العقل بالمنطق اليوناني القديم بوصفه مرادِفًا للعقل الصحيح، مع ظلال أخرى للمصطلح مرتبطة بعصور التنوير والصراع بين الدين والعقل.
فضلاً عن ذلك، فإن استخدام فعل الملكية مع كلمة العقل يُوحِي للمتلقِّي أن القرآن ينفي وجود العقل عن غير المسلم، وهذا الخلط لا يَرِدُ على خاطر المستمِع العربي للآية، حيث نفيُ التعقُّل عن الكفار لا يعني أنهم ليسوا عقلاء، بل أنهم عقلاء لكنهم لا يحكِّمون عقولهم في هذا الشأن الذي تدعوهم له الآيات.
فالمعنى العربي لا يدور حول (صفة العقل)؛ بل حول (فعل التعقُّل)، وبالتالي فإن ترجمة روكرت تكون أقرب للصواب؛ حيث ترجمها باستخدامالفعل إلى: “O wollt ihr nicht verstehen”.
وهذه الترجمة ليست أقرب إلى المعنى القرآني فحسب، ولكنها أقل تكلُّفًا وأكثر مناسبةً للصياغة العربية، من حيث استخدامُها للفعل بدلاً من الاسم المحمَّل بظلال فكرية وتاريخية غربيَّة غريبَة عن النص القرآني، كما يحمل معانيَ تجريدية فلسفية بعيدة عن روح القرآن.
يرى نافيد كرماني أن مفهوم (العقل) في الغرب هو مفهومٌ يوناني في أصله، ومصطبِغ بأفكار إيمانويل كانط في كتابه “نقد العقل المجرَّد“، التي جعل فيها المعرفة العقلية مقابِلاً للمعرفة الحسية، بينما العقل في القرآن يشمل هذا وغيره من أنواع المعرفة الحسية والنفسية، والنظر إلى آيات الله في الأرض، والاستماع إلى آيات الله في الوحي.
وقد تطرَّق نافيد كرماني إلى اختيار أفضل مُقابِل للفعل (عقل) في اللغة الألمانية، وذكر عِدَّة إمكانيات كان من أطرفها استحسانه للفعل einsehenالذي يتركَّب من بادئة مضافة إلى الفعل sehen بمعنى “يرى“، مما يُناسِب ويؤكِّد معنى الحق الموصوف دائمًا في القرآن بأنه (مبين)؛ أي: كأنه ظاهر للعيان والمشاهدة، لكن أكثر الترجمات تضليلاً للقارئ هي ترجمة رودي باريت؛ لأنها تربط مفهوم العقل في القرآن بمفهوم العقل لدى كانط في كتابه “Kritik der reinen Vernunft، أو “نقد العقل المجرَّد“، وهو الكتاب الذي يمثِّل عمود البناء للفلسفة الألمانية الحديثة، بل والأوربية أيضًا.
وسوف يتبيَّن من الآيات القادمة أن مفهوم العقل في القرآن ليس مساويًا لما يفهمه القارئ الغربي من العقل المقابل للمعرفة الحسية والمعرفة القلبية، وهذا موضوع مقال آخر.
المصدر: الألوكة