النعمة المسداة محمد صلى الله عليه وسلم
السبت 1 رجب 1434هـ – 11 مايو 2013م وكالة معراج للأنباء مينا.
بقلم الدكتور : مصطفى الزرقا رحمه الله
إن سيرة المنقذ الأعظم سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حافلة بالعظظات والعبرة مليئة بجلائل الأعمال ، ماثلة النبراس لأعين عظماء النفوس ، الذين يريدون أن يكونوا عظماء الأعمال قادة للأجيال تدلهم سيرته الجليلة على الطريق ، وتضمن لهم النجاح والتوفيق إن أخذوا أنفسهم باتباع نهجها واقتفاء معالمها النيرة .
نعم هكذا كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم منار المهتدين وقدوة المقتدين وستظل كذلك مابقي الجديدان .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمة وحده لأنه قام بأعمال أمة عظيمة خالدة ، تنشئ الحياة بقوة في مختلف ميادين الحياة .
لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بأعمال الهداية التي ترتبط بصفة نبوته من التبليغ عن ربه والتحليل والتحريم وتصحيح العقيدة وتنزيهها وتهذيب النفس وتوجيهها .
وقام ثانياً بأعمال من عظيم الجهود البشرية في تأسيس سلطان افسلام وتوطيد دعائمه ورفع رايته ومعالمه ، ونشر دعوته وبعث قوته ، ومكافحة خصومه ، وبالاختصار قام عليه الصلاة والسلام بعملين عظيمين في تاريخ البشرية هما : تأسيس دين الإسلام وتأسيس دولة الإسلام .
حمل هذه المهمة الجسيمة ، واستقل بأعبائها في سائر الميادين ، وأبلغها كمالها فأتت أكلها في جزيرة العرب أمام عينيه ، وفي العالم الخارجي بعد حين يسير .
كل ذلك في نحو عشرين عاماً بل عشرة لأن مدة البعثة قد انقضى نحو نصفها في مكة دعوة وادعة لأناس قست قلوبهم ، عميت وانطمست بصائرهم ، ومردوا على جاهليتهم فكانوا فيها كالجلاميد ، وهم أهل الحول والطول والصول ، فذهبت دعوة الإسلام بينهم خلال عشر سنين كصيحة في واد ، أو نفخة في رماد !
فبناء الدين والدولة إنما استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم به في المدينة بعد الهجرة تلك الهجرة العظيمة التي كانت في الواقع قنطرة الإسلام الخالدة ، وصخرته المتينة ، وصرخته الداوية التي ردت الأصم سميعاً ، وجعلت من الشتات شملاً جميعاً .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل ذلك المجهود الهائل قطب الرحى والمرجع الأوحد في جليل الأمر ودقيقه ، وعسير الخطب ويسيره ، فهو المفكر المدبر ، وهو المنفذ المنجز .
كانت الحوادث والمفاجآن والمشكلات تنبت بين يديه نبات العشب ، أو تنهال عليه انهيال الرمال ، وهو يتلقاها بثبات بأس ، وتدبير محكم ، ويبادرها بهمة شماء وعزيمة صماء ، لايلهيه شأن عن شأن ، ولايشغله كبير الأمور عن صغيرها .
لقد كان عليه السلام هو المرشد الهادي للجماعات والأفراد في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم وآدابهم ، وهو المعلم لهم فيما لهم وعليهم من حقوق لأنفسهم ولأسرتهم ولأمتهم ولربهم من أمور الدين والدنيا .
وكان هو المبين لأحكام الشريعة ونظمها التعاملية ، التي يتكون منها التشريع القضائي النافذ في الأمة .وكان هو القاضي الذي يختصمون إليه في حقوقهم ، فيفصل بينهم بحكم الشريعة .
وكان هو المصلح الموفق الذي يصلح بين القبائل والأسر والأفراد إذا ساد بينهم خلاف أو ساء ود وائتلاف.
وكان هو السائس الذي حمل عبء سياسية الإسلام الداخلية والخارجية ، سلماً وحرباً ، تجاه خصوم الإسلام من العرب في جزيرتهم ، ثم من الدول الأخرى خارج الجزيرة العربية من فرس وروم وقبط ، يدعوهم إلى الله بدعوة الإسلام ، وينذرهم بعواقب النكول .
وكان هو قائد الغزوات والحروب ، يحمل السلاح على رأس جيشه ، ويتقدمه هجوماً ودفاعاً حتى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه _ وهو من هو في بطولته وشجاعته _ يقول : كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ).
وكانت هذه الحروب والغزوات متعاقبة ، فلا ينتهي من غزوة حتى يستقبل أخرى ، وكان هو إمام الجماعة والجمعة والعيدين والجنائز ورئيس الحج ، وخطيب المواسم والمواقف ، ومستقبل الرسل والوفود العربية والأجنبية ، يعقد المعاهدات والمحالفات ، ويبث العيون والأرصاد ، ويتلقى الأخبار من كل الجهات ، ويعمل على موجبها مبادراً قبل الفوات .
وكان هو الذي يدير جباية الأموال في الطوارئ ، وعند تجهيز الجيوش ويجمع الزكاة والصدقات والأعشار ، ويوزع كل ذلك في مصارفه ، ويقسم الغنائم الحربية على المجاهدين .
وكان عليه الصلاة والسلام إلى كل ذلك يصوم الوصال ، ويقوم معظم الليل مصلياً متعبداً ، داعياً متهجداً ، آخذاً نفسه بالأشق ، تاركاً لأمته الأخف مما يطيقون .
وكان يواسي أمته في الأعمال البدنية فوق كل هذه المشاغل الفكرية ، ويتقدمهم فيها كي ينشئ في حناياهم نفوساً زكية بطريق الفعل والاقتداء ، لابطريق الكلام ، حتى يروا أن الرئاسة عبء ثقيل مضن لايطيقه كل واحد ، وليست نعمة وامتيازاً يتنافس عليها ، حتى لايقبل الرئاسة على أن يقوم بعبئها إلا من كان أكثر استعداداً للتضحية بمتعته ولذته وراحته ، وأقدر على تحمله .
ولذلا نراه صلى الله علييه وسلم يوم حفر الخندق ينقل التراب مع أصحابه على كتفيه ، ونراه في أسفاره إذا نزل بهم في مرحلة ، وقاموا يهيئون الطعام وتوزعوا عمله لايرضى إلا أن يشاركهم فيقول لهم :(( وعلي جمع الحطب )) !!
وكان كل هذا في حياته الخارجية لايشغله عن أن يكون مع أهله في حياته الداخلية في بيته ، مساعداً لأزواجه فيه فقد كان عليه الصلاة والسلام يحلب شاته بيده الشريفة ، ويخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويخدم نفسه ، ويقم البيت ، فمايرى فارغاً متلهياً في بيته قط . ويأكل مع الخادم ويطحن معه ، ويحمل بضاعته من السوق .
وكان أزهد الناس في حطام الدنيا وأجودهم بمايدخل في يده . يقول الأستاذ محمد رضا في معرض بيان الأعباء الكثيرة الجليلة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وحده مما تعجز عنه أمة عظيمة باسرها في كتابه الذي عنوانه : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كان يجاهد بلسانه وسيفه ، ويعلم اصحابه وأتباعه أمور الدين ، ويؤدبهم ويهذبهم بالأفعال والأقوال ، والاقتداء بسيرته النقية الطاهرة ، ويرشدهم إلى صلاح الدنيا والآخرة ، ويحذرهم ارتكاب المعاصي ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وينطق في أحاديثه بالحكم وجوامع الكلم التي لم يسبق إليها أحد من البشر ، ويقود أصحابه إلى ساحات الوغى ، وينظم الجيوش ويصدر الأوامر للقواد ، ويحثهم على الجهاد والصبر ويدبر لهم الخطط الحربية ، ويحكم بين الناس بالعدل . فكان معلماً ومربياً ومؤدباً وواعظاً ومرشداً وبشيراً ونذيراً وخطيباً وإماماً وأباً باراً ، وأخاً صادقاً ، وقائداً ومشرعاً وقاضياً . وإذا دخل منزله علم نساءه وأحسن عشرتهن ووفق بينهن ، ثم إذا خلا إلى نفسه انقطع إلى عبادة ربه ، والتضرع إليه حتى لايطيق أحد أن يجاريه في عبادته مهما اجتهد )) . هذا تصوير مختصر لجانب مما كابده النبي عليه الصلاة والسلام في حياة مفعمة بجلائل الأعمال والأعباء التي تحتاج إلى جبال من رجال أبطال عباقرة دهاة مخلصين .
وبذلك كانت ساعات عمر النبي صلى الله عليه وسلم شهوراً ، وأيامه أعواماً ، وشهوره دهوراً ، وكان هو وحده أمة كاملة ، هذا علاوة على ماكان يقتضيه القرآن الكريم من النبي عليه الصلاة والسلام من جهد عظيم متواصل في تلقي وحيه وإملائه وجمعه وإعلانه وصيانته ، وإقرائه للصحابة وتفهيمهم إياه وتفسيره لهم وبيان مجمل أحكامه .
وإذا نظرنا إلى مايعتقده الأجانب الجاحدون لنبوته صلى الله عليه وسلم ومايزعمونه من أن القرآن العظيم هو من تأليفه ووضعه ، وليس بوحي من الله تعالى ، إذا نظرنا إلى زعمهم هذا وجدناه يدعو إلى الأسى والعجب ، فإن هذا القرآن العظيم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ، والذي يقول فيه صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم : (( إنه لايخلق على كثرة الرد ولاتنقضي عجائبه )) رواه الدارمي عن علي . لو كان في قدرة أحد من البشر أن يأتي بمثله لما كفته لإنشائه مدة بعثة الرسول وهي ثلاث وعشرون سنة انقضت كلها احتمالاً للأذى والبلاء ، ثم جهاداً وحروباً ومفاجآت ، يطيش لها حلم الحليم ، وتشغل المرء عن نفسه .
يتجلى لنا من هذا العرض المقتضب كيف أن نبينا العربي صلى الله عليه وسلم في مدة عشر سنين بعد هجرته إلى يثرب ، وهي مدة لاتكفي لتربية طفل أو لتأليف كتاب قيم في موضوع علمي ، قد حمل من جسيم الأعباء ، ومن عظيم التضحيات في سبيل تأسيس الدين الدولة ماينوء بأمة عظيمة موطدة السلطان ، موفورة الوسائل من مال وعلم ورجال . وقد سار فريق من الخلفاء بعده على بعض منهاجه في النجدة والاستعداد والإقدام ، فاستطاعوا أن يجعلوا من المشارق والمغارب مراكز عظيمة لرايات عزهم المتين .
والآن أخلص من هذا إلى سؤال ألقيه في مسمع البلاد العربية والإسلامية شعوباً حكومات في غير خفاء ولااستسرار وقد اتخذت من هذا العرض لما قام به النبي وحده وخلفاؤه الصالحون بعده ، مقدمة إلى هذا السؤال فأقول : هل تعجز اليوم البلاد العربية التي أنجبت هذا النبي العظيم ، والدول الموزعة فيها أن تحمي بأموالها وأنفسها كرامتها وكرامة مقدساتها من المعتدين على فلسطين أولى قبلتيه ومهد أخيه المسيح عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ، فتدفع عنها شراذم المعتدين من اليهود والصهاينة الذين يتكرر عدوانهم ويتسع كل يوم ، وأصبحوا يهددون سائر البلاد العربية رغم أن العرب وبلادهم محيطون بهم إحاطة السوار بالمعصم ؟!
وهل ينسى هؤلاء العرب اليوم أنهم أمة ذلك النبي البطل الكامل الذي أنشأ وحده من العدم ديناً ودولة أقض بهما وقوض كل دولة للباطل ؟ وليس الأمر محتاجاً ، وإن تفاقم إلا إلى عزيمة صادقة ، وإخلاص للفكرة ، وتضحية بالأنانيات أولاً في سبيل وحدة الصف والزحف ثم تضحيات أخرى بالمال والعتاد والأطماع حتى يرتد الثعالب على أعقابهم خاسئين !!
إننا نترك للأيام والأعمال أن تجيبنا على هذا السؤال .المصدر أحباب الكلتاوية.