أهمية الحوار
الأربعاء -12 ذوالقعدة 1434 الموافق 18 أيلول / سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا)
الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على معلم القرآن سيدنا محمد، من أخرج العباد من ظلمات الجهل إلى نور العلم، من كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، من جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلُّوا عليه عبادَ الله وسلِّموا؛ فإن الله وملائكته يصلون على النبي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
الحوار – إخواني – هو مراجعة الكلام بين طرفين مختلفين، مع تقديم الحجج والبراهين لإقناع أحدهما الآخر، أو لتقريب وجهات النظر بينهما.
كما جرى ذلك بين الخليل إبراهيم – عليه السلام – والنمرود؛ قال ربنا الرحمن: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، فتبادل إبراهيمُ الحوارَ مع النمرود حتى غلب إبراهيمُ النمرودَ بالحجة الظاهرة.
وعلى هذا فالحوار هو السبيل الأوحد لإقناع المخالف، ومفتاح قلبه لطريق الحق، كما أن الحوار هو أسلوب التواصل والتفاهم بين الناس، ووسيلة التعارف والتآلُف بينهم، ومنهج الدعوة والإصلاح في مجتمعهم، ومسلك التربية والتعليم لنشئهم وأجيالِهم، ومجمَعُ التقارب والالتقاء فيما بينهم.
لولاه لما انتهت الحروب بين الناس، ولهاجت أفعالُ الجاهلية والفساد في المجتمعات، ولعل حرب البسوس التي دارت رحاها بين قبيلتي داحس والغبراء أربعين سنة لم تنتجْ لهم فيها ناقة لاشتغالهم بالحرب حتى إذا أنهكهم القتال، جلَسوا ليتحاوروا، وتم بينهم الصلح، ولو كانوا جلسوا للحوار من قبل تلك السنوات لَمَا خسروا تلك الخسارة الفادحة، التي نالتهم في المال والنفس والحرثِ والماشية.
فمقصود من الحوار إخواني بيان الحق دون خسائر أو إهانة لأحد الطرفين، وحتى يؤتي الحوار ثماره – إخواني – بين المتخاصمين؛ لا بد أن يتسم مجلس الحوار بآداب تندثر وتغيب فوائد الحوار المرجوة هو الوصول إلى الحق على قدر التفريط في تلك الآداب.
آداب الحوار:
1- وأول تلك الآداب أن تكون نية كل من المتحاورين إظهار الحق، لا إظهار الهوى والنفس؛ فقد يتحاور الرجل من أجل السمعة والرياء والجدل، وإضاعة الوقت، ولإعلاء الباطل مع علمه به، وهذا الحوار لا فائدة منه، والابتعاد عنه أفضلُ.
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا زعيم ببيت في الجنة لِمَن ترك الجدَل ولو كان محقًّا)).
وإنما الواجب أن تكون النية هي معرفة الحق، وما يرضي الله ليس إلا، أيًّا كان قائله، أنت أو مُحاورك، المهم أن تعرف ما يرضي ربَّك وما الذي ينبغي مما لا ينبغي؛ لذا كان الشافعيُّ – رحمه الله – يقول: “ما ناظرتُ أحدًا قط على الغلبة، ووددتُ إذا ناظرتُ أحدًا أن يظهرَ الحقُّ على يديه”، وقال: “ما كلمتُ أحدًا قط إلا وددتُ أن يوفَّق ويسدد ويُعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ“.
فالأفكار الصحيحة – أخي – والمنطق ليس حكرًا على أحد، وإنما هو هبة من الله يعطيها من يشاء – سبحانه – ألم تسمع: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 269]، فربما يكون الحقُّ معك مرة، وربما يكون مع غيرك مرات، والمؤمن كيِّس فطِن، أينما وجَد الحكمة أخَذها وعمل بها لتقرِّبَه من ربه؛ فالحكمة ضالة المؤمن، أينما وجَدها عمل بها.
وصدق – عليه الصلاة والسلام -: ((إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))، هل نيتُك أن تمضي على الحق، وتعمل به بعدما يتبين لك من خصمك؟ أم أنت مبيِّت النية على أن تظل على فكرتك، وإن كانت باطلة بعدما يتبيَّن لك خلافها؟
ولا يزال العبد يُخلص في نيته في كل عمل يعمله؛ في حواره، ورد فعله، وحديثه مع الناس، حتى يستخلصَه الله، ويخلصه من كل فتنة ومصيبة في تلك الحياة، ولقد كان لنا في يوسف – عليه السلام – أسوة حسنة، حينما نجاه اللهُ من امرأة العزيز: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24].
2- ثانيًا: التواضع وحُسن الخُلق عند عرض الأفكار والرؤى له أثر جميل على المستمع، فكلما كان المتحدث منتقيًا لكلماته وألفاظه السهلة المتواضعة، كان أدعى لاتِّباع رأيه والعمل به.
قال أبو أمامة – رضي اللهُ عنه -: إن رجُلًا أتى رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ائذن لي في الزنا – يقول لِمن؟ يقول لأعز أهل الأرض على الإطلاق – قال: فهمَّ مَن كان قُرب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتناولُوهُ – بالضرب والإهانة – فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((دعُوهُ))، ثُم قال لهُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ادنُه، أتُحب أن يُفعل ذلك بأُختك؟))، قال: لا، قال: ((فبابنتِك؟))، قال: فلم يزَل يقُولُ بكذا وكذا، كُل ذلك يقُولُ: لا، فقال لهُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فاكرَهْ ما كره اللهُ، وأحِبَّ لأخيك ما تُحب لنفسك))، قال: يا رسُول الله، فادعُ اللهَ أن يُبغِّض إلي النساءَ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهُم بغِّضْ إليه النساءَ)).
قال: فانصرف الرجُلُ ثُم رجع إليه بعد ليالٍ، فقال: يا رسُول الله، ما من شيءٍ أبغض إلي من النساء، فأذِنْ لي بالسياحة، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((إن سياحةَ أُمتي الجهادُ في سبيل الله))، فانظر تواضعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف أثره الجميل على الرجل؟!
وكذلك كلما كان المتحدث متقعرًا متشدقًا في القول، متعاليًا فرِحًا فخورًا به، كان أبعدَ عن قلوب السامعين فكرته وأوهن حجته؛ قال الله: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18] “وكيف يوفَّقُ مَن لا يحبُّه الله، وأنى له الحكمة“، ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19].
فبما أن القدرات العلمية تختلف من شخص لآخر، فحريٌّ وجميل بالذي عنده علم أن يرحَمَ ويعطف على من دونه في العلم عند الحوار، لا يتعالى عليه فينفر منه ويبتعد عنه، وليتذكر قول الله: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76].
3 – لا بد للمحاور الناجح أن يتقن فن الاستماع، فكما أن للكلام فنًّا وأدبًا، فكذلك للاستماع فن، فليس الحوار من حق طرف واحد يستأثر فيه بالكلام دون محاوره، ففرق بين الحوار الذي فيه تتبادل الآراء، وبين الاستماع إلى خطبة أو محاضرة.
وتأمل ذلك الحوار الذي دار بين الحبيب محمد وعتبة بن ربيعة، وكان عتبةُ بن ربيعة سيدًا حليمًا، وفي يوم وهو جالس في نادي قريش كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسًا وحده في المسجد، قال: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورًا؛ لعله أن يقبل بعضَها، فنعطيه إياها شاء، ويكف عنا، فقالوا: بلى، فقُمْ يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أخي، إنك منا حيث قد علِمْتَ من السعة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيتَ قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتَهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودِينَهم، وكفَّرْتَ مَن مضى مِن آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورًا تنظر فيها؛ لعلك أن تقبل بعضها، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- معلم البشرية الأدب: قل يا أبا الوليد أسمع، (ثم انظر كيف كان أثر ذلك في أبي الوليد).
فقال: يا بن أخي، إن كنتَ إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً، جمَعْنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرَنا مالاً، وإن كنتَ تريد مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيًّا ولا تستطيع أن ترُدَّه عن نفسك، طلَبْنا لك الطبيبَ، وبذلنا لك فيه أموالنا حتى نبرئك منه؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوَى منه، أو لعل هذا الذي تأتي به شعر جاش به صدرك، وإنَّكم – لعمري – يا بني عبدالمطلب تقدرون منه على ما لا يقدِرُ عليه أحد، حتى إذا سكت عنه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أفرَغْتَ يا أبا الوليد؟))، قال: نعم، قال: فاسمَعْ، قال عتبة: أفعَلُ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ [فصلت: 1 – 3]، فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصَت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه حتى انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للسجدة، فسجَد فيها، ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ فأنت وذاك، فقام عتبةُ إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلِفُ بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعتُ قولاً ما سمعتُ بمثله قط، والله ما هو بالشِّعر، ولا بالسِّحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها في، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه – أصبح يدعو إلى الإسلام – واعتزلوه؛ فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تُصِبْه العربُ فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهَرْ في العرب فمُلكُه ملككم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسعدَ الناس به، قالوا: سحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيي لكم.
4- العلم شرط أساسي لنجاح الحوار وتحقيق غايته، وبدونه يصبح الحوار هشًّا لا فائدة منه إلا إهدار الوقت، وضياع الجهد.
فيجبُ على المحاور ألا يناقش في موضوع لا يعرفه، وليس له علم به، ولا يدافع عن فكرة لم يقتنع بها، فإن فعل فإنه يسيء إلى الفكرة والقضية التي يدافع عنها وهو لا يشعر، بل ويعرِّض نفسَه للإحراج وعدم التقدير والاحترام.
يؤكد على ذلك المعنى المناظرة التي دارت بين المشركين ورب العالمين في سورة الأنعام، فدائمًا ما يحتجُّ مَن لا علم له بأقدار الله المكتوبة على معصيتهم وفعلهم الشر، ويقولون: قدر الله علينا ذلك، وينسون أن اللهَ أعطى لنا إرادة حرة فقال: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29].
قال الله: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾ – هنا يحتجُّ المشركون أن الله راضٍ عن إشراكهم في العبادات وتحريمهم الطيبات – ﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾ – والمعنى: هل أوحى الله إليكم أنه راضٍ عن فعلكم القبيح حتى تقولوا ما تقولون، بل أكبر دليل على أن الله لا يرضى فعلكم تعذيبُه إياكم، وعدم توفيقه إياكم إلى الهداية؛ فلعدم علمهم أفسَدوا حجَّتَهم – ﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنعام: 148، 149].
إذًا فلا بد من العلم قبل القول، فليس من العيب أن يقول الرجل: الله ورسوله أعلم، وإنما العيب كل العيب أن يتكلَّمَ الرجل ويبديَ رأيه فيما لا يعلم.
5- إن الحوار الناجح – إخواني – هو الذي ينبني على أدلة وبراهين صحيحة عقلية واقعية، فهيهات هيهات للاستجابة إلى أدلة ظنية ليس لها على أرض الواقع حقيقة، أو شائعة لا يعلم مصدرها، أو مجهول بين الناس قائلها، وعلى هذا كم أفسدت الشائعات فيما بيننا، وكم مزقت برامج “التوك شو” بيوتنا؛ لِما فيها من الكذب والحوار الذي ينبني على أدلة ظنية واهية ليس فيها من الصحة إلا النادر القليل، بل وكم انتُهكت أعراض على إثر تلك الشائعات، والسعي بها بين الناس من غير تثبُّت، والله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
أين الظن الحسن في عباد الله المصلين المؤمنين؛ فالأصل – إخواني – في المسلم حُسن الظن، حتى يتبين خلافه بدليل قطعي؛ قال الله للمؤمنين مؤنِّبًا في حادثة الإفك: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12].
المصدر : الألوكة