مفهوم: الجماعـة والخروج عنها
الأحد 18 جمادى الثانية الموافق 28 أبريل 2013 وكالة معراج للأنباء (مينا)
مفهوم الجماعة:
أولاً: الجماعة في اللغة:
الجماعة لغة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد التفرق، يقال: جمع الشيء عن تفرقة فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من هاهنا وهاهنا، وأجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، والجمع اسم لجماعة الناس، والجماعة والجميع والمجمع كالجمع، وقد تستعمل الجماعة في غير الناس حتى قالوا: جماعة الشجر، وجماعة النبات(1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صـار اسماً لنفس القـوم المجتمعين”(2).
ثانياً: الجماعة في الشرع:
جاءت الجماعة في النصوص الشرعية بالمعنى اللغوي؛ أي: في مقابلة التفرق والتنازع، إلا أن مجموع النصوص الشرعية من الآيات، والأحاديث الواردة في الحثّ على الاعتصام و ملازمة الجماعة، والنهي عن الفُرقة والاختلاف والتحزب في الدين جعلت لجماعة المسلمين معنى شرعياً خاصاً.
وقد تعددت أقوال السلف والعلماء في تحديد ذلك المعنى المأخوذ من دلالات تلك النصوص على أقوال(3):
أحدها: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
والثاني: جماعة أئمة العلماء والمجتهدين.
والثالث: الصحابة –رضوان الله عليهم- على وجه الخصوص.
والرابع: جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر.
والخامس: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير.
ومن أمعن النظر في تلك الأقوال يجد أن أغلبها من اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ فكل صاحب قول فسر الجماعة ببعض معناها، أو بفرد من أفراد مدلولها، تمثيلاً لا حصراً وإحاطة، “وهذه عادة معروفة للسلف في تفسير الألفاظ”(4).
ومن استقرأ الأحاديث النبوية الواردة في معنى الجماعة، يجد أن مفهومها يؤول عند التحقيق إلى معنيين، يكمل كل منهما الآخر.
المعنى الأول:
أنها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، من الاعتقاد والقول والعمل، مما لا يسوغ لأحد من المسلمين أن يخالفه.
والمعنى الثاني:
أنها الاجتماع على خليفة شرعي، وطاعته بالمعروف، وحرمة منازعته الأمر، ما لم يُر منه الكفر البواح.
يقول الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود -بعد أن ذكر الأقوال في معنى الجماعة-: “وحاصلها: أن الجماعة ترجع إلى أمرين:
أحدهما: أن الجماعة هم الذين اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع؛ فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم الخروج عليها وعلى أميرها.
الثاني: أن الجماعة ما عليه أهل السنة من الاتباع وترك الابتداع، وهو مذهب الحق الواجب اتباعه، والسير على منهاجه، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الإجماع، أو السواد الأعظم، فهي كلها ترجع إلى معنى واحد: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيجب الاتباع حينئذ ولو كان المتمسك بهذا قليلاً”(5).
وحصر الجماعة شرعاً في هذين المعنيين ذهب إليه أيضاً الدكتور صلاح الصاوي في كتابه “جماعة المسلمين”(6).
وقد سبقهما القاضي أبو بكر بن العربي -رحمه الله- إلى هذا الحصر، حيث قال: “قوله: عليكم بالجماعة يحتمل معنيين، يعني: أن الأمة إذا أجمعت على قول فلا يجوز لمن بعدهم أن يحدث قولاً آخر، الثاني: إذا اجتمعوا على إمام فلا تحل منازعته ولا خلعه”(7).
والذي يعنينا في بحثنا هذا من معنى الجماعة هو المفهوم الأول، وهو الاجتماع على الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم اعتقاداً وقولاً وعملاً.
وهذا المعنى أصل من أصول الدين، وأهله هم أهل الجماعة، والخارجون عنه هم أهل الفرقة.
وقد يطلق على الجماعة أهل السنة، أو الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة، وكلها ألقاب لها مستندها الشرعي.
فتسميتهم بأهل السنّة اصطلح عليه منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
فقد روى مسلم في مقدّمة صحيحه عن محمد بن سيرين -رحمه الله- أنه قال: “لم يكونوا –يعني: الصحابة- يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، و يُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”(8).
وتسميتهم بالطائفة المنصورة، أخذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في أحاديث عدة، منها: ما رواه معاوية بن أبي سفيان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرُّهم من خذلهم، أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس”(9).
وما رواه معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة”(10).
وتسميتهم بالفرقة الناجية، أخذ أيضاً من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، فيما رواه الترمذي و غيره عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملَّة، كلُّهم في النار إلاَّ ملَّة واحدةٌ”، قالوا: و من هي يا رسول الله؟ قال: “ما أنا عليه و أصحابي”(11).
وإذ أدرك المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح؛ إذ العبرة بالمقاصد و المعاني، فكل هذه الألقاب تدل على معنى واحد و هو (السنة والجماعة) فهم أهل السنة؛ لأنهم في دينهم متمسكون بسنة وطريقة نبيهم، وهم أهل الجماعة؛ لأنهم لم يتفرقوا، بل اجتمعوا على الحق، واعتصموا به جميعاً.
فكل من تمسك بالأصول الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع فهو من أهل السنة والجماعة كائناً من كان.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: “من قال بما تقول به جماعة المسلمين؛ فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم، التي أمر بلزومها”(12).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع، كان من أهل السنة والجماعة”(13).
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: “أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة و التابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه”(14).
إذن فأهل السنة والجماعة ليسوا محصورين في طائفة معينة؛ لأن السنة والجماعة منهج من تمسك به وسار عليه كان من أهلها، ومن حصر جماعة المسلمين في عصر معين أو مذهب معين أو جماعة معينة، أو جزم أن المفارق لأهل تلك المذاهب أو الجماعات المعينة خارج من جماعة المسلمين، فقد حكم بظنه، وقال على الله بغير علم.
ومثله من جزم بأن فرقة أو طائفة معينة هي إحدى الفرق الثنتين وسبعين المتوعدة بالنار، وإن كان تعيين هذه الفرقة قد قال به بعض أهل العلم، إلا أن الجزم بذلك لا يكون إلا بدليل.
وكثيراً ما حمل العصبية أو الهوى بعض المسلمين على إخراج خصومه من السنة، وإدخالهم في الفرقة الهالكة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل؛ فإن الله حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً… وأيضاً: فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى؛ فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع؛ وهذا ضلال مبين؛ فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي” وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” [النجم:3:4] فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله؛ فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله، من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة- كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك- كان من أهل البدع والضلال والتفرق؛ وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها، و تصديقاً، وعملاً، وحباً، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل، الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات، والقدر، والوعيد، والأسماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه.
ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس – بغير هدى من الله – ظلم، وجماع الشر الجهل والظلم، قال الله تعالى: “وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً” [الأحزاب:72] (15).
فجماعة المسلمين كما لا يشترط تجمعها في مصر أو انحصارها في عصر، بل هي أهل الحق على امتداد الزمان والمكان، وإن تفرقت بهم الديار، وتباعد بينهم الزمان، فذلك لا تشترط فيها الكثرة؛ فأهل الحق هم الجماعة، وإن كانوا غرباء في الناس.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “الجماعة ما وافق الحق، و إن كنت وَحدَك”(16).
وقال نعيم بن حمَّاد -رحمه الله-: “إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد، و إن كنت وحدك، فإنَّك الجماعة حينئذٍ”(17).
قال أبو شامة المقدسي –رحمه الله-: “حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق و اتِّباعه، و إن كان المستمسك به قليلاً، والمخالف كثيراً”(18).
بل إن بعض أهل العلم فسر الجماعة بشخص أو شخصين لما هم عليه
من الحق.
قال الترمذي -رحمه الله-: “سمعت الجارود بن معاذ يقول: سمعت علي بن الحسن يقول: سألت عبد الله بن المبارك من الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر.
قيل له: قد مات أبو بكر وعمر! قال: فلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان، فقال: عبد الله بن المبارك، وأبو حمزة السكري(19) جماعة، قال أبو عيسى -الترمذي- وأبو حمزة: هو محمد بن ميمون، وكان شيخاً صالحاً، وإنما قال هذا في حياته عندنا”(20).
معنى أن أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث:
جاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن أولى الناس اتصافاً بالفرقة الناجية (أهل السنة) هم أهل الحديث، وقد سبقه في ذلك أئمة كبار، كابن المبارك وأحمد بن حنبل وابن المديني وغيرهم.
فعن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- أنه قال: “هم عندي أصحاب الحديث”(21).
وعن الإمام أحمد –رحمه الله- أنه قال: “إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري
من هم”(22).
وقال الإمام الترمذي رحمه الله في كتاب الفتن من سننه: “سمعت محمد بن إسماعيل –يريد البخاري- يقول: سمعت علي بن المديني يقول، وذكر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق”، فقال علي: هم أهل الحديث”(23) اهـ.
وهؤلاء الأئمة وغيرهم الذين فسروا الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة بأهل الحديث ما قصدوا قصرها على المشتغلين بعلم الحديث والسنة رواية أو دراية، وإنما أرادوا بها أهل السنة الذين يأخذون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويتبعونه بخلاف أهل البدع الذين يردون السنن ويقدمون جمل كلام أئمتهم على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي -رحمه الله-: “وأما هذه الطائفة فقال البخاري -رحمه الله-: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم! قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.
قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض”(24).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته؛ بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً أو باطناً، واتباعه باطناً وظاهراً، وكذلك أهل القرآن وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما؛ ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم…
وإذا تدبر العاقل وأنصف الناقل، وجد الطوائف كلها كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب، كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد، كانت عنهما أنأى؛ حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء، من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية، فقال: لا نسلم صحة الحديث، وربما قال لقوله عليه السلام كذا، وتكون آية من كتاب الله، وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر.
وحدثني ثقة أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين، رجلٌ يسمى شمس الدين الأصبهاني شيخ الأيكي؛ فأعطوه جزءاً من الربعة، فقرأ: (بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ .ألمص)؛ حتى قيل له: ألف لام ميم صاد.
فتأمل هذه الحكومة العادلة؛ ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث، ويعدلون عن مذهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب، ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن ابن أبي قتيلة أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء، فقام الإمام أحمد وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق، ودخل بيته؛ فإنه عرف مغزاه”(25).
وقال اللالكائي-رحمه الله-: “لم نجد في كتاب الله وسنة رسوله، و آثار صحابته، إلا الحثَّ على الاتباع، وذم التكلف والاختراع؛ فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين، وكان أولاهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم أصحاب الحديث؛ لاختصاصهم برسول الله صلى الله عليه وسلم, واتباعهم لقوله، و طول ملازمتهم له، وتحملهم علمه”(26).
أي: لمَّا كان أهل الحديث أولى الناس بالعمل بالسنة، وبالتمسك بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، قال أولئك الأئمة بأن الجماعة هم أهل الحديث، كما هي عادة السلف بتفسير اللفظ ببعض معناه، تمثيلاً لا حصراً وإحاطة.
والاشتغال بعلم الحديث رواية أو كتابة أو دراية، لا يكفي لجعل صاحبه من أهل السنة، بل لابد من العمل بالحديث والتمسك بالسنة، وإلا فكثير من أهل البدع اشتغلوا بعلوم الحديث، ولم يكونوا بذلك من أهل السنة والجماعة، كما قال أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله-: “قد يكون الإنسان من أهل الحديث و هو مبتدع”(27).
إذاً: فجماعة المسلمين ـ أهل السنة والجماعة ـ منهج، من التزمه كان منهم، ومن خالفه خرج عنهم ودخل في فرق البدع والأهواء.
فعلى الدعاة للإسلام أن تكون دعوتهم إليه، دعوة منهج دون أن تكون دعوة إلى أسماء، أو إشارات، أو رجال، أو أحزاب، أو جماعات، فمثل هذا يفرق الجميع عن جماعة المسلمين، ويخرجهم عن منهج أهل السنة والجماعة، ويبعدهم عن الانتساب إليها، ويوقعهم في التفرق والاختلاف الذي نهى الإسلام عنه.
حكم لزوم الجماعة شرعاً:
إن الناظر في النصوص الشرعية المتعلقة بهذا الأمر، يجدها واضحة الدلالة جلية التعبير، على وجوب لزوم جماعة المسلمين، ونبذ الفرقة والاختلاف؛ حتى صار هذا الحكم أصلاً من أصول الدين؛ لتواتر الأدلة الشرعية فيه، وتظافرها عليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “الاعتصام بالجماعة، والائتلاف من أصول الدين…”(28).
ولكثرة الأدلة على ذلك سنكتفي هنا بذكر بعضها:
أولاً: من الآيات القرآنية الدالة على لزوم الجماعة:
1- قول الله عز وجل: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا” [آل عمران:103]، وحبل الله الذي أمرنا سبحانه أن نعتصم به هو الجماعة.
فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- في قوله سبحانه: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً” [آل عمران:103]، قال: الجماعة”(29).
وقال أيضاً -رضي الله عنه-: “أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به”(30).
وقال ابن جرير -رحمه الله- في تفسيرها: “وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده في كتابه إليكم، من الألفة، والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله”(31).
وقال القرطبي -رحمه الله-: “قال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي! الجماعة الجماعة؛ فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا”[آل عمران:103]”(32).
وفي صحيح مسلم: (عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم ثلاثاً قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”(33).
فأوجب الله –تعالى- علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة، اعتقاداً وعملاً، وذلك سبب اتفاق الكلمة، وانتظام الشتات، الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق، الذي حصل لأهل الكتابين”(34).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: “أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة”(35).
وما جاء من تفسير للآية: بأن حبل الله هو القرآن أو الدين، فلا يعارض تفسيره بالجماعة؛ فإنها جميعاً من التنوع في التفسير لا من التضاد.
قال القرطبي -رحمه الله- معلقاً على ذلك: “والمعنى كله متقارب متداخل؛ فإن الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة؛ فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا *** منه بعروته الوثقى لمن دانا”(36).
2- قول الله -عز وجل-: “وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ” (الأنعام:153).
قال ابن كثير -رحمه الله-: (عن ابن عباس في قوله: “وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ” [الأنعام:153]، وفي قوله: “أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” [الشورى:13]، ونحو هذا في القرآن، قال: “أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات” ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد)(37).
3- وقال الله –عز وجل–: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” [الشورى:13].
روى الطبري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنه- في تفسير هاتين الآيتين قوله: “أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في الدين”(38).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “فإن الذي شُرع لنا هو الذي وُصِى به الرسل، وهو الأمر بإقامة الدين، والنهي عن التفرق فيه …”(39).
وقال الطاهر بن عاشور -رحمه الله-: “وأعقب الأمر بإقامة الدين، بالنهي عن التفرق في الدين، والتفرق: ضد التجمع، وأصله: تباعد الذوات؛ أي: اتساع المسافة بينها، ويستعار كثيراً لقوة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرسول والكفر به؛ أي: لا تختلفوا على أنبيائكم، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نحلاً وأحزاباً، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها؛ أي: في أصوله وقواعده ومقاصده؛ فإن الاختلاف في الأصول، يفضي إلى تعطيل بعضها؛ فينخرم بعض أساس الدين.
والمراد: ولا تتفرقوا في إقامته، بأن ينشط بعضهم لإقامته، ويتخاذل البعض؛ إذ بدون الاتفاق على إقامة الدين يضطرب أمره.
ووجه ذلك: أن تأثير النفوس إذا اتفقت يتوارد على قصد واحد؛ فيقوى ذلك التأثير، ويسرع في حصول الأثر؛ إذ يصير كل فرد من الأمة معيناً للآخر؛ فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم، أما إذا حصل التفرق والاختلاف؛ فذلك مفض إلى ضياع أمور الدين في خلال ذلك الاختلاف، ثم هو لا يلبث أن يلقي بالأمة إلى العداوة بينها، وقد يجرهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر؛ ولذلك قال الله تعالى: “وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” [لأنفال:46]”(40).
4- قول الله –سبحانه وتعالى–: “وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” [آل عمران:105].
قال ابن كثير -رحمه الله-: “نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضيين في افتراقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم”(41).
1- قول الله –سبحانه وتعالى–:”إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” [الأنعام:159].
قال السعدي -رحمه الله-: “دلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أصل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية”(42).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: “والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق؛ فمن اختلف فيه “وكانوا شيعاً” أي: فرقاً، كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات؛ فإن الله قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه”(43).
6- قول الله –سبحانه وتعالى–: “وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” [الروم:31، 32].
قال ابن كثير -رحمه الله-: “فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنها على شيء، وهذه الأمة اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، في قديم الدهر وحديثه”(44).
وقال الطاهر بن عاشور -رحمه الله- عند تفسيرها: “وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك، يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها؛ فإذا اختلفوا في أمور الدين، الاختلاف الذي يقتضيه الاجتهاد، واختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد؛ فليحذروا أن يجرهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعاً متعادين متفرقين، يلعن بعضهم بعضاً، ويذيق بعضهم بأس بعض”(45).
ثانياً: من الأحاديث النبوية الدالة على لزوم الجماعة:
1- ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه أنه قال: “إن الله يرضى لكم ثلاثاً، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولاه الله أمركم”(46) .
قال النووي -رحمه الله-: “قوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تفرقوا” فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام”(47).
2- ما رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد أقرب، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة”(48) .
3- ما رواه حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: “نعم”، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: “نعم، وفيه دخن”، قلت: وما دخنه؟ قال: “قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر”، قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: “نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها”، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: “هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا”، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: “فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك”)(49).
4- ما رواه النعمان بن بشير –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “الجماعة رحمة، والفرقة عذاب”(50).
5- ما رواه معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة هي الجماعة”(51).
وفي رواية: “ما أنا عليه وأصحابي”(52) ، وهو حديث صحيح ومشهور(53).
قال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- معلقاً على الحديث: “فبين أن عامة المختلفين هالكون، إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة”(54).
وقد بوب كثير من المحدثين في كتبهم أبواباً وعقدوا تراجم بالأمر بلزوم الجماعة، والتحذير من فراقها.
من ذلك البخاري -رحمه الله- في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه قال: “باب قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً” [البقرة:143] وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم”(55).
وفي كتاب الإمارة من شرح صحيح مسلم قال النووي -رحمه الله-: “باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة”(56).
وبوب الترمذي –رحمه الله- في سننه باباً سمَّاه: “باب ما جاء في لزوم الجماعة”(57).
فالاعتصام بالجماعة والائتلاف، والنأي عن الفرقة والاختلاف، أمر واجب على كل مسلم، بل التفريط في هذا الأمر تفريطٌ في أصل من أصول الدين، وقاعدة من قواعد الإسلام الكلية.
وبقدر اعتصام المسلم بهذا الأصل العظيم، يكون فلاحه في الدنيا ونجاته في الآخرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: “ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه، وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم”(58).
ومفارقة الجماعة سلوك واتباع لغير سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- ومن فعل ذلك ولاه الله ما تولى في الدنيا، وفي الآخرة أصلاه النار وبئس المصير، كما قال سبحانه: “وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً” [النساء:115].
ما يُخرِج المسلم عن الجماعة:
فإذا تقرر أن كل من تمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم اعتقاداً وقولاً وعملاً واقتصاداً كان من أهل السنة والجماعة؛ فإن من فارق هذا الأصل العظيم، ولم يستمسك به فارق أهل السنة والجماعة، ودخل في فرق الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: “وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع”(59).
لكن لا يحكم على مسلم بخروجه من جماعة المسلمين لمجرد مخالفته لحكم من أحكام الشريعة؛ إذ ليس كل مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، تؤدي بصاحبها إلى مفارقتهم، إلا أن تكون المخالفة من هذين النوعين:
الأول: المخالفة في أصل من أصول الإسلام.
الثاني: ابتداع فـروع كـثيرة في الدين.
فإذا كانت مخالفته في أصل من أصول الدين؛ فقد خرج من أهل السنة والجماعة؛ لأن أصول الدين لا تحتمل الخلاف فيها، وكذلك إن كانت مخالفته لبدعة في فرع من فروع الشريعة، وكثر منه ذلك؛ لأن الجزئيات إذا كثرت يجري فيها ما يجري في الكليات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: “أصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف”(60).
وقال الشاطبي –رحمه الله: “وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنىً كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات تقتضي عدداً من الجزئيات غير قليل… ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات؛ فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً، وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين”(61).
فأي مخالفة في قاعدة كلية أو أصل من أصول الإسلام، أو الإكثار من الابتداع، ولو في الجزئيات؛ فإن ذلك يُخرج عن أهل السنة والجماعة، ويدخل في فرق البدعة والضلالة، هذا من حيث الحكم المطلق، أما الحكم على شخص معين بذلك ففيه هذا التفصيل:
حكم المعين المخالف لمنهج أهل السنة والجماعة:
الشخص المعين إذا وقع في إحدى تلك المخالفتين السالفتي الذكر؛ فإنه لا يسارع في تبديعه، أو الحكم عليه بالمروق من جماعة المسلمين ومفارقة السنة؛ لأن الحكم على المعين لا بد له من ثبوت شروط، وانتفاء موانع في حقه، إذ عدم الشرط مانع من موانع الحكم، وعدم المانع شرط من شروطه.
فينظر في هذا المخالف:
– هل بلغته الحجة الشرعية، التي يُبَدَّع بمخالفتها أم لا؟
– وهل قصد المخالفة وتعمدها، أم وقع فيها خطأً؟
– وهل كان راضياً مختاراً، أم أكره عليها؟
– وهل له تأويل مقبول، حمله على هذه المخالفة أم لا؟
فلا يحكم على معين بفسق، أو بدعة، إلا إذا عُلم انتفاء عوارض الجهل، والإكراه، والخطأ، والتأويل عنه.
وحتى المعين الذي استوفى شروط الحكم عليه، وانتفت عنه موانعه، ينبغي للراسخ في العلم أن لا يظهر الحكم عليه ويجاهر به في الناس، وإنما يقبل عليه مناصحاً له برفق، مبيناً له الحق بلطف، مع التحذير من المخالفة، وبيان حكمها؛ لأسباب ثلاثة(62):
أولاً: أن الشريعة الإسلامية أشارت إلى أوصاف الفرقة الخارجة عن جماعة المسلمين؛ للتحذير من بدعتهم، ولم يأت الشرع بتعيينهم إلا نادراً كما في الخوارج.
الثاني: أن المبتدع ما زال من أهل الملة، وقد جاءت الشريعة تأمرنا بالستر على المذنبين، وعدم فضحهم في الدنيا، وهذا الذي ينبغي للمسلم أن يلتزم به.
الثالث: أن في إظهار الحكم على المعينين، دعوة إلى مزيد الافتراق وعدم الألفة، وتوريث البغضاء والعداوة بين المسلمين.
وحتى إذا لم يجد معه النصح، ولم ينفع معه البيان، وأصر على بدعته؛ فلا يبان حاله ويُظهر أمره للمسلمين، إلا في ثلاثة مواطن:
الأول: حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج, فقد عين النبي صلى الله عليه وسلم رجل الخوارج؛ لما قال له: ما عدلت فقال صلى الله عليه وسلم: “يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين”(63).
وتعيين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره للخوارج، وذكره لعلاماتهم؛ حتى يعرفوا ويحذر منهم، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم، ممن بدعتهم فيها ضرر على حياة وأمن المسلمين؛ ليحذر منهم ومن ضررهم، أو كانت بدعته مثلهم في الشناعة، أو قريباً منها بحسب ما يقدره المجتهد من العلماء(64).
الثاني: أن يكون المبتدع هذا داعياً إلى بدعته؛ إذ مثله سيزين البدعة في قلوب العوام، ممن لا علم عنده، ويشيعها في الناس، وعندها يكون ضرره يفوق ضرر التصريح بالحكم عليه والتشهير به.
يقول الشاطبي –رحمه الله-: “فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم؛ لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم، إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعداوة.
ولا شك أن التفرق بين المسلمين، وبين الداعين للبدعة وحدهم إذا أقيم عليهم، أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم، وإذا تعارض الضرران فالمرتكب أخفهما وأسهلهما، وبعض الشر أهون من جميعه، كقطع اليد المتآكلة، إتلافها أسهل من إتلاف النفس، وهذا شأن الشرع أبداً، يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل”(65).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية؛ فإن الداعية إذا أظهر المنكر، استحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت؛ فإنه بمنـزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر؛ فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة”(66).
الثالث: أن يكون مشهراً مظهراً لبدعته، وإن لم يدع إليها؛ لأن المظهر للبدعة المجاهر بها، مجاهر بمنكر داع إليه بلسان حاله، وإن لم يدع إليها بمقاله، وفي ذلك ضرر على عامة المسلمين، وفتنة لهم في دينهم، بخلاف الساكت المسر لبدعته؛ فلا يضر إلا نفسه، أما إظهاره البدع فخرق لمظهر المجتمع الإسلامي، وتطبيع للناس على مثل هذه الخروقات، التي ستغرق سفينة المجتمع في لجة الضلالة؛ لذا لزم التحذير من هذا الصنف، وبيان أمره، من باب الاحتساب على المجاهرين بالمنكرات؛ لصيانة المجتمع منها.
أما في غير هذه المواطن فلا ينبغي التشهير بالمبتدع، بل الذي ينبغي هو عدم إشعاره بمفارقة أهل السنة والجماعة، مع مناصحته بلطف، وبيان وجه الصواب له برفق، مع حسن قصد ورحمة به، وحرص على هدايته.
يقول الشاطبي -رحمه الله- بعد ذكره للحالين الأولين، اللذين يُظهر حكم المبتدع المعين فيهما: “فإذا فقد الأمران؛ فلا ينبغي أن يذكروا، ولا أن يعينوا وإن وجدوا؛ لأن ذلك أولُ مثير للشر، وإلقاء العداوة والبغضاء، ومن حصل باليد منهم أحداً ذاكره برفق، ولم يُره أنه خارج من السنة، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا، فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة، فهو أنجح وأنفق.
وبهذه الطريقة دُعي الخلق أولاً إلى الله تعالى، حتى إذا عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة، قوبلوا بحسب ذلك.
قال الغزالي في بعض كتبه: أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهلة أهل الحق؛ أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء؛ فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها، مع ظهور فسادها… هذا ما قال، وهو الحق، الذي تشهد له العوائد الجارية؛ فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك، والله أعلم”(67) .(R-024/R-04)
__________
(1) انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط1: (8/53).
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية،جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، ط، دار الرحمة، القاهرة : (3/157).
(3) انظر: الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، الاعتصام، المكتبة التجارية الكبرى، مصر: (2/260 وما بعدها).فقد عزا تلك الأقوال إلى قائليها مع شرحها وبيانها.
(4) ابن القيم، محمد بن أبي بكر أيوب، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، ط3، 1418هـ/1998م: (2/699).
(5) المحمود، عبد الرحمن بن صالح، موقف ابن تيمية، مكتبة الرشد، الرياض،ط1، 1415هـ/1995م:(ص31).
(6) الصاوي، صلاح، جماعة المسلمين، دار الصفوة، القاهرة، ط1، 1413هـ: (ص21).
(7) ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله المالكي، عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي: (9/10).
(8) مسلم في صحيحه: (1/12).
(9) مسلم في صحيحه: (3/1524) برقم (1037).
(10) ابن ماجة في سننه: (1/4) وأحمد في مسنده (3/436) وابن حبان في صحيحه (1/261).
(11) الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، دار إحياء التراث العربي، بيروت: (5/26)
برقم (2641).
(12) الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة، 1358هـ/1939م: (ص475).
(13) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (3/346).
(14) ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، بيروت، 1401هـ: (3/434).
(15) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (3/346-348).
(16) ابن القيم، محمد بن أبي بكر، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1395هـ/1975م: (ص70).
(17) ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ دمشق، دار الفكر، بيروت، 1995م: (46/409).
(18) ابن القيم، إغاثة اللهفان: (ص 69).
(19) أبو حمزة السكري هو: محمد بن ميمون المروزي، روى عن الأعمش ومنصور، وعاصم الأحول وطائفة، وعنه: ابن المبارك، وعبدان وآخرون، مات سنة (167هـ).
انظر ترجمته: الذهبي، سير أعلام النبلاء: (7/385)، وابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1371هـ/1952م: (8/81).
(20) الترمذي في سننه: (4/466).
(21) الخطيب، أحمد بن علي بن ثابت، شرف أصحاب الحديث، ط دار إحياء السنة النبوية: (ص26).
(22) الخطيب، المصدر نفسه: (ص25، 27).
(23) الترمذي، في سننه: (4/504) برقم (2229).
(24) النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ: (13/67).
(25) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: ( 4/95-96).
(26) اللالكائي، أبو القاسم هبة الله بن الحسن، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، دار طيبة، الرياض، 1402هـ: (1/22).
(27) أدب المفتي والمستفتي، لأبي عمرو بن الصلاح، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1407هـ: (1/213).
(28) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (22/254).
(29) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1405هـ: (4/30).
(30) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت، 1993م: (2/285).
(31) ابن جرير، جامع البيان: (3/378).
(32) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره: (3/724)، طبعة المكتبة العصرية، صيدا.
(33) مسلم في صحيحه: (3/1340) برقم (1715) وأحمد (2/327) وابن حبان (8/182).
(34) القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، دار الشعب، القاهرة: (4/164).
(35) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: (1/390).
(36) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: (4/159).
(37) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: (2/255).
(38) الطبري، جامع البيان: (3/385) واللالكائي، شرح أصول الاعتقاد: (1/71-72).
(39) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (1/13).
(40) ابن عاشور، التحرير والتنوير: (1/1774).
(41) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: (1/515).
(42) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (1/282).
(43) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: (262).
(44) ابن كثير، المصدر نفسه: (3/572).
(45) ابن عاشور، التحرير والتنوير: (32-44).
(46) مسلم في صحيحه: (3/1340) برقم (1719).
(47) النووي، شرح صحيح مسلم: (12/11).
(48) الترمذي في سننه: (4/465) برقم (2165) والحاكم في المستدرك: (1/197) برقم (387) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.
(49) البخاري في صحيحه: (3/1319) برقم (3411) ومسلم في صحيحه: (3/1475) برقم (1847) والحاكم في المستدرك: (1/197).
(50) أحمد في المسند: (4/278) برقم (18472)، وابن أبي عاصم، عمرو بن أبي عاصم الضحاك، في السنة، تحقيق:ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1400هـ: (2/435)، وصححه الألباني.
(51) أبو داود في سننه: (2/806) وأحمد في المسند: (4/102) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (1/12).
(52) الترمذي في سننه: (5/26) برقم (2641).
(53) انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (3/345).
(54) ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية: (ص587).
(55) البخاري في صحيحه: (6/2674).
(56) شرح صحيح مسلم: (3/1474).
(57) سنن الترمذي: (4/465).
(58) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (1/17).
(59) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (3/346).
(60) المصدر نفسه: (3/182).
(61) الشاطبي، الاعتصام: (2/468).
(62) انظر : الشاطبي، المصدر نفسه: (2/230).
(63) البخاري في صحيحه (4/1714 برقم (4764)، وأحمد في المسند: (3/4) برقم (11021).
(64) انظر: الشاطبي، الاعتصام: (1/453).
(65) الشاطبي، المصدر السابق (2/731).
(66) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (23/342).
(67) الشاطبي، الاعتصام: (1/453).
بقلم عبدالوهاب بن محمد الحميقاني
(R-024) وكالة معراج للأنباء (مينا).