ما معنى الانقلاب العسكري؟
الخميس -13 ذوالقعدة 1434 الموافق 19 أيلول / سبتمبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
بقلم: طارق البشري
(1)
من سمات الانقلابات العسكرية أن القوى العسكرية التي تقوم بها، بما تشمله من مجموعات ووحدات وأفراد عسكريين، إنما يتحركون بآلاتهم وأجهزتهم الحربية للسيطرة على الأوضاع المادية والإحاطة بها والتمكن منها، إنما يفعلون ذلك وهم لا يعرفون أية أهداف سياسية ستتحقق بسبب حركتهم، ولا يعرفون أنهم يقومون بانقلاب عسكري يستهدف الإطاحة بالنظام السياسي القائم في الدولة، ولا أنهم يستبدلون به نظامًا آخر وسيطرة سياسية أخرى، لا يدري هؤلاء المتحركون عنها شيئًا. ولا يعرفون ما هي المجموعة السياسية التي سيتاح لها بصنيعهم أن تتولى السيطرة على الدولة.
ذلك لأن تحريك الجيوش، وتحريك سائر أجهزة الدولة حتى المدنية منها، إنما يجري بما نسميه القرار الإداري والأمر الرئاسي وليس القرار السياسيالمباشر. فأجهزة الدولة بأجهزتها المدنية والعسكرية تتكون من العديد من الهيئات ومن المؤسسات المتعددة والمتخصصة في الجوانب المختلفة لوجوه النشاطالاجتماعي والسياسي، وكل منها منفصل إداريًّا عن الهيئات الأخرى ولا يتصل بها إلا من خلال التشكيلات الرئاسية الجامعة لها وبالنظم المرسومة سلفًا. وكل منها يجمع المعلومات في إطار تخصصه النوعي والوظيفي ويصعد بهذه المعلومات إلى الرئاسات التي تتجمع لديها الخبرات والمعلومات، ثم تتخذ القرار السياسي أو الاجتماعي في الإطار الرئاسي العام، ثم تهبط بهذا القرار من خلال مجموعة من الأوامر والتعليمات وبالقرارات الإدارية الرئاسية المتخصصة، إلى كل هيئة نوعية تابعة.
وكل هذه الأجهزة النوعية المتعددة تقوم بعملها بموجب القرارات والتكليفات الخاصة المحددة التي تهبط إليها من رئاستها، وتنجز الجزء الخاص بها في حدود تخصصها النوعي أو الإقليمي، ثم يتكامل العمل العام وفقًا للخطة الرئاسية المرسومة التي تحتكر معرفتها هذه الرئاسة العليا وتحقق بها ما رأته من أهداف سياسية أو اجتماعية عامة.
وهذا التصور العام للعمل العام يصدق بشكل أكثر ضبطًا وإحكامًا في القوات المسلحة، لما يتسم به عملها من استخدام وسائل العنف والمحاربة والتحقيق العسكري للأهداف التي ترسمها القيادة، ولما في أصل عملها من وجوب التزام بالسرية والتحكم والحذر والتوجس.
(2)
والعمل الانقلابي في السياسة تقوم به القوات المسلحة، وفيه بطبيعته العسكرية من الفجائية ما يستلزم القدر العالي من السرية والتكتم حول الأهداف المنشودة، وأن السرية والانضباط والحذر والتوجس يكون أوجب هنا من أي عمل عسكري آخر، لأن القوات المسلحة هي قسم تابع للدولة ويستمد شرعية قرارات قياداته من خضوعه الرئاسي لرئاسة الدولة التي عينت القيادات العسكرية ومن سلطتها أن تعزلها وتنحيها. والقيادات العسكرية إن عُزلت فقدت شرعية وجودها على رأس التشكيلات العسكرية التنظيمية التي تتلقى أوامر الحركة من هذه القيادات، وفقدت إمكان تحركها الانقلابي. لذلك يتعين أن تتحرك القوات المسلحة بوحداتها بموجب أمر مجهول الهدف أو بموجب هدف صوري غير حقيقي، يمكِّن القيادة العسكرية من التنفيذ قبل انكشاف القرار وظهور الهدف. أي يجب الفصل التام بين قرار الحركة وبين هدف الانقلاب، واتخاذ أساليب من الخديعة والمناورة والمكر.
ويظهر هنا الفارق الواضح بين تغيير نظام الحكم بواسطة ثورة شعبية، وبين تغيير بواسطة الانقلاب العسكري؛ لأن حركة الجماهير في الثورة الشعبية التي يسقط بها نظام الحكم هي حركة ظاهرة الأهداف، وكل من يشارك في العمل الثوري الجماهيري إنما ينضم إليه ويشارك فيه عارفًا بالأهداف المنشودة من هذا الحراك وهذا التجمع، أما بالنسبة للانقلاب فإن القيادة العليا للقوة المسلحة هي وحدها التي تعرف الهدف السياسي من وراء حركة الجنود، وكل الجنود المشاركين في العمل حشدًا وتوزيعها للمهمات يجهلون تمامًا ما يكمن خلفصنيعهم من نتائج منشودة. ولا يعرف الهدف السياسي لهذا الحراك العسكري إلا فرد أو جماعة ضيقة جدًّا محدودة العدد من القيادات، يسوقون أكبر قوة مادية في الدولة والمجتمع إلى غير ما تعرفه هذه القوة.
إن أظهر وقائع الانقلابات العسكرية في مثل بلادنا، هو ما حدث في سنة 1908 الانقلاب العسكري الذي قامت به فرق من الجيش العثماني على سلطة السلطات عبدالحميد الثاني في إستانبول. لقد سارت هذه الفرق العسكرية من سالونيك وغيرها في البلقان، متجهة شرقًا في أراضي الدولة إلى العاصمة إستانبول، وكان الجنود يهتفون بحياة السلطان عبدالحميد لما أشاعته القيادة العسكرية من أن هذا الحراك إنما يجري لبلوغ العاصمة ولحماية السلطات عبدالحميد من مخاطر تحيط به، ولما بلغ الجنود قصر السلطنة وزعهم قادتهمحوله بما أحكم الحصار على القصر، ودخل القادة إلى السلطان وأملوا عليه ما رأوه من شروط وقرارات وأجبروه على قبولها. ثم عزلوه نهائيًّا في سنة ١٩٠٨، وهكذا فإن قرار الانقلاب وفكرته كانت حكرًا على قيادة فرق الجيش المتحرك، دون أية معرفة بها ممن قاموا بالحركة ونفَّذوها، وحققوا أهداف القيادة بصنيعهم دون أن يعرفوا بها، بل على عكس ما استقر في وعيهم الجماعي أنهم يصنعونه بحركتهم.
وفي مصر في سنة 1952، رغم أن البلاد كانت مهيأة للثورة وتنتظر حدوثها، فإن حركة وحدات القوات المسلحة التي قامت في 22 يوليو، وكان هدفها الحقيقي السيطرة على مقر قيادة الجيش والمواقع الرئاسية في القاهرة والإسكندرية وإعلان حصول الانقلاب العسكري ثم إسقاط النظام وعزل الملك، هذه الحركة كان المعروف منها للوحدات المتحركة وضباطها الصغار وجنودها أنهم يتحركون تنفيذًا لحالة “طوارئ”.
ومفاد حالة الطوارئ في اللغة السائدة وقتها بين أجهزة الدولة وفي الاستخدام الجاري أنهم يتحركون للدفاع عن الدولة وأمن البلاد ضد أية احتمالات هياج أو اضطراب يهدد الدولة أو منشآتها أو يهدد أمن المجتمع ،وكانت حالة الطوارئ معلنة رسمية من قبل الدولة المصرية من الملك والحكومة مع أحداث حريق القاهرة التي جرت في 26 يناير 1952.
وهكذا في كلتا الحالتين، تحركت القوات المسلحة بزعم حفظ أمن الدولة ونظامها القائم، وذلك لتحقق عكس ما أعلنته هدفًا لها وهو هدم هذه الدولة ونظامها وإنشاء نظام آخر. وكانت حقيقة الأمر مقصور معرفتها على قائد هذه الحركة أو على أفراد قليلين حوله محدودين ومعدودين، أما القوات المسلحة ذاتها بوحداتها ورجالها وقادتها في الفروع المختلفة المتحركة فلم تكن حركتهم عندهم تستهدف ما ترتب عليها، بل لعل حركتهم كانت في وعيهم على عكس ما ترتب عليها.
ولذلك فإن صنع الانقلابات، لا يقع عبء حصولها على الوحدات والفرق والمجموعات التي قامت بها، بل يقع عبء ذلك على رأس القيادات التي تتخذ قرار الحركة العسكرية ثم تحوله إلى عمل سياسي.
(3)
وهذا ما يلاحظ في الأحداث التي جرت بيننا اليوم، بما عرف بأحداث 30 يونيو 2013 وما آلت إليه في 3 يوليو التالي له. وحاصل المسألة إن كانت أعلنت قوى المعارضة، سواء في تجمعاتهم السياسية أو بأجهزة الإعلام جميعها العاملة معهم وبهم أو من يواليهم من داخل أجهزة الدولة ــ أعلنت كلها وعملت بدعوة مصرة وصاخبة للحشد ضد من يتولى السلطة من خلال أجهزة الدولة الدستورية، وذلك بهدف إنهاء هذا الحكم. ولم يظهر من هذه الدعوة ولا من أي من صورها كيف يكون الإنهاء ولا ما هي أدوات تحقيقه وأساليب إنفاذه.
ثم في 23 يونيو، أذيع خطاب لوزير الدفاع الذي يتولى بهذه الصفة منصب القائد العام للقوات المسلحة، وأشار الخطاب إلى أن القوات المسلحة على وعي بما يدور داخل البلاد وهي بعيدة عن العمل السياسي، ولكنها تلحظ وجود حالة انقسام في المجتمع وأن «استمرارها خطر على الدولة المصرية»، وأنه لابد منالتوافق لأن الحالة الحاضرة تهدد الأمن القومي مما لا تكون القوات المسلحة بمعزل عنه و«أننا لن نظل صامتين أمام انزلاق البلاد في صراع يصعب السيطرة عليه». ثم ذكر الخطاب أنه يخطئ من يظن أن هذه الحالة لا تهدد الأمن القومي أو أنها لا تهدد الدولة المصرية.
وأن مفاد هذا الخطاب أن وزير الدفاع القائد العام – ذا المسئولية التضامنية مع الوزارة – أنه في مواجهة انقسام حاد يعتري الوضع السياسي المصري، إنما يكون اهتمامه وتدخله لحماية الدول المصرية، وكذلك الأمنالقومي الملامس لحماية هذه الدولة. وطالب القوى السياسية بالتوافق خلال الأسبوع التالي.
والحاصل الذي يتبادر فهمه عند الحديث عن حماية الدولة أن المقصود بذلك ما تتمثل فيه الدولة كهيئة ومؤسسة من أجهزة تنظيمية حاكمة ومؤسسات أساسية، كما تتمثل في نظمها الدستورية القانونية التي تتشكل هذه الأجهزة والهيئات وفقًا لها. لأن الدولة من الناحية النظامية هي أجهزة وهيئات وهي نظم دستوريةوقانونية.
ثم حدثت الحشود المعروفة في 30 يونيو، التي توزعت على حركتين سياسيتين شعبيتين متقابلتين؛ إحداهما ضد المؤسسات السياسية الحاكمة للدولة وهي رئاسة الجمهورية والمجلس الوزاري والمجلس النيابي، والأخرى تدعم هذه المؤسسات، وأيًّا ما كانت نسبة أرجحية أي من الحركتين على الأخرى، فهما حركتان شعبيتان سياسيتان متاقبلتان ليس في مكنة إحداها أن تقضي على الأخرى ولا أن تتجاهلها، ولا يرد مرجح بينهما في ظل نظام دستوري قائم إلا إنفاذ أحكام هذا الدستور بالنسبة لما يستوجبه من انتخابات تجرى في مواعيدها، وأولها حسب سياق الأحداث انتخابات مجلس النواب الوشيكة الحدوث التي تتشكل الحكومة وفقًالنتائجها.
وقد أصدر وزير الدفاع والقائد العام في 1 يوليو 2013 بيانًا أمهل فيه القوى السياسية 48 ساعة للاتفاق على مخرج من الأزمة، وذكر أن القوات المسلحة ستعلن «خريطة طريق للمستقبل» إذا لم تتحقق مطالب الشعب مع الإجراءات التي تشرف عليها القوات المسلحة بمشاركة أطياف الاتجاهات الوطنية.
خلال هذه المدة، ومنذ 23 يونيو، تحركت وحدات من القوات المسلحة إلى الأماكن المعدة للسيطرة على المدن المهمة، وذلك باسم حماية المنشآت العامة ومن أهمها طبعًا منشآت الدولة، وذلك طبعًا يجري في إطار ما أورده خطاب وزير الدفاع من أنها حركة تهدف إلى حماية الدولة وهيئاتها ومؤسساتها ونظمها، وكانت كل الوحدات والمجموعات والأفراد والمعدات تتحرك في إطار هذا الهدف المعلن، وهو حماية المنشآت مما قد يحدث من انحرافات بعض المتظاهرين وضمان حماية أجهزة الدولة وهيئاتها، وبحسبان أن ذلك مما يتعلق بالأمن القومي.
ثم فوجئنا في 3 يوليو بخطاب القائد العام الذي أعلن فيه مستندًا إلى حركة الجيش السابقة، أعلن حصول الانقلاب العسكري متمثلاً في تعطيل الدستور وعزل رئيس الجمهورية والإطاحة بالمؤسسات الدستورية القائمة وتعيين رئيس جمهورية مؤقت، ومنحه القائد العام لا سلطة إصدار القوانين فقط، ولكن منحه سلطة إصدار الأحكام الدستورية، واعتقل رئيس الجمهورية الدستوري المنتخب، ثم حل المجلس النيابي.
معنى هذا أن وحدات القوات المسلحة تحركت لحماية الدولة وأجهزتها وهيئاتها ونظمها، ثم استغل هذا الحراك واستخدم لتحطيم أجهزة الدولة وهيئاتها ونظمها، وانعكس توظيف حركة القوات المسلحة من هدف الحماية والإبقاء إلى هدف الهدم والإنهاء. وأن هؤلاء الذين تحركوا بمعداتهم قبل نحو عشرة أيام لم يكونوا يعرفون أي توظيف سياسي ستستخدم حركتهم فيه من جانب قيادتهم.
هذه بالضبط هي أساليب الانقلابات العسكرية، وهي أساليب تجعل من تحركوا إنفاذًا لقرارات قياداتهم ليسوا مسئولين عن الأهداف السياسية التي حققتها قيادتهم بهذا الحراك.
والثورات الشعبية لا تفعل ذلك؛ لأن كل مشارك فيها من الجماعات والأفراد، إنما شارك وهو يعرف الهدف السياسي الذي ينتج عن حركته وأن الحراك الشعبي السابق في ٣٠ يونيو كان منقسمًا بين تيارين شعبيين متعارضين ولم يكن مجتمعًا على مطلب واحد كما حدث في ٢٥ يناير ٢٠١١.
(4)
إن ما يتعين التمسك الآن به هو الآتي:
أولا: أن دستور 2012 لا يزال قائمًا معمولاً بأحكامه ويتعين إعماله وهو دستور مستفتى عليه شعبيًّا، ولا يعدل إلا وفق الأحكام التي نص عليها.
ثانيًا: إعمال أحكام هذا الدستور يقتضي بقاء المؤسسات السياسية المنشأة وفقًا له، وتستكمل بانتخابات مجلس النواب مع سرعة إصدار قانون تنظيم الانتخابات.
ثالثًا: تشكل الوزارة وفق نتائج انتخابات مجلس النواب طبقًا للدستور وتتولى السلطة الدستورية في الدولة.
رابعًا: يتحدد بعد ذلك وفق أحكام الدستور وإجراءاته ما إذا كان ثمة ما يستدعي إجراء انتخابات سريعة لرئاسة الجمهورية.
والحمد لله.
المصدر : مفكرة الاسلام