التفسير المختصر سورة الأحقاف : تفسير الآية 20
الخميس6 جمادى الثانية1436//26 مارس/آذار 2015 وكالة معراج للأنباء الإسلامية”مينا”.
فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيُّها الإخوة الكرام ، الآية العشرون من سورة الأحقاف ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
جزء من عقيدة المؤمن أن يعرف حقيقة الحياة الدنيا ، وأنَّها دار عمل وليسَت دار أمَل ، ودار تكليف وليْسَت دار تشريف ، فالذي يفْهم أن الحياة الدُّنيا دار اسْتِمتاع وتقلّب في النّعيم ، وطعام وشراب ، وسهرات ، ومُتَاع فحاله يكون كما وصف الله في هذه الآية .
ورَدَ في بعض الأحاديث : إيَّاك عبد اله والتَّنَعُّم فإنَّ عباد الله ليْسُوا بالمتنعِّمين ! الإنسان قد يتنعَّم ، أما أن يجْعل التَّنَعُّم هدفه ، يعمل من أجله ؛ طعام وشراب واستمتاع ، فالأُناس الطَّيِبُّون غارقون في المباحات والمباحات شَغَلتهم عن الطاعات ، فالعُصاة موضوعهم آخر ، وهم خارج الحِساب ، فهذا الذي جَعَل همُّه مُتَعَ الحياة الدُّنيا والانْغِماس فيها ؛ موقفُهُ يوم القيامة ، كما قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
طبعًا كلمة الكُفْر واسِعَة جدًّا ، تضيق لِتَعني الخروج مِن مِلَّة الإسلام ، وتتَّسِع كما قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾
[ سورة التوبة الآية : 54 ]
فهؤلاء يُصَلُّون ويُنْفِقون ، وقد وُصِفُوا عند الله تعالى بالكُفْر .
هناك كفء يُخْرج مِن مِلَّة ؛ كأن تُكَذِّب بالوحي ، وبالقرآن ، وتُنْكِر فرْضِيَّة الصلاة والصِّيم والحج ، وذا هو الكُفر الأكبر ، أما حينما لا تعبأ بِقَوله تعالى :
﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 221 ]
تُزوِّج ابنتَك لإنسانٍ غَنِيٍّ دون أن تعبأ بِدِينِهِ ، فأنت بِهذا كأنَّك كذَّبْت هذه الآية ، وهذا نوعٌ مِن الكُفْر ، وحينما يقول الله عز وجل :
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 276 ]
فليمْتَنِعُ عن التَّصَدُّق ويُنَمِّي مالهُ بِطَريقٍ ربَوِي هو كافِرٌ بِهذه الآية بالذَّات فهناك كُفْر يشْمَل الدِّين كلَّه ، ويشْمَل الوَحي كلَّه والكتب السماوِيَّة ، والأنبياء وهناك كُفر جُزئي ، فحينما يقول الله عز وجل
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
[ سورة النور الآية : 30 ]
فإذا قال الواحِد أين أضَعُ عَيناي ؟!! فهل الآية غلَط ؟ ألم يقل الله عز وجل :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
[ سورة البقرة الآية : 286 ]
فالكُفْر يضيق لِيشْمل تَكذيب الدِّين والوحي ، والقرآن ، وإنكار الفروض ، ويتَّسِعُ الكُفْر لِيَشْمَل كُلّ مَن يتحرَّك حركةً خِلاف منهج الله ؛ لأنَّه ليس قانِعًا بها ، أما إن كان مُقصِّرًا فهذا اسمُهُ فُسْق ، فالإنسان حينما يُغلبُ أمرُهُ يُسَمَّى فاسِقًا ، أما حينما يُنكِر يُسمَّى كافر ، رجلان لا يُصَلِّيان ، فالذي يقول : والله أنا مُقصِّر ؛ هذا فاسق أما الذي يقول : ما فائدة الصلاة ؟! فهذا كافر ، فالذي يُنْكِرُ فرْضِيَتها كافر أما الذي يدَّعي أنَّهُ مُقصِّر فهذا فاسِق ، قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
يُرْوَى أنَّ سيِّدنا عمر أمْسَكَ تُفاحةً شَهِيَّة فقال : أكلتها ذَهَبت ، أطْعَمْتُها بَقِيَتْ !
سيِّدُنا النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يُوزِّعُ شاةً ، قالت له عائشة رضي الله عنها : لم يبْقَ إلى كَتِفُها ! فقال عليه الصلاة والسلام : بل بقِيَتْ كلُّها إلا كتفها !!
ليس لكَ مِن مالِكَ إلا ما أكَلتَ فأفْنَيْتَ ، أو لبِسْتَ فأبْليْت ، أو تصدَّقْتَ فأبْقَيت ، فالمال جزءان ؛ قسم لك ، وقِسم ليس لك ، فالذي لك يُسَمَّى رِزْق والذي ليس لك يُسمَّى كَسْب ، فالرِّزْق ما انْتَفعْتَ به ، والكسب ما لم تنتفع به ، فالرِّزق ما انْتفعْتَ به وسَتُحاسَبُ عليه ، والكَسْب ما لم تنتفِع به وسَتُحاسَبُ عليه ! تصوَّر إنسانًا اقْتَرض مليون ليرة ، سُرِقتْ منه في الطريق ، فهذا الشَّخص سيُؤدِّي هذا المَبلَغ مع أنَّه لم ينْتفِع به ، فالرِّزْق ما انْتَفَعتَ به ، والكَسْب ما لم تنتفِع به .
الآن الذي تنتفِعُ به ثلاثة أقْسام ؛ قِسمٌ هلَكَ كالطَّعام والشَّراب ، وقِسم بقِيَ وبلِيَ كالثِّياب ، فهؤلاء الذين كفروا يُقال لهم القيامة :
﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
لذلك أيُّها الإخوة ، الإنسان الذي بلا رسالة ، ولا هَدَف ، ولا قيمة يسعى لها ، ولا درجة ولا مرْضاة يسْعى لِحُصولها هو إنسان شارِد وتائِه ! ما الذي يُعرِّفُكَ بِمَوْقِعِك من الدِّين ؟ دُروس العِلم ، وكنتُ أقول لكم دائِمًا ؛ متى تُعالِجُ نَفْسَكَ مِن الضَّغط المرْتَفِع ؟ إذا عرِفْتَ أنَّهُ معَكَ ضَغطٌ مرْتَفِع ، فلا بُدَّ مِن أن تقيسَ ضَغْطك مِن حينٍ لآخر عند الطَّبيب ، والمؤمن الصادِق لا بُدَّ من أن يحْضُر مَجلسَ العِلْم كي يعْرِف موقِعَهُ من الدِّين ؛ هل هو مع المُقْتَصِدين أم السابقين أم المُقصِّرين؟ وهل هو واقِعٌ في الشِّرْك الخَفِيّ أو الشِّرْك الجليّ ؟ وهل هو واقِع في الكُفْر ؟ فلا بدَّ مِن معرفة ذلك ، يقول تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
قال تعالى :
﴿ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
الحقيقة أنَّ الإنسان أحيانًا يسْتكبر بِغَير الحق ، قال تعالى :
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
[ سورة آل عمران الآية : 26 ]
سَمْعُكَ تمْلِكُهُ ، وبصرك تمْلِكُهُ ، وعَقلَكَ تمْلِكُهُ ، وحركتكَ تمْلِكُهُ فالذي يسْتكبر بِغَير الحق ، ويقول : أنا ! فهذا لا شيء ، نقطة دم في دِماغِهِ تَجْعلُهُ مَشْلولاً ، وأقْربُ الناس إليه يتمنَّى موْتَهُ ، فإمَّا أن يُسْمِعَهُ الدُّعاء ويقول له : خفَّف اله عنك ! وإمَّا أن يدعوَهُ سِرّا ، فأقرب الناس إليك ؛ زوْجتُكَ وأهْلُكَ والإنسان وهو في الفراش خِدْمتُهُ صَعْبة جدًّا ، لذا أنت لا تمْلك شيئًا ، لا حركتك ولا قوَّتَك ولا سمْعَكَ ، وهل تمْلِكُ أولادك وأهلَكَ ؟ أنت لا تمْلِكُ شيئًا ، فالذي يسْتَكبر فهذا اسْتِكبار بِغير الحق ، وكلّ إنسان يقول : أنا يدَّعِي ما ليس له ، وكلّ ذَنْب له عِقاب يُناسِبُهُ ، فالكِبر عذابُهُ الهون ونحن عندنا عذاب أليم ، وعذاب عظيم ، وعذاب مُهين ، فالمستكبر عذابه الهون قال تعالى :
﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
تجد كلمات يقولها الناس هي كبيرة جدًّا ، وتقتضي لَيُقصَموا ، قال تعالى
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾
[ سورة البروج الآية : 12 ]
لذا على الإنسان أن يَعُدَّ للمليون قبل أن يقول كلمة أكبر مِن حجْمِهِ ، فالله عز وجل يهْدِمُ أشياء كبيرة جدًّا ، ولذا قال : عرفْتُ اله مِن نقْض العزائِم .
وهناك اسْتِكبار ، وهناك فِسق ، إلا أنَّني أُبلِّغُكم أنَّ معْصِيَةً سببُها الغلبَة شيء ، ومعْصِيَة سببها العِناد والاسْتِكبار شيء آخر ، فإبليس ما هو الذي أسْخَطَ عليه ؟ قال : أنا خير منه ! ولك أكن لأسْجُدَ لِبشَر خلقتَهُ مِن طين فَمَعْصِيَتُهُ معْصِيَةُ اسْتِكبار ، أما سيِّدنا آدم قال تعالى عنه :
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾
[ سورة طه الآية : 115 ]
ففرْقٌ بين معْصِيَة آدَم ، ومعْصِيَة إبليس ، فإبليس عصى اسْتِكبارًا ، وآدَمَ عصى غلبَةً ؛ نسِيَ ، والذي يقَع في ذَنب بِدافِعِ الغلبة توْبتُهُ سَهلة جدًّا ، فالعبد لمَّا يقول : يا رب : أنا أخطأتُ ، يقول الله : وأنا يا عبْدي قبِلْتُ ، ويا رب قد تُبْتُ إليك ، والله يقول ، وأنا ق تُبْتُ على عبْدي ، أما الذُّنوب التي أساسها الاسْتِكبار فَتَوْبَتُها صَعبة جدًّا ، وعليه فَكُلّ إنسان يقْلبُ الموازين ، ويَجْعل الحياة الدُّنيا دار اسْتِمتاع ، ودار لَهو ، ونعيم ، ودار سُرور ، وحفلات ، وأماكن جميلة ، هذا الإنسان جَهِلَ حقيقة الحياة الدُّنيا ، فالطالب الذي بِقاعة التَّدريس معه راديو يسمع الأخبار ، ومجلاَّت ، ومكسَّرات يأكلها ، فهل يليق هذا بِطالب ؟! هذا المكان مكان دِراسة ، وليس مكان اسْتِمتاع ، أما إذا ذهَب الإنسان إلى نزهة ، وأخذ معه ما أخذ ، فهذا له ذلك ، فالنُّزْهة شيء ، والدِّراسة شيءٌ آخر ، فلمَّا يجعل الإنسان الدُّنيا دار نعيم ، فقد أدْخَل سيّدنا عمر أحد الشّعراء السِّجن ؛ لأنَّه قال بيتًا بِحَق أحد رؤساء القبائل اسمه الزَّبرَقان ، وعدَّتْهُ العرَب أهْجى بيتٍ قالهُ شاعر ، ماذا قال هذا الشاعر ؛ حُطَيأة ؟ قال :
دع المكارم لا ترْحل لِبُغيَتِها واقْعُد فإنَّك أنت الطاعِمُ الكاسي
هذا البيت الذي قاله هذا الشاعر هو شِعار الناس اليوم ، فما دام دخْله كبير وبيتُه واسِع ، ومُتمتِّع ، فهذا تجدهُ لا يعْبأ بِشيءٍ ، وهذا هو الذي عكَسَ الحياة الدُّنيا ، فهي دار عمل ، وجعلها هو دار أمَل ، وهي دار تكليف وهو جعلها دار تشريف ، فهذا هو الخطأ ، قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾
[ سورة الأحقاف الآية : 20 ]
آخر مثل لِتَوضيح الحقيقة ، أنَّه لو كان معك مليون ليرة ، ممكن أن تسْتثمرها بِشَركة تعطي بالمائة سبعين ، وبالمائة ثمانين ، فأنت يمكنك بالمليون أن تقوم بِرِحلة إلى اليابان ، وأوربا ، وينتهي المليون فإنفاق المليون هذا هو إنفاق اسْتِهلاكي ، وفيه حُمْق ، أما إنفاق المليون إنفاق اسْتِثماري ، فهذا فيه ذكاء ، وكلّ شيءٍ تمْلكُه في الدنيا ، مِن صِحَّة وفراغ وأمْن ، والزَّوجة والأولاد ، وطلاقة اللِّسان ، والذَّكاء ، هذه كُلُّها مواد أوَّلِيَّة ، وهي رأسُ مالِكَ ؛ فإمَّا أن تسْتَهْلِكَها ، وإمَّا أن تسْتَثْمِرها ، فإذا الإنسان سرَّ ، أدْخل على قلبهِ السُّرور فقد اسْتَهلكها ، أما إذا فكَّر بالكون فأنت يمكن أن تقرأ قِصَّة ، والقصَّة ممْتِعة ، أما لو قرأت الحديث والقرآن والسيرة ارْتقيْتَ عند الله، فالقراءة إمَّا أن تكون اسْتِهلاكِيَّة ، أو اسْتِثْمارِيَّة وكذلك الأمر في الأكل ؛ إمَّا أن تأكل حُبًّا في الأكل ، وإمَّا أن تأكل لِتَتَقوَّى على طاعة الله ، وإما أن تتزوَّج مِن اجل المُتْعة فقط ، وإما من أجل أن تنْجِبَ أولادًا يدعون إلى الله ، فَكُلّ شيءٍ يمكن أن توصِلَهُ بالحق أو بالباطل ، وأخْطَر شيء أن تُنْفِقَ ملَكاتِك ، وقُدْراتِك إنفاقًا استِهلاكيًّا ، فهذا هو الخاسِر ، وأعْقل الناس الذي لا يُضَيِّعُ مِن عُمُرِهِ ثانِيَة واحِدَة يُنفِقها في طاعة الله ، قال عليه الصلاة والسلام :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللّه عَنْهم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ أَنَّ الْأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الْأَنْصَارِ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا ظَلَمَ بِأَبِي وَأُمِّي آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ أَوْ كَلِمَةً أُخْرَى ))
[ رواه البخاري ]
فالمؤمن حركاته وسَكَناته أعمال صالحة له .
والحمد لله رب العالمين