طرق استنباط وإظهار الأحكام الشرعية
السبت -9 ذوالقعدة 1434 الموافق 14 أيلول /سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
أكدنا فيما سبق أن المصادر هي الكتاب والسنة والإجماع، ونبين فيما يلي أن الاجتهاد لاستنباط الأحكام من هذه المصادر يعتمد على أساليب وطرق عديدة يقررها علماء الأصول، وهذه الطرق والأساليب هي في الحقيقة مصادر غير مباشرة وتحتاج إلى الرأي والنظر فيها. وقد اتفق جمهور الفقهاء على ضم القياس كأسلوب وطريقة لإظهار الأحكام الشرعية، واختلفوا بشأن حجية عدد من المصادر غير المباشرة والتي مرجعها النظر والرأي مثل الاستحسان، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والعرف، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، وعمل أهل المدينة.
القياس:
وقد سبق القول: إن القياس مظهر للأحكام الشرعية، ويعرف علماء الأصول القياس “بأنه تعدية حكم من الأصل إلى الفرع لعلة متحدة بينهما [1]” وأن وجه القياس “أن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبها فيه [2]” نحو قياس تحريم النبيذ على تحريم الخمر لعلة الإسكار في كل منهما، ونحو تحريم الاجارة والرهن وغيرها من العقود وقت النداء لصلاة الجمعة قياسا على تحريم البيع لاتحادهما في علة الاشغال والالهاء عن الصلاة.
ودليل كون القياس مظهرا للأحكام ما ثبت من السنة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – « حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال كيف تقضي … قال بكتاب الله .. قال فإن لم تجد .. قال بسنة رسول الله .. قال: فإن لم تجد .. قال أجتهد .. فقال – عليه الصلاة والسلام – الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله .. لما يرضي رسول الله[3]» فقد أقره – عليه الصلاة والسلام – على الاجتهاد برأيه في مالا يظهر له نص بالكتاب والسنة. وما روى النسائي قال رجل «يا نبي الله أن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى»[4]. فقياسه – عليه الصلاة والسلام – دين الله على دين العباد في وجوب القضاء دليل على شرعية القياس. وثبت عن الصحابة قبولهم للقياس حيث قاس أبو بكر الزكاة على الصلاة في وجوب قتال من تركها. وقد ذكر الإمام عددا من الاقوال والفتاوى لصحابة الرسول – عليه الصلاة والسلام – والتي اجتهدوا فيها بالقياس مما يؤكد ثبوت حجية القياس[5].
كما يستدل على كون القياس مظهرا للأحكام أن العقل يجعل اشتراك المماثلين في علة موجبا لإجراء ما على أحدهم على الآخر. ويلزم من أنكر القياس انكار علل الأحكام كلها وقد قرر علماء الأصول المحققون كابي اسحاق الشاطبي وغيره[6]. أن الشريعة أنما وضعت لمصالح العباد. وهذا معروف باستقراء موارد الشريعة. قال تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾[7] وأن تعاليل الأحكام في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى، كقوله تعالى ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ إلى غير ذلك. فاذا ثبت “أن الأحكام المنصوص عليها قائمة على رعاية المصالح (فإنه) اذا قرر الشارع للواقعة حكما نبه في الآية أو الحديث على وجه المصلحة المناسبة لتقريره … صح للمجتهد أن يعمد إلى كل واقعة تحقق فيها ذلك الوجه من المصلحة ويسوي بينها وبين الواقعة المنصوص عليها فيما علقه الشارع من حكم “[8]. وذلك هو القياس.
ونحن حين أشرنا إلى أن القياس مظهر للحكم لم نذكره كمصدر نظرا لكون القياس غير مستقل بذاته في اثبات الحكم بل هو محتاج إلى غيره من مصادر وهي الكتاب والسنة والإجماع والتي تحتوي النصوص التشريعية، ولذا اعتبر القياس مظهرا للحكم نظرا لاستناد الحكم اليه ظاهرا ولم يعبر عن كونه مصدرا نظرا لاحتياجه إلى غيره في ذلك، حيث أن العلة التي يبني عليها الحكم ينبغي أن تكون علة شرعية دل عليها الكتاب أو السنة أو الإجماع ومن هنا قالوا أن “القياس مظهر للحكم لا مثبتا” أي بمعنى أنه كاشف للحكم الذي دل عليه النص وليس مثبتا أي مصدرا لأن المثبت أو المصدر هو حكم الأصل من كتاب أو سنة أو إجماع.
ويلاحظ أن محل اعتبار القياس يقتصر على الحالة التي يرجع اليها القياس إلى نص شرعي في المصادر الشرعية من كتاب وسنة وإجماع، وبغير ذلك لا يؤخذ بالقياس. وحيث أن البرهان قد قام على ثبوت شرعية تلك المصادر فإن ذلك يجعل اعتبار القياس أمرا حتميا وثابتا، لرجوعه واعتماده على تلك المصادر الشرعية.
واذا تقرر أن القياس مظهر للأحكام الشرعية فإن الشريعة بذلك تتناول من الاحداث والقضايا والوقائع التي تواجه الدولة والمجتمع ما لا يتناهى، ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: ” لا يستغني أحد عن القياس .. وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى يومنا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم “[9].
وقد ذكر د. متولي في كتابه “مبادئ نظم الحكم في الاسلام” أن القياس لا يعد من الطرق والمصادر المعتمدة لاستنباط الأحكام الدستورية بحجة عدم امكانية القياس على جزئيات انقضت عليها العصور وأن القياس يتعارض مع المصلحة للدولة العصرية، ولأن قواعد القانون الدستوري غير قواعد القانون العادي. ونرد على ذلك بأن القول يترك القياس يفترض مشابهة الشريعة الربانية بالقانون الوضعي والذي لا يعتمد القياس للأحكام الدستورية وتجاهل أن الشريعة غير القانون، وما يسري على القانون لا يسري على الشريعة وليس في الشريعة فرق بين الأحكام الدستورية والأحكام العادية؛ لأن الشريعة جاءت بكافة الأحكام الشرعية وأمرت بالتزامها لا فرق بين حكم شرعي وآخر، أضف إلى ذلك أن:
التشريع الوضعي يستطيع الاستغناء عن القياس عن طريق الرجوع إلى السلطة التي وضعت التشريع بخلاف الشريعة الاسلامية (والتي كملت مع) وفاة الرسول عليه السلام … ولذلك لا يجوز لنا قياس التشريع الاسلامي على التشريع الوضعي لاختلافهما عن بعضهما كليا في هذا المجال[10].
الطرق الاخرى:
أما من حيث الأساليب والطرق الاخرى في استنباط الأحكام والتي بحثها علماء الأصول نحو الاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها، فإنه نظرا لاختلاف الفقهاء فيها فإننا نرى أن “يكون الحق للإمام بأن يتبنى من أصول مذاهب المجتهدين ما يثبت لديه حجته“؛ وذلك لأن الشرع أعطى المسلم الحق في العمل بما يثبت لديه قوة دليله فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله «اذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران واذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر»[11] وقد أقر عليه السلام الصحابة على أفهامهم المتعددة عندما أمرهم بقوله «لا يصلين أحد العصر الا في بني قريظة»[12]ففهم بعضهم سرعة التعجيل وصلى في الطريق، وفهم الاخرون بأن المقصود تأخير أداء الصلاة حتى الوصول لبني قريظة ولم ينكر عليه السلام على أي منهم فهمه، مما يدل على أن المسلم حاكما أو غير حاكم اذا بذل ما في وسعه في الوصول إلى حكم الشرع وعمل بما يتوصل اليه فهو مأجور مقر على ذلك.
هذا بالإضافة إلى أن إجماع الصحابة منعقد على اعطاء الإمام الحق في أن يتبنى أحكاما يعمل بها ويسير عليها في ممارسات حكومته حيث سار أبو بكر رضي الله عنه على التسوية في العطاء وسار عمر على التفرقة فيه بين المسلمين بحسب جهادهم[13]، وكذلك نحو ما سار عليه عمر رضي الله عنه في وقف الارض المغنومة بالقتال على بيت المال وضرب الخراج عليها بناء على فهمه لقول الله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ … ﴾[14].
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية:
اتفق الصحابة … على اقرار كل فريق للفريق الاخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة … وهم الائمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم[15].
وعليه فإن لللامام أن يتنى ما ثبت لديه حجيته من طرق اظهار الأحكام في مذاهب المجتهدين من استصحاب وغيره. وذلك بهدف اظهار الأحكام الشرعية وسنها كقوانين وتشريعات للدولة والمجتمع.
[1] د. بدران، مرجع سابق، ص 140.
[2] الشافعي، الرسالة، مرجع سابق، ص 479.
[3] ابن الاثير، جامع الأصول، الجزء العاشر، مرجع سابق، ص 551.
[4] ابن الاثير، جامع الأصول، الجزء الرابع، مرجع سابق، ص 197.
[5] الامام الرازي، المحصول في علم الأصول، الجزء الثاني، مرجع سابق،ص 75 – 81.
[6] الشاطبي، الموافقات، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 6 – 7.
[7] سورة الانبياء آية 107.
[8] محمد الخضر حسين، رسائل الاصلاح، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 127.
[9] المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 128.
[10] د. محمد فاروق النبهان، نظام الحكم في الاسلام، مرجع سابق، ص 286.
[11] ابن الاثير، جامع الأصول، الجزء العاشر، مرجع سابق، ص 548.
[12] ابن الاثير، جامع الأصول، الجزء التاسع، مرجع سابق، ص 202.
[13] الكاندهلوي، حياة الصحابة، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 215.
[14] سورة الحشر آية 10.
[15] مجموع فتاوى ابن تيمية، الجزء التاسع عشر، مرجع سابق، ص 122 – 123.
المصدر : الألوكة