مصر بين أوهام الثورة وهواجس الانقلاب
الجمعه – 18 رمضان 1434 الموافق 26 يوليو/تموز 2013
بشير عبد الفتاح
مع كل حركة شعبية أو جماهيرية تجتاح البلاد ويكون الجيش طرفا فيها، تثور التساؤلات، أثورة تشهد مصر أم انقلابا؟! فباستثناء ثورة عام 1919، التي لم يكن الجيش طرفا حاسما فيها وكانت أقرب الحركات الجماهيرية في منطقة الشرق الأوسط إلى المفهوم الكلاسيكي للثورة، طرح هكذا تساؤل عقب “حركة عرابي” عام 1881، والتي عرفت وقتها بـ”هوجة عرابي” ثم وصفت لاحقا بـ”الثورة” العرابية، وتجدد مع حركة الضباط الأحرار في العام 1952، التي عرفت وقتذاك بـ”الحركة المباركة”، ثم بـ”ثورة” يوليو، وبرأسه أطل التساؤل مجددا مع حركة الجماهير الهادرة في 25 يناير/كانون الثاني 2011، ثم تكرر في 30 يونيو/حزيران من العام الجاري.
ثورة واحدة
واللافت في كل هذه التحركات مجتمعة أنها لم تكتسب وصف الثورة من الوهلة الأولى باستثناء ثورة عام 1919 وحركة 30 يونيو/حزيران 2013، رغم الفوارق الشاسعة بين الحدثين. وربما كان المعيار الذى يستند إليه المحللون والمراقبون في وصف وتقويم هذا الحدث أو ذاك، هو معيار المشاركة الشعبية والحشود الجماهيرية، فقد تفوقت حركة 30 يونيو/حزيران على كل هذه الحركات في تعداد المشاركين فيها وتنوع خلفياتهم الفكرية والاجتماعية كما فئاتهم العمرية، لذا هرع مراقبون كثر إلى وصفها بالثورة منذ الساعات الأولى لالتئام حشودها.
وبنظرته العلمية الدقيقة، لا يعد علم الاجتماع السياسي كثافة الحشود الجماهيرية معيارا وحيدا للحكم على أي تحرك شعبي بأنه ثورة من عدمه، إذ يعرف الثورة كفعل جماهيري هادر يرمي إلى إحداث تغييرات عميقة تطال كل جوانب الحياة، عبر تفكيك الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة وبناء أخرى بديلة لها على نحو يكفل بلوغ التغيير الجذري المنشود.
وإذا كان الفعل الثوري لا يقاس فقط بتعداد المشاركين فيه، فإنه يعنى بتنوعهم الجيلي والجنسي والاجتماعي والفكري والمناطقي، كما يهتم بعدم إقصاء أي فصيل مجتمعي من المشاركة، بحيث نكون بصدد حالة هي إلى الإجماع الشعبي أقرب، بحيث يمكن تسميتها “الإرادة الشعبية”.
وبالنظر إلى أحداث 30 يونيو/حزيران الماضي، يبدو لنا أنها كانت غضبة شعبية حاشدة للتعبير عن الاستياء من أداء الرئيس مرسي، فمن حيث المشاركة الشعبية، شارك فيها المناهضون للتيار الإسلامي والمسيحيون والعلمانيون بشتى أطيافهم الليبرالية واليسارية والقومية، فضلا عن شريحة واسعة من شباب الموجة الثورية الأولى في يناير/كانون الثاني 2011، علاوة على البسطاء الذين لم يتسن لهم جني ثمار الثورة التي ساندوها أو مشروع النهضة الذي صوتوا لمروجيه.
هذا بينما غاب عن هذه الحركة قطاع جماهيري منتشر في غالبية محافظات مصر يؤيد الرئيس المعزول، لا يقتصر فقط على المنتمين لتيار الإسلام السياسي والمتعاطفين معه وإنما يمتد ليطال عناصر وشرائح لا تمت إلى ذلك التيار بأية صلة.
ومن حيث الأهداف، لم تكن حركة 30 يونيو/حزيران ترمي إلى إحداث تغييرات عميقة في المجتمع وإنما انحصرت مقاصدها في الإطاحة بالرئيس مرسي عبر انتخابات رئاسية مبكرة. ولم تمكث حركة الجماهير في الشارع سوى ساعات حتى جاء التدخل العسكري ليحسم الأمر ويلبي مطالب الثوار، الذين ما لبثوا أن انفضوا بعد تلويح الجيش بالتدخل.
وإذا كانت الشعوب والأمم لا تتلاقى مع الثورات، بمفهومها السليم، إلا بعد عقود، حيث كان الفاصل بين ثورة 1919 وثورة يوليو، اللتين لم تكتسبا وصف الثورة إلا بعد تأييد الجماهير لهما وعمق الآثار المترتبة عليهما، قرابة سبعين عاما، وبين الأخيرة وثورة يناير قرابة ستين عاما، فإنه يستعصي على أمة تجشم عناء وأعباء ثورتين متتاليتين في غضون عامين أو ثلاثة كما هو الحال في مصر اليوم.
وبناء عليه، لا يعدو ما جرى في 30 يونيو/حزيران الماضي أن يكون غضبة جماهيرية هادرة أقرب إلى الموجة الثورية التي تهدف إلى تصحيح مسار الثورة الأم في يناير/كانون الثاني 2011، عبر تغيير السلطة الحاكمة جراء إخفاقها في الارتقاء بأدائها إلى مستوى تطلعات الجماهير ومتطلبات خصوصية المرحلة.
جدل الانقلاب
لا يزال الجدل محتدما داخل الأوساط السياسية والإستراتيجية داخل مصر وخارجها في مسعى لتوصيف ما جرى في مصر يوم 3 يوليو/تموز، وما إذا كان ثورة أم انقلابا عسكريا متكامل الأركان.
ومن جانبهم، يجنح محللون سياسيون لاعتبار ما شهدته مصر انقلابا عسكريا كون الجيش قد أطاح برئيس مدني منتخب منحازا بذلك لفصيل سياسي بعينه هو المناهض للرئيس المنتخب، ومتجاهلا فصيلا آخر مؤيدا، الأمر الذي يدحض الادعاء بأنه جاء انحيازا للإرادة الشعبية، وذلك على خلاف تدخل الجيش في 25 يناير/كانون الثاني 2011، الذي جاء ليحمي إجماعا شعبيا غير مشكوك فيه، عبرت عنه الجماهير التي خرجت معلنة رفضها لنظام أفسد البلاد والعباد طيلة ما يربو على عقود ثلاثة.
وربما يستشهد أصحاب هذا الرأي بحادثتين تاريخيتين تدخلت فيهما الجيوش وسط ظروف مشابهة، وأجمعت غالبية الآراء على اعتبارها انقلابات عسكرية. كانت أولاهما في مصر عام 1954، حينما استند عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة إلى مسوغ سياسي وأخلاقي مشابه للإطاحة باللواء نجيب، الذي كان أول رئيس للجمهورية المصرية الأولى.
ففي حينها، اصطنعت حشود جماهيرية عريضة تناهض الرئيس الشرعي وتدعم توجهات جناح الصقور بمجلس قيادة الثورة، وهو الأمر الذي عده الطرف الأخير “إرادة شعبية”، تمت على أثره الإطاحة باللواء نجيب من رئاسة الجمهورية وإقصاؤه إلى الأبد عن المشهد السياسي بل وعن الحياة العامة.
وأما ثانيتهما، فكانت في تركيا إبان الانقلاب العسكري الذى جرى في 27 مايو/أيار 1960، حينما أطاح الجنرال جمال جورسيل بحكومة عدنان مندريس المنتخبة. فقد سبقت الانقلاب المذكور تظاهرات شعبية حاشدة ضد الحكومة خاصة في الجامعات التركية. وما زالت تركيا تحتفل إلى اليوم في هذا التاريخ بما تعده “عيد الثورة” رغم تكريم أردوغان لمندريس، الذي أعدمه قادة الانقلاب، وإطلاق اسمه على مطار بمدينة أزمير.
وتجدر الإشارة إلى أن الانقلاب العسكري هو أحد أنماط أو أشكال التدخل العسكري للجيوش في العملية السياسية، والتي من بينها بالطبع بل وفى القلب منها الانقلاب العسكري بمعناه الكلاسيكي المتمثل في قيام عناصر عسكرية بالتحرك والإطاحة برئيس مدني منتخب بقوة السلاح والاستيلاء على السلطة واتخاذ حزمة الإجراءات المعروفة في هذا السياق التي يتضمنها البيان رقم واحد مثل وقف العمل بالدستور وحل الأحزاب وغيرها.
وربما يحتاج التوصيف العلمي الدقيق لما جرى يوم 3 يوليو/تموز لبعض الوقت إلى حين إعادة النظر في مفهوم الانقلاب والتبحر في نظريات العلاقات المدنية العسكرية وما طالها من مراجعات وتطورات في السنوات القليلة المنقضية، هذا علاوة على دراسة ظاهرة إلحاح دوائر مدنية من أجل تدخل الجيش في ظل تنامي دور الجماهير وما بات يسمى بسياسات الشارع.
وحتى يتسنى لنا ذلك يمكن القول إن ما قام به الجيش يوم 3 يوليو/تموز الماضي قد يصنف على أنه شكل من أشكال التدخل العسكري في صراع سياسي مدني، ربما لم يبلغ حد الانقلاب العسكري متكامل الأركان بمعناه الكلاسيكي، كون الجيش تحرك استجابة لإرادة شعبية وأطاح برئيس منتخب كما لم يستحوذ على السلطة بعدها، وإنما أسندها إلى قوى سياسية مدنية ضمن خارطة طريق ذات جدول زمني واضح يمهد بدوره السبيل لدوران عجلة الديمقراطية.
ومن الأهمية بمكان في هذا السياق ألا نغفل دور “الإرادة الشعبية” وإلحاح الجماهير في استدعاء الجيش للتدخل في العملية السياسية، فلطالما شكلت مظلة شرعية حرص الجيش على استحضارها بغية تبرير وشرعنة تدخله في العملية السياسية والنأي به عن شبهات الانقلاب العسكري، على نحو ما بدا جليا في تحركاته الكبرى الثلاث، يوليو/تموز 1952، ويناير/كانون الثاني 2011، ويوليو/تموز 2013.
فعلى خلاف تدخل الجيش في يناير/كانون الثاني 2011، عانت حركة الجيش المباركة سنة 1952 كثيرا في بادئ أمرها حينما لم تحظ بمشاركة وتأييد شعبيين كافيين, حتى إن عبد الناصر نفسه أعرب في كتيب “فلسفة الثورة”, الذي صاغه هيكل، عن خيبة أمله جراء غياب التأييد الشعبي الجارف لحركة الضباط الأحرار. وبدرجة ما ظل تدخل الجيش في يوليو/تموز 2013 مشوبا بعدم الشرعية مع وجود فصيل شعبي رافض له ومعتبرا إياه انقلابا عسكريا.
من جهة أخرى، شهد علم السياسة تطورا لافتا فيما يتصل بعلاقة الجيوش بالسياسة ضمن ما يعرف بالعلاقات المدنية العسكرية، فقد بدأت تلوح في الأفق جهود علمية لنقد نظرية هنتنغتون التي أوردها في كتابه “العسكري والدولة” عام 1957، والتي تؤكد على ضرورة إبعاد الجيوش عن السياسة والإبقاء على مهنيتها وحرفيتها حماية للديمقراطية وصونا لكفاءة الجيوش.
وإضافة إلى ما ذهب إليه صموئيل فينر من استثناء الدول النامية وغير الديمقراطية من هذا الطرح على خلفية خصوصية أوضاع وأدوار الجيوش فيها على الصعد التنموية والسياسية، خرج الباحث الأميركي أوزيان فارول في مؤتمر كلية نيويورك للقانون مطلع العام الجاري بطرح علمي يحاول من خلاله نقد نظرية هنتنغتون.
ولفت إلى أن الجيوش الوطنية المتماسكة والموحدة التي تؤمن قياداتها بالديمقراطية يمكن أن تضطلع بدور الحارس والضامن لعملية الانتقال الديمقراطي في الدول التي تعانى، وهنا في النخب المدنية العاجزة عن التوافق وتحقيق الديمقراطية في هكذا بلدان، واعتبر فارول أن الجيش المصري مؤهل بقوة للاضطلاع بهذا الدور في مرحلة ما بعد مبارك.
وفى هذا السياق، يذهب خبراء إلى إمكانية التأكيد في دساتير الدول الحديثة العهد بالديمقراطية أو التي لم تترسخ فيها دعائمها بالقدر الكافي، على ضرورة إعطاء القوات المسلحة دورا مشروطا ومحددا في العملية السياسية بما يجعلها قوة دافعة باتجاه الديمقراطية وضامنة أو حامية لها، بحيث يسمح لها بالتدخل من أجل تهيئة الأجواء لإقرارها ثم القيام بدور الحاضن الذي يقوم بحمايتها حتى تنضج وتكتمل وتتجذر قيمها ومبادئها، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بتجارب دول كالفلبين وكوريا الجنوبية وإندونيسيا إبان ثمانينيات القرن الماضي حينما انحاز الجيش إلى جموع الشعب الثائرة ضد أنظمتها القمعية الديكتاتورية، وسهل مهمة إزاحتها دون الحلول مكانها، فكان ذلك إيذانا بحقبة جديدة ترسخت فيها مفاهيم الحكم الديمقراطي ومعالم الدولة المدنية.
غير أن هذا الطرح يستوجب وضع معايير موضوعية واضحة وشروط صارمة لتدخل الجيش من أجل تمهيد السبيل للديمقراطية، بحيث يحدد توقيته ونوعه ومستواه ومداه الزمني إلى حين استتباب الديمقراطية واستقرار ركائزها، وأن توضع له ضوابط دستورية صارمة تحول دون هيمنة العسكريين على الحكم، كما تكبح جماح بعض القيادات العسكرية للتدخل في العملية السياسية لاحقا بأي صورة من الصور.
ولنا في التجربة التركية منذ أتاتورك وحتى العام 2003 عبرة وعظة، حيث قنن للجيش حماية الجمهورية والعلمانية، وهو ما اتخذ ذريعة لتدخلات عسكرية دامية في العملية السياسية تخللتها أربعة انقلابات مدوية ومعطلة للمسيرة الديمقراطية والدولة المدنية.
ولعلنا في مصر، بعد 3 يونيو/حزيران ودعوة الفريق السيسي يوم 24 يوليو/تموز 2013 الشعب للاحتشاد يوم الجمعة الموافق 26 من الشهر نفسه لمنحه تفويضا بالتعامل مع أسماه “العنف والإرهاب المحتملين”، في مسيس الحاجة لوضع حدود واضحة وصارمة لتدخل الجيش في العملية السياسية مستقبلا، ولا سيما بعد أن بات الفاعل الرئيسي على الساحة السياسية منذ الإطاحة بمبارك في فبراير/شباط 2011.
ردة ديمقراطية
وبين أوهام الثورة وهواجس الانقلاب ودعاوى الإقصاء والتحريض على العنف والعنف المضاد، تبدو التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر وكأنها تتقهقر إلى الوراء حيث السياسة في الشارع دون المؤسسات والوسائط السياسية والآليات الدستورية المتعارف عليها، والجيش في قلب المشهد السياسي، إذ يتعاظم دوره على حساب الفاعلين السياسيين المدنيين متخاذلين كانوا أو متواطئين أو حتى محاصرين، فيما العنف سيد الموقف مع تنحية السبل الديمقراطية لإدارة وتسوية الخلافات السياسية جانبا وتفاقم خطاب التحريض والكراهية وشيطنة الآخر السياسي.
المصدر: الجزيرة