هكذا تنهض الشعوب والأوطان
الخميس – 13 رجب 1434 الموافق 23 مايو/آيار 2013
مرّ أكثر من قرن والعرب يحلمون ويوعَدون بالنهضة والإصلاح. تنوّعت الأطروحات والزعامات وتكرّرت المحاولات، وفي كل مرة تخيب الآمال وتتحطّم الأحلام ولنفس الأسباب: حسابات خاطئة وخطط ارتجالية، وأداء هزيل لنخب نرجسية وانتهازية تستبيح كل شيء في صراع وجودي لاحتكار السلطة بلا ضوابط ولا محرّمات سرعان ما يتمخّض عن هيمنة وإقصاء يقابلهما خضوع تحته تربّص وتعويق ومراهنة على الفشل، وتَطَبّع المغلوب بطباع الغالب، وارتهان الفرقاء والبلاد للخارج، مما يفتح الثغرات ويستدعي الأطماع والمؤامرات، وتُدار البلاد بالترقيع والمسكنّات وتتدحرج نحو الاستبداد والتبعية والفساد.
فالخلاف بين الساسة العرب –وفي الحياة عامة– عداوة ويحسم بمنطق “أنا أو الطوفان” و”علي وعلى أعدائي”، ورغم المظاهر العصرية الخادعة فقد ظلت السياسة العربية في جوهرها قبائل تتنازع غنائم، والله يقول “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”، وشتان بين التنازع والتدافع. ولك أن تقارن بين قادة الحركة الصهيونية الذين خططوا لتحصين دولة الاحتلال قبل قيامها، وبين سياسيين عرب يتنازعون السلطة قبل بناء الدولة، بل قبل تحرير البلاد، فلا أحد يفوق الساسة العرب –إلا ما رحم ربي– في الهوس بالسلطة والاستعداد للتفريط في المصلحة الوطنية.
وهكذا ضاعت فرص عديدة وظلت البلاد تراوح مكانها بسبب ضعف ذاكرة الشعوب وغياب ثقافة التوثيق والتقييم والاعتبار والمحاسبة، فلا أحد يتحمل مسؤولية أخطائه فضلا أن يعتذر أو يعتزل، الكل يتفنّن في التنصّل من المسؤولية وإيجاد المبرّرات والشمّاعات، ولم يهتد بلد عربي واحد إلى طريق النهوض، بل إن كثيرا منها في تراجع، والسبب بسيط: غياب مشروع نهضوي وزعامات وطنية تعبّئ الشعب وتوحّده، وضعف الهوية الوطنية والحس الوطني لحساب الولاءات والنزعات والأجندات الفئوية.
أوجد الربيع العربي الأمل في كسر هذه الحلقة المفرغة حيث تجاوزت الشعوب النخب والأحزاب وتوحّدت على مطالب شعبية وتحت راية وطنية، ولكن الأحداث سرعان ما تدحرجت باتجاه المسار المعهود والنتيجة المألوفة، فأخطأت البلاد طريق النهضة ولم تتغير السياسات والأوضاع إلا قليلا.
ولكن لعل من أكبر حسنات الربيع العربي أنه أسقط الأقنعة وأزال الأوهام، وأثبت أنه لا جدوى من التغيير الفوقي ولا أمل في الزعامات والأحزاب القائمة المهووسة بالسلطة وليس بالنهضة، وما شهدناه من أداء سياسي مخيّب هو عيّنة لما هو قادم، ومن لا يزال يعلّق آماله في النهضة والإصلاح على الدستور والانتخابات ونهاية المرحلة الانتقالية فهو واهم.
فالحل ليس في تغيير الدساتير والحكام، والدساتير الجديدة لن تختلف كثيرا عن القديمة التي لم تكن سيئة، وكثير من الأحزاب العربية التي حكمت بعد الاستقلال كانت وطنية، ولكنها انحرفت بسبب ضعف الوعي لدى المواطن واستقالته من الشأن العام وتفريطه في الحقوق وقبوله بالظلم وتحوّله من شريك في الوطن إلى رعيّة. وحتى الديمقراطيات التي قامت تمخّضت عن شلل سياسي مهّد لانقلابات رحّبت بها الشعوب. وفي المقابل فإن دولا أخرى نهضت بسلاسة بفضل قادة عظام، وبريطانيا دولة ديمقراطية متقدمة بلا دستور مكتوب.
فكل سلطة تسعى للتغوّل من خلال تطويع الدستور أو تأويله على هواها إلا أن تواجه شعبا واعيا متمسكا بالحقوق ومجتمعا مدنيا رادعا.
ولا أزال أستبعد أن تتمكن جهة من السلطة ثم تنظّم انتخابات لا تضمن نتائجها ثم تخسرها ثم تسلّم السلطة وتتحول إلى المعارضة، وإذا حصلت المعجزة فستسمر لعبة الهيمنة والتعويق إلا أن يفلح الشعب في تحويل السياسة من تنازع إلى تدافع ومن تشريف ومغنم إلى خدمة عامة ومسؤولية يتهيّبها الجميع.
قدر الشعوب العربية والمخلصين من النخب أن يبتكروا طريقة في التغيير تستغني عن الزعامات والأحزاب وتستعصي عن الإجهاض والاحتواء والانحراف والاختطاف، تغييرا يبدأ ولكن لا ينتهي بانتزاع الحرية، تغييرا شعبيا سلميا وطنيا حتى النهضة وليس مجرد تغيير أنظمة وحكام وإحداث إصلاحات شكلية.
ولقد خلصنا في مقالات سابقة أن المطلوب تغيير شامل ومستدام غايته نهضة شعب ووطن ولن يكون إلا تراكميا وشعبيا، ولن يتحقق على يد هذا الجيل من السياسيين ولا من خلال المسارات التي اتخذها الربيع العربي بعد البداية الصحيحة الملهمة ولا من خلال المقاربة الفوقية التي تراهن على السلطة لإصلاح المجتمع ثم تتحول السلطة إلى غاية تبرر كل وسيلة، بل يحدثه المواطن من خلال العمل المستمر على ستة محاور، وما دور الأحزاب والهيئات إلا التوعية والتأطير والتحفيز والتفعيل.
المحور الأول: الارتقاء بالنفس، فمن يريد أن يساهم في النهوض بوطنه وشعبه عليه أن يبدأ بإصلاح نفسه والارتقاء بها، فتغيير الأوضاع يبدأ بتغيير النفوس والعقول التي أصابها الاستعمار والاستبداد بالكثير من التشوّهات. مطلوب إحياء مفهوم التزكية وتحفيز الفرد للسعي نحو الكمال والإحسان والإتقان في كل شيء من خلال إحياء الفهم الرسالي للحياة وللدين وجوهره المتمثل في المعاملة وخدمة الصالح العام، وترسيخ الحس الوطني. ولك أن تتصور حجم التأثير الإيجابي الذي سيحدثه التطور المستمر والوعي المتنامي لأعداد متزايدة من المواطنين.
المحور الثاني: السلوك يومي، مطلوب أن تفكّر وتتصرف كمواطن حر كريم شريك في الوطن وليس كأجير أو مستأجر أو ضيف أو متفرج. عندها ستقطع مع السلبية وتحرص على وطنك وشعبك كما تحرص على بيتك وأهلك، وتدافع عن حريتك وكرامتك كما تدافع عن نفسك وترفض الذل وتتصدى للظلم وتنصر المظلوم، ولقد لعن الله أقواما بسبب سلبيتهم، ومن لم يكن جزءا من الحل فهو جزء من المشكلة، والحقوق الطبيعية لا تطلب أو تمنح، بل تمارس أمرا واقعا حتى تتحول إلى أعراف وقوانين.
مطلوب أيضا التمسك بالحقوق التي يكفلها القانون والدستور كاملة، واحترام القوانين المعقولة وأداء الواجبات والالتزامات كاملة. فالعديد من التجاوزات والمظالم والانتهاكات مخالفة للدستور وللقانون، وهي مستمرة فقط لقبول الناس بها، وفي المقابل لا يمكن نيل الحقوق إذا كان الكل مخلا بواجباته.
أما القوانين الجائرة فلا بد من مقاومتها سلميا ومدنيا إلى أن تلغى أو تعدّل كما فعلت روزا باركس الملقّبة بأم الحريات المدنية، وهي أميركية من أصول أفريقية رفضت سنة 1955 التخلي عن مقعدها في الحافلة لرجل أبيض متمردة على القانون، فأوقدت شرارة ثورة أنهت العنصرية والتمييز وغيرت الأعراف والقوانين، وتوالت الإنجازات حتى أصبح أوباما رئيسا لأميركا.
فتمسك المواطنين بحقوقهم الطبيعية والقانونية واحترامهم للقانون وأداؤهم لواجباتهم ومقاومتهم للظلم والذل والقوانين الجائرة كفيل بنسف مرتكزات الاستبداد والتخلف.
المحور الثالث: الأسرة، الفرد والأسرة كلاهما نتاج للآخر، والنتيجة إما نهوض بلا سقف وإما انحدار بلا قاع. مطلوب القطع مع الطريقة العشوائية التي تبنى بها الأسرة وتدار شؤونها، وإعداد الفرد لبناء أسرة تكون محضنا تربويا وكيانا فاعلا في المجتمع ولا تكتفي بتلبية الحاجات المعيشية على حساب الروح والفكر، ومن دون أي اهتمامات أو أنشطة. ولا نهضة من دون تفعيل دور الفرد ودور الأسرة. فالأسرة هي أهم مؤسسة تعليمية وتربوية واقتصادية فهي المدرسة الأولى، وتنتج الموارد البشرية وهي الأهم.
المحور الرابع: الانخراط في الشأن العام، المواطنة والشراكة في الوطن تترجم إلى إيجابية وانخراط مكثف في الشأن العام مع تغليب للمصلحة الوطنية. والعمل العام يشمل كل جهد يعود بالنفع على الوطن والمواطنين. مطلوب من كل مواطن المساهمة في بناء وتحديث وتطوير مؤسسات المجتمع المدني الإعلامية والمهنية والحقوقية والرقابية والفكرية والثقافية والبحثية والعلمية والاجتماعية والشبابية والرياضية والخيرية والتطوعية والخدمية والتنموية والأوقاف وكل ما يحتاجه المجتمع من مؤسسات غير حكومية وغير حزبية لتوعية وتأطير وتفعيل وخدمة أكبر عدد من المواطنين في مختلف المجالات حتى يصبح المجتمع عصيا على الاستبداد والانتكاس. فالفضاء العام ليس ملكا للحكومة والنخبة، والسياسة ليست إلا أحد مجالاته، ولا ينبغي للشعوب أن تترك الشأن العام للنخب وتعتمد على الحكومة والأحزاب لإصلاح الأوضاع وتحقيق الآمال.
صحيح أن الاستبداد لم يبق للمواطن الحافز والفرصة للانخراط في الشأن العام وأضعف لديه الحس الوطني وأشغله بنفسه وألهاه بشتى الوسائل، فتوارثت الأجيال الاستقالة من الشأن العام والميل إلى الخلاص الفردي، ولكن النهوض يقتضي التخلص من تلك العقليات والسلوكيات وتحفيز الأفراد لتغيير ما بأنفسهم وأوضاعهم فتنشأ علاقة تفاعلية بين صلاح الناس وصلاح الأوضاع تفضي إلى نهضة مستدامة.
إن المجتمع المدني الفعال والمستقل عن الحكومة والأحزاب هو أكبر شرط وضمان للديمقراطية والنهوض، وضد انحراف السياسة وتغول السلطة، كما يجعل المجتمع أكثر تماسكا وأقل اعتمادا على الحكومة وأقل تأثرا بتقلبات السياسة.
المحور الخامس: العمل السياسي، يحتاج الاهتمام المتعاظم بالسياسة إلى ترشيد حتى لا يتحول إلى أفيون ولا يكون ضرره أكبر من نفعه. فالمشاركة السياسية ليست لغوا في المقاهي والمجالس أو متابعة سلبية للأخبار، ولا ينبغي أن تقتصر على التصويت وموسم الانتخابات، بل هي فهم لحقيقة ما يجري ومواكبة لأداء المسؤولين وتواصل معهم، وفعل مؤثر يوجه السياسيين والسياسات لخدمة الشعب والوطن، مع التركيز على العمل السياسي المحلي.
على المواطنين (المنتمين للأحزاب وغير المنتمين) أن يعملوا على تحديث وتشبيب الأحزاب والجمعيات القائمة من داخلها ومن خارجها ودفعها باتجاه الانفتاح وتغليب المصلحة الوطنية ومقاومة الانغلاق والتعصب، ويشمل ذلك التصويت الواعي على أساس البرامج والمؤهلات والأداء والإنجازات، فلا يتعصب الناخب ولا ينخدع بالوعود والدعاية.
اجعلوا المرشحين يطلبون أصواتكم ويقنعوكم بالتصويت لهم، فهم ليسوا نجوم كرة أو سينما، بل رشحوا أنفسهم ليكونوا مندوبين عنكم، فعليكم أن تختاروهم بعناية وتراقبوهم عن كثب وتنصحوهم وتسألوهم باستمرار وتدعموهم إن أحسنوا وتقوّموهم وتستبدلوهم إن أساؤوا.
اختاروا من هو فوق مستوى الشبهات في الالتزام بالسيادة والثوابت الوطنية وتغليب المصلحة الوطنية ثم مصلحة دائرته فوق كل اعتبار حزبي أو شخصي أو فئوي، واجعلوا من السياسة تفانيا في خدمة الوطن والشعب وتنافسا في الإنجازات وليس تنابزا بالألقاب. فلما كانت المسؤولية تكليفا وكان المجتمع يقظا وقويا، سئل أبو بكر الصديق من الخليفة أنت أم عمر بن الخطاب، قال “هو إن قَبِل”.
اعملوا على تحصين الحياة السياسية من التعصب الأيديولوجي والحزبي والطائفي والجهوي فضلا عن الانتهازية والوصولية والنفاق والتملّق والتربّح، واحذروا من عودة الاستبداد على يد نخب وأحزاب غير مبرأة من الدكتاتورية والإقصاء حتى في إدارة شؤونها.
المحور السادس: الشأن الاقتصادي، بإمكان المواطن، بل من واجبه المساهمة في النهوض بالاقتصاد من طرق عدة أهمها:
– الإخلاص في العمل وإتقانه من أجل زيادة النجاعة والإنتاجية أيا كان نوع العمل وقيمة الدخل وظروف المواطن، وبصرف النظر عن تقلبات السياسة، فأنت تعمل لنفسك ولوطنك وشعبك وليس للحاكم، والعمل ليس مجرد وسيلة للاسترزاق ولكن قيمة ورسالة وعبادة ومساهمة في نهوض البلاد وازدهارها.
– توظيف قدرتك الشرائية مهما كانت بسيطة لتشجيع الأعمال المنتجة والإنتاج المحلي الذي يوجد مواطن شغل وينمّي الاقتصاد.
– مقاومة الرشوة والفساد بأنواعه، فهو يفسد الأخلاق والسياسة وينخر الاقتصاد.
قد تبدو هذه الخطوات بسيطة والطريق طويلة ولكنها مضمونة وكلفتها منخفضة ولا توجد وصفة سريعة للتحرر والنهوض بعد عقود من الاستبداد خاصة في غياب قادة قادرين على اختصار الطريق. وهل بدأ الربيع العربي إلا بتحركات بسيطة؟ ألم تبدأ أنجح الثورات في التاريخ بفرد أو بمجموعة صغيرة وخطوات بسيطة؟
مطلوب بعض الرواد حريصون على شعبهم ويحلمون بنهضة وطنهم ويلتزمون بهذه الخطوات ويثبتون عليها في وجه التثبيط والازدراء ويبشرون بها في محيطهم ويقنعون بها من حولهم حتى تنتشر “العدوى” فتتغير العقليات والسلوكيات والأعراف والنظم والأوضاع وتُفرَز قيادات وأحزاب وطنية جديدة مخلصة ومبرأة من الانتهازية وهوس السلطة، فأول الغيث قطرة ثم ينهمر.
المصدر: الجزيرة