لإنقاذ الثورة المصرية

الجمعه – 18 رمضان 1434 الموافق 26 يوليو/تموز 2013

عبد الله البريدي

لاحظوا معي أنني لم أقل في عنوان المقال لا “الإخوان”، ولا “الفلول”، ولا “المتطرفين”، وإنما اخترت متعمداً كلمات “الأخونة”، و”الفلولية”، و”التطرفية”؛ وهذا يعني أن طرحي لا يركز على الأشخاص قدر تركيزه على “الأنساق” و”الكيانات”، أو لنقل “المنظومات” التي تؤثر سلباً على بناء الدولة الحديثة الديمقراطية وفق أسسها ومتطلباتها، وسيتضح ذلك في ثنايا المقال.

يخطئ كل من يعتقد أن الثورة المصرية لم تدخل نفقاً مظلماً إلا بعد إنجاب العسكر لوليدهم الانقلابي، وذلك أن تلك الثورة حملت منذ بواكيرها بذور فشلها وإعادة استنباتها في الأحواض الكبيرة التي اعتادت احتضان تلك البذور ورعايتها إلى حين قطف الثمار وبيعها بقوالب احتكارية، بما يعوّض الكلفة الباهظة التي دفعت للإنبات والإثمار.

وقد عرّف عدد غير قليل من المفكرين والمثقفين والمحللين ببذور إجهاض الثورة المصرية في مراحلها المختلفة، إلا أن المشهد كان صاخباً بالأصوات العالية، وغابت المصداقية والعقلانية والتضحية، الأمر الذي منع من الإفادة من تلك الطروحات الجيدة.

لن أطيل في توصيف الوضع الراهن، فقد وُصِّف في عشرات المقالات الرصينة، وإنما سأومئ بعجالة إلى أن الوضع أصبح شائكاً وملغماً بطريقة مخيفة، وحبُل الاستقطابُ في المشهد المصري بالتكاره الأيديولوجي والتعادي الحزبي، وظهر على باخرة الثورة بوصلتان، واحدة كبيرة تؤشر بإصرار نحو “25 يناير” وأخرى صغيرة تُكره عقاربها باتجاه “30 يونيو”، ونحن نعلم أن انحراف البوصلة بدرجة واحدة فقط معناه أن الباخرة لن تصل إلى وجهتها، وإنما إلى مناطق بعيدة، وربما إلى جزر معزولة، تتراكم فيها غابات التعادي والتطاحن وتنبت فيها حشائش اللاستقرار والتشرذم.

الأداء السياسي للإخوان المسلمين ما قبل الانقلاب العسكري كان سيئاً وكارثياً بامتياز، ولم تكن المعارضة في أغلب تشكلاتها وحَراكها بأقل سوءاً وكارثية من أداء الدكتور مرسي وجماعته، بدليل أن كثيرين وضعوا أيديهم مع الفلولية وأيدوا الانقلاب جملة وتفصيلا. 

وهذا السوء من الطرفين، مهد الطريق لسراق الثورة بأن ينقضوا عليها في وقت تَبادلَ فيه الثوارُ قدراً كبيراً من التباغض والتقاطع والتشاكك، ومن هنا تتخلق الحاجة إلى إعادة النظر في الوضع المصري من زاوية تحليلية عقلانية متوازنة، ومحايدة أيضاً. لعلي أشير إلى ما أعتقد أنه يجسد بعض الحل- أقول بعض الحل- لهذا الوضع المأزوم، والذي يتمثل في تفكيك متزامن لثلاث منظومات في وقت واحد، وهي:

تفكيك الأخونة
لعل كلمة “الأخونة” من أكثر الكلمات التي ترددت في الفترة السابقة، والتي تشير إلى ما يُعتقَدُ أنه حَراكُ سياسيُ من قبل الدكتور محمد مرسي لصبغ الدولة المصرية بفكر حركة الإخوان المسلمين عبر التدخل المباشر في تعيين رموز من هذه الحركة في وظائف حساسة، بما في ذلك لجنة تأسيس الدستور.

اقرأ أيضا  قرار أممي هزّ عرش نتنياهو؟!

وبغض النظر عن مستوى الأخونة الذي حصل في الواقع، فإن ثمة ما يشبه الإجماع على وجود هذه الأخونة، مع اختلافٍ في تحديد مستوياتها. ولم تكن المخاوفُ تجاه حركة الأخونة قطريةً فقط بل أضحت قوميةً، حيث امتدت المخاوفُ إلى الأقطار العربية خاصة المجاورة، وتزايد القلق من تشكيل ما بات يسمى بـ”الهلال الإخواني”.

ومن جانب آخر، فشل مرسي في تشكيل حكومة مقبولة، كما فشل في طمأنه الأطياف الفكرية والشرائح الاجتماعية تجاه العديد من المسائل الحساسة، بجانب فشله في قضايا عديدة، كما أخفقت جماعة الإخوان المسلمين في عزل نفسها عن “الرئاسة الوليدة”، وأضحت تدير الأمور بطريقة يراها كثيرون بأنها مكشوفة تماماً، وكل ما سبق أوجد بيئة مواتية لولادة الانقلاب العسكري.

هذا الفشل الذريع لحركة الإخوان المسلمين في السياسة في الجولة السابقة، يحتم عليها أن تعترف به بكل جرأة وبلا تلكؤ، وأن تقدم على خطوات إصلاحية كبرى من شأنها “تفكيك الأخونة”، ومن أهمها في رأيي، ما يلي:

1- تفكيك التنظيم الدولي والتخلي التام عن فكرة التدخل في شؤون الدول الأخرى، وفي هذا تطبيع ضروري مع الدول العربية. وليؤمن الإخوان المسلمون المصريون أن كل دولة أدرى بشؤونها الخاصة، وهي ليست بحاجة إلى وصاية من آخرين.

ومما لا شك فيه أن الدعم العربي للانقلاب العسكري كان -جزئياً- بسبب التخوف من هذا التنظيم الدولي، بجانب خشية امتداد المد الثوري، بطبيعة الحال، وهذا أمر جلي.

2- ضمان الاستقلال الحركي والسياسي لحزب الحرية والعدالة، فالجماعة يجب أن تشتغل في خطها الديني بعيداً عن السياسة، وهذا يتطلب إيجاد آليات جديدة داخل الجماعة تضمن استقلال الحزب عن الجماعة.

3- الدفع بالطاقات الشابة المعتدلة نحو الواجهة السياسية، وهجر مفهوم “الأسبقية الحركية”، وهذا أمر سيمكنها من التناغم بدرجة أكبر مع المجتمع.

4- التفريق بين “التدين في المسار الشخصي” و”التدين في المسار العام”، حيث ثمة فارق كبير بينهما، والخلط بينهما يولد مشاكل لا حصر لها، وللتمثيل على هذه الفكرة، لنقارن بين أداء كل من: أردوغان ومرسي، لنعرف المعنى والنتيجة.

اقرأ أيضا  النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

هل تقدم جماعة الإخوان المسلمين على مثل هذا التفكيك الجريء؟ أم تترس بالغرور وتتعالى على التصحيح الذي يفرضه الزمن؟ تفكيك منظومة الأخونة ضروري لإنقاذ الثورة المصرية، ولكنه لا يكفي، فثمة منظومات أخر لا بد من تفكيكها.

تفكيك الفلولية
تشير الفلولية إلى كافة التشريعات والقوى والكيانات والثروات والآليات التي تجهد لأن تطفئ أنوار الثورة بظلامية النظام السابق. 

ولقد استعجلت الفلولية في التكشير عن بعض أنيابها القبيحة بعد الانقلاب العسكري بشكل فج، وراحت تراكم الفوضى في البلاد بغية إحكام السيطرة على متاريس الإدارة والقيادة في المشهد المصري، مع سماحها للآخرين بأن يدسوا أنوفهم في الشأن المصري، ولخلق رأي عام عربي ودولي يساند الانقلاب ويدعمه ويقر بالوضع الراهن، مع تلبس الفلولية بنزعة انتقامية حادة، ظهرت بعض مظاهرها، ويتوقع ظهور المزيد منها في الأيام القادمة، مما يزيد من الإرباك والفوضى. 

والثورة لا يمكن لها أن تنجح أو أن تحمي نفسها دون أن تفكك هذه الفلولية بقدر معقول، وأحسب أن القوى الثورية الحقيقية مطالبة بأن تقوم بجملة من الأمور المهمة، ومنها:

1- بلورة تعريف واضح للفلولية التي يجب إقصاؤها من المشهد الثوري، متمثلاً في القوى السياسية والاقتصادية بكافة تشكلاتها.

2- وضع ميثاق شرف إعلامي، يتم بموجبه تقييم القنوات المتلفزة والصحافة وإغلاق أي قناة لا تلتزم به، خاصة أن الفلولية الإعلامية تمارس فجوراً في الخصومة.

3- الاستمرار في المطالبة بمحاكمة رموز النظام السابق وتطبيق العدالة عليهم، دون إبطاء ولا تلكؤ.

4- تغليب تكليف الرموز غير الملونة -أي غير الحزبية-، فهي تمتلك قدرة هائلة على العطاء المهني في مجالها، بالمصداقية والحيادية الكافيتين لإنجاح العمل في المرحلة الانتقالية الحرجة.

ومع سوقي لبعض متطلبات مناهضة الفلولية، أبادر بالاعتراف الصريح بأن ذلك بات عسيراً جداً ومكلفاً للغاية، ولكن لا بد من شيء منه، ويدخل في ذلك عدم نسيانه وإطراحه ولو نظرياً، بزعم أنه أضحى فاقداً للشرعية أو للواقعية في الوقت الراهن.

تفكيك التطرفية 
مع تفكيك الأخونة والفلولية، لا بد من تفكيك “التطرفية”، والتي تشير إلى ذلك الخطاب الذي يتأسس على أفكار واتجاهات ونظرات متشددة، تخرج عن بوتقة الاعتدال والرشد فيما يخص الشأن العام وسياسته وفق إطار تعاقدي يقر به المجتمع. والقول بتفكيك هذه التطرفية لا يعني إقصاءها من الوجود بالعدمية الواقعية، وإنما إبعادها عن التأثير على الشأن العام بطريقة تربك الحركة الاعتيادية لتروس الدولة الحديثة التي تبنى في إطار مسلمات يؤمن بها المجتمع ويقر بها. ويتطلب ما فرط تقريره القيام ببعض الأمور، ومنها:

اقرأ أيضا  البحـث عن خطاب الرحمة في الإسلام

1- أن تعمل القوى الثورية على حصر قوى التطرفية وآلياتها وأذرعها الحركية، ومن ثم وضع خارطة وآليات وبرامج عمل واضحة لمنعها من إرباك الشأن العام. 

2- يدخل فيما سبق الحصر والسبر للطروحات الدينية المتشددة (الدينية المغلظة)، وهي كثيرة جداً وصوتها أصبح عالياً ومخيفاً، ومربكاً للكثير من خطوات بناء الدولة الحديثة.

3- كما يدخل فيها أيضا الحصر والسبر للطروحات العلمانية المتشددة (العلمانية المغلظة)، وهي مؤثرة في بعض المسائل وتسبب احتقاناً لا مبرر له في سياقات عديدة.

هل يكون التفكيك الثلاثي منصة للوفاق؟
ربما يكون التباحث حول التفكيك الثلاثي لتلك المنظومات باعثاً جيداً على تشييد أرضية صلبة لإعادة الوفاق في المشهد الثوري المصري وتناغمه بقدر جيد مع محيطه العربي، على أنني أعلم يقيناً أن طرحي السابق قد يراه البعض أحلاماً ساذجة، وأنا لا أراه كذلك، مع تقريري بأنه عسير ومكلف جداً جداً، مع وجود قدر من الغموض وربما التناقض في بعض جوانبه التطبيقية، إن هي وضعت في المحك العملي، وهذا غير مستغرب البتة في سياق تشابكي معقد.

ومن جانب آخر، قد يُغضِب هذا الطرح الكثيرين، حيث تناول بالنقد قوى فكرية وسياسية عديدة، ولكنه الاستقلال الفكري الذي أنعم به، والذي يتيح لي طرح ما أراه محققاً لمصالحنا القومية العليا، بعيداً عن دغدغة المشاعر أو الطبطبة الفكرية، وأجزم بأن تطبيق ما أدعو إليه ليس سهلاً على الإطلاق، ولكن ينبغي أن تدفع الأمور بهذا الاتجاه، إن كان ثمة قناعة بأطروحة التفكيك الثلاثي لمنظومات الأخونة والفلولية والتطرف.

وليتقين الجميع أن إرباك مصر على النحو الذي نراه ليس في مصلحة العرب، والأيام بيننا. وليحفظ الله لنا مصرنا العربية الإسلامية، بكل أطيافها الدينية والفكرية والعرقية، فهي قلعة العرب، وهي بوابتهم نحو القوة والمنعة والكرامة والتحضر.

المصدر: الجزيرة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.