صيغ الدعاء القرآني
الثلاثاء- 25 ذوالقعدة 1434 الموافق01تشرين الأول /أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
في رمضان يجتمع القرآن والدعاء، والقرآن أفضل الكلام، والدعاء هو العبادة، فإذا كان اختيار عبادة الدعاء من أفضل الكلام كان ذلك أفضل الدعاء، وخير الدعاء.
وفي الدعاء القرآني مسائل كثيرة جديرة بالبحث والتأمل، وهذه محاولة للمشاركة في هذا الباب من الخير في هذا الشهر الذي هو شهر القرآن والدعاء، وسأفرد كل مسألة بمقالة، وأحاول أن تكون في كل يومين مقالة إن أسعفني الوقت للكتابة.
وتسرني تعقبات إخواني ممن له علم في هذا الباب، أن يرشدوني ويوجهوني، ويصححوا خطئي؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، سواء كان ذلك علنا بتعقب ينشر في الشبكة حتى يستفيد القراء وهذا أحسن فلست أحرج من ذلك، أو كان خاصا على بريدي ([email protected]) وأسأل الله تعالى أن ينفع بها قارئها، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، إنه سميع مجيب.
صيغ الدعاء في القرآن:
أشهر الصيغ القرآنية في الدعاء وأكثرها (ربنا) للجمع وردت في قرابة (70) موضعا، و(رب) وردت في أكثر من (مئة) موضع للمفرد.
وجاء الدعاء بصيغة (اللهم) في أربعة مواضع فقط:
الأول والثاني: في سياق الأمر بهذه الصيغة؛ وذلك في قوله تعالى ﴿ قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26] وقوله تعالى ﴿ قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [الزُّمر: 46].
الثالث: في الإخبار عن دعاء المشركين يوم بدر، قال تعالى ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32].
الرابع: في الإخبار عن دعاء أهل الجنة قوله تعالى ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾ [يونس: 10].
وجاء الجمع بين الصيغتين في موضع واحد، وهو قول الله تعالى ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المائدة: 114].
وأما بقية الصيغ المتداولة عند الناس نحو: إلهنا، وسيدنا، ومولانا… فلم أعثر على شيء منها في القرآن الكريم.
ولذا استحب الإمام مالك رحمه الله تعالى أن يدعو بصيغة الربوبية؛ لأنها أكثر ما ورد في القرآن، فيقول الداعي أو الداعون (رب أو ربنا) عن ابن وهب قال: سئل مالك عن الداعي يقول: يا سيدي، فقال: يعجبني دعاء الأنبياء: ربنا. [الحلية: 6/320]. ونقل ابن تيمية عن مالك أنه قال: أكره للرجل أن يقول في دعائه: يا سيدي يا سيدي، يا حنان يا حنان ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء؛ ربنا ربنا. نقله عنه العتبي في العتبية. [الفتاوى: 10/285].
ووجَّه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمها الله تعالى ذلك بأن الأليق في دعاء المسألة استخدام صيغة الربوبية، وفي دعاء الثناء استخدام صيغة الألوهية.
قال ابن تيمية:
“الله” هو الإله المعبود فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله، لا إله إلا الله و”الرب” هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة. [الفتاوى: 14/ 12-13].
وقال أيضا:
فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ناسب أن يسأله باسمه الرب. وإن سأله باسمه الله لتضمنه اسم الرب كان حسنا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة فاسم الله أولى بذلك. إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الله، وإذا قصد الدعاء دعا باسم الرب. [الفتاوى: 10/ 286].
وقال ابن القيم:
وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة (اللهم) كما في سيد الاستغفار…وجاء الدعاء المجرد مصدرا بلفظ الرب نحو قول المؤمنين: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾… وسر ذلك: أن الله تعالى يسأل بربوبيته المتضمنة قدرته وإحسانه وتربيته عبده وإصلاح أمره، ويثنى عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى، وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك. [بدائع الفوائد: 2/193-194].
فالإمام مالك رحمه الله تعالى يرى أن الدعاء بلفظ الربوبية (رب، ربنا) دعاء الأنبياء فأعجبه، وكره غيره، وفسر ابن تيمية وابن القيم أن ذلك أليق بدعاء المسألة، كما أن الأليق بدعاء الثناء أن يكون بلفظ الألوهية (اللهم)، وأكدا ذلك في مواضع من كتبهم.
قلت: ما قرره الأئمة الأجلاء فائق من جهة المعنى، ولكنه يحتاج إلى مزيد نظر وتحقيق، فالظاهر أن الغالب على الدعاء الوارد في القرآن أن يكون بلفظ الربوبية ولو كان فيه ثناء على الله تعالى، وأغلبه دعاء الأنبياء عليهم السلام، وإلا ففي القرآن دعاء الملائكة، ودعاء الصالحين، وكله بلفظ الربوبية سواء اقتصر على مسألة أو سبق بثناء قبلها، ففي دعاء الملائكة ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]. وفي دعاء أولي الألباب ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191] فهذه مسائل سُبقت بثناء على الله تعالى، ومع ذلك كانت صيغة الدعاء فيها بلفظ الربوبية لا بلفظ الألوهية.
والسنة على العكس من ذلك فالغالب في أدعيتها أن تكون بلفظ الألوهية سواء كانت ثناء أم مسائل، وسواء كان دعاء أنبياء أم ملائكة أم صالحين:
ففي مسائل الأنبياء عليهم السلام دعوة الخليل لما زار أهل إسماعيل في مكة قَالَ: “اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ” [رواه البخاري: 3364].
وفي مسائل الملائكة قول النَّبِيّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا” [رواه مسلم: 1442]. ودعاؤهم لمن جلس في المسجد اللهم اغفر له اللهم ارحمه.
وفي دعاء الصالحين دعاء الثلاثة أصحاب الغار فإن كل واحد منهم سأل الله تعالى بعمل صالح وصدر سؤاله ب (اللهم) [رواه البخاري: 2215، ومسلم: 2743].
وفي دعاء الثناء على الله تعالى قبل المسألة حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – “اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ” [رواه مسلم: 2713].
وأدعية المسألة المجردة بلا ثناء أيضا جاءت في السنة بلفظ الألوهية سواء كانت مؤقتة كأدعية الخلاء والجماع والطعام والشراب ودخول المسجد والخروج منه ونحوها، أم كانت دعوات لأشخاص كدعوته – صلى الله عليه وسلم – لأنس وابن عباس وحسان رضي الله عنهم، أو دعوته على أناس كدعوته على نفر من كفار مكة، وعلى رعل وذكوان وعصية، أو كانت دعوات مطلقة وهي كثيرة جدا، وكل ما وقفت عليه منها في الصحيحين فهي بلفظ الألوهية.
وهذا يدل على أغلبية الدعاء بلفظ الربوبية في القرآن حتى أشبه أن يكون مختصا به، وعلى أغلبية الدعاء بلفظ الألوهية في السنة حتى كان مختصا بها، وليس لأجل أنه دعاء الأنبياء عليهم السلام كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى؛ لأن غالب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بلفظ الألوهية، بينما دعاء الرسل غيره مما جاء في القرآن بلفظ الربوبية، وليس التفريق بينهما لأجل الاختلاف بين دعاء المسألة والطلب كما قرره الإمامان ابن تيمية وابن القيم، فلعل ذلك لأجل النظم القرآني وبلاغته أو غير ذلك.
وعليه فلو دعا ب (رب أو ربنا) فهو دعا بالصيغة الأغلب في القرآن، ولو دعا ب (اللهم) فهو دعاء بالصيغة الأغلب في السنة، ولو جمع بينهما فقال (اللهم ربنا) فقد ورد الجمع بينهما في القرآن في دعاء عيسى عليه السلام، وورد في السنة من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة وخارجها؛ كما في الصحيحين وغيرهما، ولا فرق في ذلك بين دعاء المسألة والثناء، والله تعالى أعلم.
المصدر : الألوكة