آخر خطوط سوريا الحمراء؟

الخميس -13 ذوالقعدة 1434 الموافق 19 أيلول / سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

ما زالت الأيام والأحداث تثبت أن العالم المتحضر اليوم يمر بواحدة من أشد حالات التناقض الأممي والازدواجية المعيارية، حيث أصبح النفاق هو سيد الموقف، ولم يعد لمؤسساته الدولية وهيئاته الأممية دور واضح سوى تصريحات الشجب والإدانة، ناهيك عن الشعور الدائم بالفزع لدى السيد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، وهو الشعور الذي دائمًا ما يصدِّر به تصريحات عقب كل مجزرة تقع في أي بقعة من العالم الثالث اليوم.

الأمم المتحدة بهيئاتها ومجالسها وجمعياتها ومؤتمراتها الدورية والعاجلة والاستثنائية كانت تضع خطوطًا حمراء للصراع داخل سوريا، وها هي آخذة في التنازل عن خطوطها الحمراء الواحد تلو الآخر، حتى وصلت لآخر خطوطها الحمراء؛ وهو استخدام السلاح الكيماوي في الصراع، والذي حدث بالفعل منذ عدة أيام بالغوطة من ريف دمشق عندما أقدم النظام على ضرب المنطقة بغاز السارين القاتل مما أدى لسقوط مئات القتلى وآلاف المصابين، وقد نقلت الفضائيات صورًا مروعة يشيب لها الولدان من احتضار الأطفال والنساء بسبب هذا الغاز القاتل، في مشهد سيظل وصمة عار تجلل وجه العالم المتحضر، فأين العنتريات الأمريكية؟ والويل والثبور الأوروبي؟ والرعد والبرق الأممي لمن يقدم على استخدام السلاح الكيماوي في الصراع؟!

  يلعب البعد الخارجي في الأزمة السورية دورًا مركزيًّا في توجيه مسارها، فالتاريخ والجغرافيا جعلا سوريا دومًا عند مسافة تتقاطع فيها المصالح الإستراتيجية والخلافات ذات الأبعاد السياسية والدينية والعرقية بين القوى الرئيسة والفاعلة في المنطقة، بل ويمتد تأثير سوريا إلى بعض دول المنطقة بحكم طبيعة التركيبة الاجتماعية المكونة لأعراق وديانات ومذاهب شعبها وامتداداتها في قلب هذه الدول، وإلى جانب هذا البعد الإقليمي وعلاقات أطرافه بالعالم نجد سوريا دائمًا تكون رقمًا مهمًّا تتقاطع عنده مصالح الدول المؤثرة في النظام الدولي، وتبرز أهميتها عند لحظات التحول الكبرى في طبيعة وشكل هذا النظام باعتبارها بوابة يمكن عبرها هندسة المصالح وإعادة صياغة موازين القوى الجديدة.

وقد أتت الثورة السورية لتضفي مزيدًا من المصداقية على طبيعة الجغرافيا السياسية لسوريا وتأثيرها ومدى استغلال القوى الدولية للخصوصية السورية من أجل النفاذ إلى الغايات الكبرى في الإقليم والعالم، مما يدعو إلى القول بأن الثورة السورية ربما تكون مخاضًا صعبًا لنظام إقليمي ودولي جديد قيد التشكل، تحاول فيه بعض القوى القديمة استعادة بعض من نفوذها وهيمنتها السابقة مثل روسيا، أو حجز مكان بارز في رقعة الشطرنج الإقليمية الجديدة مثل الصين وإيران.

اقرأ أيضا  القدوة الحسنة

وهذا التداخل الإقليمي والدولي بتعقيداته السياسية والطائفية والعرقية والاجتماعية جعل الأزمة السورية واحدة من أكثر الملفات الدولية تعقيدًا وتشابكًا، مما ينذر بأن مدى الأزمة سيطول وربما تمتد لعقد كامل من الزمان وزيادة دون حل فعلي. ولكن مما زاد في تعقيد وتمديد هذه الأزمة عدة أمور من أبرزها:

الحسابات الإقليمية والدولية الخاطئة بخصوص هذه الثورة، فالكثيرون في محيطنا الإقليمي والدولي ظن أن الثورة السورية ستحسم سريعًا مثلما حدث في تونس ومصر، أو أن النظام الأسدي سيسحق الثورة سريعًا، فإذا بالثورة تدخل شهرها الثلاثين وضراوتها وحدتها واتساعها تزداد يومًا بعد يوم، في ظل توازن حرج يتأرجح يومًا لهذا الطرف ويومًا للطرف الآخر، وكل الخطوط الحمراء التي رسمت كنطاقات افتراضية للتدخل الدولي تم تجاوزها وآخرها السلاح الكيماوي كما رأينا، والمواجهة بين طرفي الأزمة بدت كأنها صراع لن ينتهي ولن تقف آلة القمع الأسدية عند نقطة معينة.

ومنها أيضًا جنوح الصراع بقوة ناحية الزاوية الطائفية بعد استدعاء “حزب الله” اللبناني في المشهد، ومعه كتائب الحق العراقية، ومليشيات الحوثي اليمنية، ومئات من المتطوعين الأفغان والباكستانيين الشيعة، وهذا الجنوح أعطى قوة ودفعة لا تخفى للنظام الأسدي القمعي، حيث استطاع أن يعيد اللحمة للقوات النظامية، ويوقف نزيف الانشقاقات اليومي في هذه القوات بعد أن تبلورت طبقة الرتب الكبيرة في الجيش النظامي من طائفة الأسد وعشيرته، ناهيك عن أن استدعاء الطائفية في المشهد نقل الصراع مباشرة من نطاقه المحلي إلى امتداده الإقليمي والدولي، وورط أطرافًا كثيرة في هذا الصراع مما زاد المشهد تعقيدًا وتمديدًا.

اقرأ أيضا  تقرير دولي: نحو ملياري شخص حول العالم يعانون الفقر

من أسباب تطويل وتعقيد الأزمة السورية أيضًا حسم داعمي نظام الأسد لخياراتهم السياسية والميدانية؛ حيث وقفوا بكل قوة وراء الأسد ودعموه ماديًّا ولوجستيًّا وسياسيًّا ودوليًّا بكل قوة، فقد قدمت إيران، وقدم “حزب الله”، وقدمت روسيا والصين إمدادات تسليحية للنظام الأسدي، وحافظت على مخزونه الاستراتيجي من السلاح والذخيرة، ووفرت مساعدات مالية وتقنية وأمنية، ومظلة سياسية إقليمية ودولية، منذ الشهور الأولى للثورة. وفي المقابل، ترددت تركيا والدول العربية المتعاطفة مع الشعب والثورة في تقديم العون الضروري، ولم تبدأ بتوفير دعم جزئي وخجول إلا في ربيع 2012،  بعد أن تأكدت من استحالة بقاء هذا النظام الدموي، ورغم تصاعد وتيرة عنف النظام وتقاطر المساعدات الخارجية عليه من الدول الداعمة له إلا أن محور الدول المؤيدة للثورة ظلت تراوح بين أقدامها في إمداد الثوار بما يلزمهم من سلاح وعتاد نوعي يضمن لهم مواجهة التفوق الكبير لقوات النظام، ولولا حماسة وبسالة الثوار وإيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم لأجهضت ثورتهم منذ فترة طويلة.

ومن الأسباب أيضًا تردد الإدارة الأمريكية في حسم خياراتها الإستراتيجية في سوريا، فالموقف الأمريكي بخصوص الأزمة السورية بدا مرتبكًا مشوشًا متأرجحًا بين ثلاث خيارات، لم يستطع الأمريكان حتى الآن حسم أيها أنسب؛ الخيار الأول: الحل السياسي القائم على رحيل الأسد وأسرته وإسناد البلاد للمعارضة العلمانية المطعمة بنكهة إسلامية، وهو الخيار الذي ذهب أدراج الرياح لأسباب كثيرة أبرزها تفجر الخلافات داخل صفوف المعارضة السورية داخليًّا وخارجيًّا. أما الخيار الثاني: فهو التدخل العسكري المباشر في سوريا، والذي يبدو أنه الحل الوحيد لكنه الأصعب خصوصًا إذا أخذنا بالاعتبار الأطراف الدولية والإقليمية التي تصطف إلى جانب النظام السوري واستعدادها لإشعال المنطقة بأسرها، واحتمال لجوء النظام السوري إلى استخدام ترسانة أسلحته الكيماوية والبيولوجية وتأثير ذلك على الاستقرار الإقليمي والعالمي، على أن أمريكا غير مستعدة لتدخل خارج إطار الشرعية الدولية أو على الأقل في ظل حلف دولي، وغير مستعدة لتحمل تكلفته السياسية والاقتصادية، علاوة على حسابات الداخل الأمريكي وخشية التورط في صراع يمكن أن تنعكس تداعياته على الانتخابات الأمريكي. أما الخيار الثالث فيتمثل في التدخل في سوريا عبر تزويد الثوار السوريين بالسلاح والتدريب والمعلومات الاستخبارية، وكذلك دعم إقامة مناطق حظر جوي داخل سوريا، محمية من قبل القوة الجوية الأمريكية، وهنا برزت المعضلة الأمريكية في كيفية اصطناع فصيل ثوري سوري علماني مؤمن بالقيم الأمريكية، ويعادي الجماعات الجهادية المقاتلة داخل سوريا، وحتى الآن لم يستطع الأمريكان الوصول إلى مثل هذا الفصيل، والأمريكان متخوفون بشدة من وصول السلاح الأمريكي بيد هؤلاء وهواجس صواريخ ستنجر أيام الحرب الأفغانية الروسية ما زالت تؤرق صانع القرار الأمريكي.

اقرأ أيضا  تعالوا شوفوا العجب في قطاع غزة

اليوم آخر خطوط سوريا الحمراء قد تم تجاوزها وبفاتورة مبدئية جاوزت الألف وخمسمائة شهيد، وإذا بالتهديدات السابقة بالرد الحاسم والفوري لو ثبت استخدام هذه الأسلحة تتحول لرد فاتر ودعوات من هنا وهناك للتحري والتأكد من الجهة المسئولة عن هذه العملية كأن العالم لا يعلم أن تقنية استخدام السلاح الكيماوي لا تتوافر إلا لدى النظام وحده، والتعقيدات الدبلوماسية والإدارية في اللجان المشكلة للبحث والتحري وحدها كفيلة بإجهاض القضية برمتها، لذلك فالأزمة السورية على ما يبدو ستظل على مثل المستوى من الصراع، وستطول وتعظم معها حجم التضحيات والخسائر، حتى تنتهي أقطاب اللعبة الدولية من حسم الصراع، ومهما بلغت وحشية النظام في مواجهة شعبه فلن يتحرك العالم المتحضر المسكون بقيم النفاق والمصالح الخاصة، وستظل أطراف الصراع السوري بمثابة أحجار على رقعة شطرنج العالم المنافق، ولتذهب حقوق الإنسان والمثل والقيم إلى الجحيم، مادام هذا الإنسان ينتمي إلى أمة اسمها أمة الإسلام.

المصدر : مفكرة الاسلام

 

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.