وقفات مع كتاب الله (سنة الابتلاء والسبيل إلى التمكين)
الأربعاء- 2رمضان 1434 الموافق10 تموز/ يوليو.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
سامح عبد الإله عبد الهادي
بسم الله الرحمن الرحيم
في خضم الأحداث المتلاحقة من سقوط للأنظمة الفاسدة، وانتشار المظاهرات في عدد من البلاد الإسلامية، تتعالى بعض الأصوات بالدعوة إلى دولة مدنية، أو بعبارة أوضح: دولة علمانية، كما تتعالى أصوات بعضهم بالدعوة إلى الصبر على الأنظمة الفاسدة، وعدم المشاركة في المظاهرات، وبعضهم يحاول التسلق عليها لحصد جهود المتظاهرين فيها.
نجد هذا الخليط العجيب من الأصوات يسير جنباً إلى جنب مع تلك التي تدعو للخروج والنفير لتخليص المجتمعات المسلمة من الحقبة العلمانية التي جثمت بثقلها على صدور المسلمين عقوداً تتبجح فيها بالديمقراطية، والتقدم الحضاري، متخذةً من القمع والإرهاب والتجويع شعاراً لها.
ولا يشكُّ عاقل أن التحرك لإزالة هذه الأنظمة بالمظاهرات السلمية أو غيرها سيلاقي رداًّ عنيفاً، وسيضطرُّ المتظاهرون للتضحية بأمنهم واستقرارهم وأوقاتهم وأموالهم، وحتى أرواحهم في سبيل تحقيق تلك الأهداف المنشودة، والتي تبدأ بإسقاط هذه الأنظمة الفاسدة.
لذلك، ولأن ثمن هذه الثورات المتلاحقة باهظ جداً، ولأن المشاركين فيها قوم مستضعفون في بلادهم وجلهم من المسلمين، وبلادهم تحمل الهوية الإسلامية، فإنه لابد من تقديم النصح لها فيما يعينها على تحقيق الغايات السامية التي يطمح لها كل مسلم رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً.
وخير ما تكون به النصيحة كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول تعالى:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )(البقرة 214 ).
إن هذه الآية العظيمة تحمل لنا من الإرشادات الربانية، والقواعد الإلهية ما ينبغي معه الوقوف والتأمل، ولنا معها وقفات:
الوقفة الأولى: يخبر الله سبحانه في هذه الآية الكريمة بسنته الجارية التي لا تتغير ولا تتبدل مع تقلب الليل والنهار، واختلاف الزمان والمكان، سنة الامتحان والابتلاء من أجل تمحيص البشر، ومعرفة أهل الإيمان الصادق من غيرهم ممن هم دونهم، فالمؤمن يحمل في قلبه عقيدة يسعى لنشرها، وحمايتها والذَّودِ عنها بكل غالٍ ونفيس، ولابد له في سبيل ذلك من مصادمة أعداء الله… وحينها يكون الاختبار بصنوف الابتلاءات والمِحن، فمن صبر واحتسب، وجعل همَّه واحداً، وحمل آيات الله بقوة وعزم، وسار معها بثبات إلى الغاية المنشودة، كان مستحقاً للنصر من الله، لأنه أهلٌ لأن يكون مؤتمناً على هذا الدين، مستحقٌّ لأن يكون مستخلفاً في الأرض، وفائزاً بجنة الله في السماء، والجنة محفوفة بالفتن التي لابد أن يصبر ويثبت في وجهها من أراد الوصول إليها.
وشواهد التاريخ على هذه السنة الجارية كثيرة لا تحصى، ذكر الله سبحانه منها مشهداً يحمل لنا الصورة الحية لما كان يختلج في صدور المؤمنين حينها، يقوله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) (الأحزاب 9 – 11).
تستعرض هذه الآيات قصة غزوة الخندق، حينما تآمر يهود بني النضير مع مشركي قريش وغطفان على غزو المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وذلك من أجل القضاء على من فيها من المؤمنين بمن فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، في إبادة جماعية تنهي شوكتهم إلى الأبد، فقاموا بمحاصرة المدينة التي فوجؤا بأنها قد تحصّنت بخندق محفور على الجهة الشمالية المكشوفة، وبقي الحصار أياماً، محّص الله فيها المؤمنين من المنافقين، ولم يقف اليهود مكتوفي الأيدي بعد هذه المفاجئة، فأغروا يهود بني قريظة بنقض العهد، وكانوا لا يزالون على عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقض بنو قريظة العهد وأصبحوا خطراً داهماً يهدد أمن المدينة من المنطقة الجنوبية، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، ولم يخذل الله عباده المؤمنين الصابرين، وكان أول نصرهم إسلام نُعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني، وكان صديقا لليهود، فقام بمشورة من النبي صلى الله عليه وسلم بإحداث بلبلة بين اليهود والمشركين أفقدت كلا الطرفين الثقة بالآخر، ثم أرسل الله ريحاً شديدة لم يطق المشركون معها البقاء على حصارهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وردَّ كيد اليهود إلى نحورهم، ونزل حكم الله فيهم على لسان سعد بن معاذ رضي الله عنه بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً[1]، قال سبحانه (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا،وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا )(الأحزاب 25 – 27 ) .
هذا مشهد من المشاهد التاريخية الكثيرة التي تبين لنا سنة الله التي لا تتبدل، والتي ينبغي فهمها ودراستها بروية وتمعُّن، والاستعداد لها بقلب ثابت متأهب صابر، يملؤه الإيمان واليقين بما أعدَّ الله لعباده وأوليائه، ” سأل رجل الشافعي فقال :يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلي ؟فقال الشافعي :لا يمكَّن حتى يبتلى ، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فلما صبروا مكنهم . [2]”
الوقفة الثانية: تبين هذه الآية أن النصر لا يكون مع الدّعة والراحة والخلود إلى الأرض، لا يكون النصر والتمكين إلا بالصبر والمصابرة والمكابدة للآلام والشدائد، ومعاركة الباطل عراكاً شديداً، يصفه الله وصفاً بديعاً لا مزيد عليه فيقول (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)(البقرة214 ) ويقول سبحانه في آية أخرى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (آل عمران 142)، ويقول سبحانه (الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 1-3 ).
لابد لمن أراد أن يعيش بعزة وكرامة على هذه الأرض، من غير استذلال وامتهان أن يَعِيَ هذه الحقيقة، فسلامة البدن، ورغد العيش، وراحة البال، لن تحقق التمكين لمن أراده بها.
تريدين وجدان المعالي رخيصةً — ولا بد قبل الشهدِ من إبر النحل
الوقفة الثالثة: تبين لنا الآية أمراً قد يغفل عنه الكثير، مع أنه ظاهرٌ لمن قرأ الآية مع أدنى تأمل وتدبر، فالله مع المؤمنين، أتباع الأنبياء والرسل، ولن يكون نصر الله إلا لهؤلاء، وذلك لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
قد تعلو كلمة الكفر ويكون النصر حليفهم في جولة وجولات، وقد تتلوَّن رايتهم، وتروق كلماتهم المزخرفة للكثير، غير أن النصر والتمكين لن يكون في النهاية إلا حليف الثلة المؤمنة الصابرة، يقول سبحانه ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة 214) ، ويقول سبحانه في آية أخرى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(القصص 83)، وقال سبحانه (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) ( الصافات 171 – 173).
هذه الآية العظيمة تضع بين أيدينا الأسس الصحيحة التي ينبغي الأخذ بها في ظل الصحوة الشبابية التي قدّر الله لها الظهور، حتى تكون صحوة مباركة محفوظة على عين الله، تقود أهلها إلى النصر والتمكين في الأرض، وتأخذ بيد أصحابها إلى الجنة، وإني لأهيب بشباب الصحوة أن تكون غاياتهم وأهدافهم التي ينطلقون منها إسلامية تتفق مع روح الإسلام، وأن ينتبهوا لتلك الأصوات التي تنادي بالدعوات الأرضية والمبادئ الديمقراطية، ففي الإسلام من المبادئ والقيم والمثل والواقعية ما لن يجدوه في غيره، والله الموفق.
[1] انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، للدكتور محمد أبو شهبة، ص275 – 319.
[2] الفوائد، ص407.طزظ