طاعة ولي الأمر
الخميس-7 ذوالقعدة 1434 الموافق 12 أيلول /سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله الذي خلق آدم من سلالة من طين، وجعل نسله من ماء مهين، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوا أمره ولا تعصوه، واشكروه على جميع نعمه ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ [1].
عباد الله: اعتصموا بحبل الله تعالى جميعا ولا تفرقوا، واجتهدوا في إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة للدين، واحذروا النزاع وأسباب التفرق: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾[2].
ومن أسباب التفرق وتمزيق القلوب:
الحسد، والتباغض، والتدابر، وفعل ما يسخط الآخر كالنجش، وهو: أن يزيد في ثمن السلعة بعد أن يرضى صاحبها ببيعها للسائم الأول، أما ما دامت في السوق وصاحبها يطلب الزيادة فلا بأس، وبيعه على بيع أخيه، وشرائه على شراء أخيه، فاحذروا أسباب التفرق؛ لأنه من أمور الجاهلية.
واعلموا أن الله تعالى أمر ولاة أمور المسلمين بأن يؤدوا ما بأعناقهم من الأمانة للرعية، وأن يحكموا بالعدل فيقيموا الحدود والتعزيرات، ويردعوا العصاة عن المعاصي، وأن يرفقوا بالرعية، فلا يكلفوهم ما يشق عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[3]، وأمر الرعية بأن يسمعوا لهم ويطيعوهم فيما أمروهم أو نهوهم مالم يكن في معصية الخالق؛ قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[4].
فوجوب طاعة ولي أمر المسلمين عقيدة دينية يدين بها المسلم لربه، فإن أمره أميره أو مديره بأمر وجب عليه تنفيذه ما لم يكن معصية لله تعالى، وإن نهاه عن فعل شيء وجب الانتهاء عنه، وولاة الأمور هم العلماء والأمراء، فطاعة هؤلاء فيها مصلحة الدين والدنيا، ومخالفتهم فيها فساد الدين والدنيا، فولي الأمر جُنة: أي: ستر وحجاب، ونعمة على المجتمع الإسلامي يقودهم للجهاد في سبيل الله تعالى، والدفاع عن الأعراض والأموال، ويقودهم من له الولاية على الحرمين في الحج، ويولي من هو أهل للولاية على مصالح المسلمين، ويعزل من ليس أهلاً، ويحمي سبيل المسلمين عن من يحاول قطع الطريق والتعرض للمسلمين، ويأخذ أموالهم، أو يقتلهم، أو ينتهك أعراضهم، ويضرب على يد من يريد الإخلال بالأمن.
فلهذه المصالح وغيرها قال العلماء: تجب طاعة الأمير ولو كان فاسقا بنفسه، فإن صلى بالناس إماماً وجب أن يصلوا معه.
وكما تجب طاعة ولاة الأمور يجب النصح لهم، وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم، ويحرم الكلام بما يوقع بغضهم في القلوب أو ينفر عنهم، ومن لم يقدر على النصح دعا لهم.
ويروى عن الإمام أحمد، والفضيل بن عياض: «لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر؛ لأن في صلاح ولي الأمر صلاح الرعية»، وهذا من فقههما رحمهما الله تعالى؛ ففي الحديث: (إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تجتمعوا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم).
ويشترط لنصح ولي الأمر: صلاح نية الناصح، وصدقها، ويعرف ذلك بألاَّ يرى منه الافتخار بأنه يصل إلى الأمراء والحكام، بل يخفي نصيحته؛ فإن صادفت قبولا كان دالا على الخير، والدال على الخير كفاعله، وإن صادفت ردا فقد برئت ذمته، ففي احترام ولاة الأمور من الأمراء والعلماء عز المجتمع؛ لأن ذلك سبب لوحدة الكلمة، ووحدة الكلمة لها روعتها ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [5].
فلا يوقع بهم الكلام لا سيما مع الصغار والعوام، والذين لا يعرفون العواقب؛ فالكتاب والسنة مملوءان بهذا المعنى، وإليكم أقوال بعض العلماء في تفسير الآية الكريم: أطيعوا السلطان في ضرب الدراهم، والدنانير، والمكاييل، والموازين، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد.
قال بعض المفسرين: لو نهى السلطان العالم عن الفتوى فليس له أن يفتي؛ فإن أفتى فهو عاصٍ؛ لأن الفتوى علاج للقلوب، فلا بد أن ينظر السلطان في طبيب القلوب؛ فهو أولى بالنظر من طبيب الأجسام ومثله المعلم.
ومن أمثلة ما يطاعون به:
سائر الأنظمة التي فيها مصلحة للمجتمع، ولا تخالف نصا من الكتاب والسنة، وكما تجب الطاعة لولاة الأمور من المواطنين فيه تجب أيضاً على المقيمين والزائرين فيجب عليهم أن ينفذوا ما التزموا به من شروط وضعتها الدولة فلا يعيثون في الأرض فسادا، ولا يبثون كلاما مسموما ولا يغشون في أعمالهم؛ فمن خالف ما التزم به من الشروط، أو أعان على المخالفة فهو عاص لولاة الأمور، ففي الحديث الشريف: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني). وفي الحديث الآخر: إن سلمة بن يزيد سأل رسول الله – صـلى الله عليه وسلم – قال: (يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه حتى سأله الثانية والثالثة فجذبه الأشعث بن قيس، فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم).
وفي الحديث الآخر: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها). قالوا: يارسول الله، كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: (تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم). وفي رواية: (وتسألون لهم الهداية).
وفي الحديث الآخر: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم). قالوا: يارسول الله، ألا ننابذهم؟ عند ذلك قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة). وفي الحديث الآخر: (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة). وفي الحديث الآخر: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة). أي: لا ينفذ ما أمر به من المعصية، أما ما أمر به من الطاعات فعليه تنفيذه، ولهذه النصوص ولغيرها قال بعض العلماء: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، ومن تعظيم العلماء والحكام ألاَّ ينشر الإنسان أو يذيع أمرا أو حدثا رآه، بل يرد لهاتين الفئتين؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[6].
قال القرطبي رحمه الله في أحكام القرآن: «والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، ﴿ أَوِ الْخَوْفِ ﴾ وهو ضد هذا ﴿ أَذَاعُوا بِهِ ﴾،أي: أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته؛ ولا يصدر هذا من أقوياء المسلمين وأهل العقول السليمة، ولهذا قال بعض المفسرين: إنه يصدر من ضعفة المسلمين؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صـلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لاشيء عليهم في ذلك»[7].
كما نقل عن الضحاك قال: «هو في المنافقين، فنهوا عن ذلك؛ لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف».
وقال القرطبي رحمه الله أيضا في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ ﴾: «أي: لم يحدِّثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الذي يحدث به ويفشيه، أو أولوا الأمر وهم: أهل العلم والفقه.””
كما نقل عن بعض التابعين أن المراد بولي الأمر: الولاة، وقيل: أمراء السرايا، ولا يمنع أن تشمل الآية العلماء والولاة المؤمنين العاملين بشرع الله تعالى.
ولا مانع أن يكون الإخبار للمسئول المباشر أو المسئول العام حسب الحال والمصلحة، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [8]. قال القرطبي: «أي: لعلموا ما ينبغي أن يفشى منهم، وما ينبغي أن يكتم، فلو تأدب المسلمون بآداب القرآن وتخلقوا بأخلاقه لسلمت صدورهم، واجتمعت كلمتهم، وانتصروا على عدوهم.””
ولولاة الأمور والرعايا الأسوة الحسنة في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه حينما جاءه خبر بني قريظة ونقضهم للعهد بعد انهزام الأحزاب في غزوة الخندق، حيث بعث إليهم بعض الصحابة؛ ليتثبت عن نقض بني قريظة، ثم قال لهم رسول الله صـلى الله عليه وسلم كلاماً معناه: إذا وجدتهم لم ينقضوا فارفع صوتك بالخبر إذا أقبلت علينا، وإن وجدتهم قد نقضوا فأعطني الإشارة من دون أن يسمع الصحابة[9]، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد منه أن يرفع صوته عند عدم نقضهم العهد؛ لما في ذلك من تقوية لنفوس المسلمين ورفع لمعنوياتهم.
وكذا الإشارة حال نقضهم العهد؛ لما في ذلك من تشجيع للمنافقين وليكون الإخبار من جهة الرسول – صلى الله عليه وسلم – حسب الطريقة التي يراها.
ولهذا خطب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالصحابة بعد صلاة الظهر وأمرهم ألاَّ يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فما كان منهم إلا السمع والطاعة.
فالمسلم حقا يعمل بما سمع من كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، ولو خالفهما الكثير من الناس؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[10]، وقال: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾[11].
فالعبرة أيها المسلمون، بمن نجا كيف نجا وليس العبرة بمن هلك كيف هلك.
فلا تستوحشوا من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتروا بكثرة الهالكين.
نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة، كما نسأله السلامة من حقوق خلقه والإعانة على أداء حقه، وأن يجعلنا من المتعاونين مع ولاة أمورنا على البر والتقوى وألاَّ يجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سورة الزمر، الآية [7].
[2] سورة الأنفال، الآية [46].
[3] سورة الشعراء، الآية [215].
[4] سورة النساء، الآية [59].
[5] سورة آل عمران، الآية [103].
[6] سورة النساء، الآية [83].
[7] أحكام القرآن (5/291).
[8] سورة النساء، الآية [83].
[9] انظر: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 6/37، تحقيق التركي.
[10] سورة الأنعام، الآية [116].
[11] سورة سبأ، الآية [13].
[12] سورة النساء، الآية [59].
المصدر : الألوكة