عبر من الهجرة النبوية
الإثنين- 2 ذوالحجة1434 الموافق7 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
نعيش هذه الأيامَ أواخر شهر ذي الحجة، وهو ما يذكِّرنا بانصرام سنة هجرية، وقدوم أخرى، كما يذكِّرنا بموضوع الهجرة، التي صارتْ دلالتها في زماننا تكاد لا تخرج عن مجرَّد مغادرة أرضٍ فقيرة مجدبة، إلى بلاد يُتوخَّى فيها بريقُ حضارة، والعيش الرغيد، والحياة السعيدة.
إن الهجرة النبوية حدثٌ عظيم، قلَبَ مجرى التاريخ، وغيَّر مساره؛ حيث انتقل المسلمون من حالة الأقلية والاستضعاف، إلى حياة العزة وبناء الدولة، وانتقل العرب من حياة الحروب والثأر والمكر، إلى مجتمع التآخي والتحابب، ومن حياة عبادة الأحجار والأوثان، إلى عبادة الله الواحد الديان؛ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
لقد اشتدَّ البلاء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، ولقُوا من العنت والشدة ما تنوء بحمله الجبالُ، وكان من دعائه – صلى الله عليه وسلم -: ((ربِّ أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا)).
لقد شعرت قريش بتسرب المسلمين إلى المدينة، فاجتمعوا في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على النبي – صلى الله عليه وسلم – قال – تعالى -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، قال ابن عباس – رضي الله عنه -: “تشاورت قريش بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أَخرِجوه”، واختاروا أن يتولَّى كِبْرَ هذا الجرمِ العظيم فتيةٌ من القبائل جميعًا؛ ليتفرَّق دمه في القبائل، ويَعجِز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضَوْا بالدية وينتهي الأمر.
جاء الأمر الإلهي بالخروج من مكة، مسقط رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واختار الله – تعالى – لنبيِّه المدينةَ النبوية الطيبة:
إِذَا لَمْ نَطِبْ فِي طَيْبَةٍ عِنْدَ طَيِّبٍ بِهِ طَابَتِ الدُّنْيَا فَأَيْنَ نَطِيبُ |
وقد كانت المدينة محصنةً من جوانبها ضد العدو، قال ابن إسحاق: “وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدوُّ منها”، ولعله المقصود من قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أُرِيتُ دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين [اللابة: هي الأرض ذات الحجارة السوداء]))؛ البخاري، ودعا النبي – صلى الله عليه وسلم – بتكثير بركتها فقال: ((اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَيْ ما جعلت بمكة من البركة))؛ البخاري، وكان يقول حين يؤتى بأول الثمر: ((اللهم بارِكْ لنا في مدينتنا، وفي ثمارنا، وفي مُدِّنَا، وفي صاعنا، بركة مع بركة))، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان؛ مسلم.
ولقد اعتنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحسن الترتيب للهجرة، وأحاطها بسريَّة كاملة؛ ضمانًا لنجاحها، وهو ما يدلُّنا على حضور التخطيط والتنظيم في الإسلام، فقد اعتاد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يزور صاحبَه أبا بكر طرفي النهار، لكنه هذه المرة زاره وقت الهاجرة (وسط النهار) متقنعًا (مغطيًا رأسه)؛ ليبشر أبا بكر بقوله: ((إنه قد أُذن لي في الخروج والهجرة))، فقال أبو بكر – الذي كان ينتظر هذا الحدث بفارغ الصبر -: الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة))، قالت عائشة – رضي الله عنها -: “فوالله ما شعرتُ قط قبل ذلك اليوم، أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذٍ”؛ البخاري.
فانظر – يا رعاك الله – إلى أثر الصحبة الحقيقية المبنيَّة على الصدق، كيف تدفع إلى التضحية بالغالي والنفيس، ثباتًا على المبدأ، وتمسُّكًا بالمعتقد.
لقد عملتْ عائشة – رضي الله عنها – على تجهيز راحلتين أعدَّهما أبوها لهذا الغرض، وأعدتْ مع أختها أسماء سُفرةً في جراب (السفرة: الزاد الذي يصنع للمسافر، والجراب: وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه)، فقطعتْ أسماءُ قطعة من نطاقها، فربطتْ به على فم الجراب، فبذلك سُميت “ذات النطاقين“، فكانت مكلفة بطعام النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبيها، وهذا يدلُّنا على دور المرأة في الدعوة إلى الله، وأنها ركن ركين في تاريخ الإسلام.
ثم لحق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور، فكَمُنَا (استترا) فيه ثلاث ليالٍ، يبيت عندهما عبدُالله بن أبي بكر وهو غلام، فطن ذكي، يذهب إليهما ليلاً، ثم يصبح مع قريش بمكة، فلا يسمع أمرًا فيه كيدٌ لهما إلا أخبرهما به، وهذا دور الفتيان في الإسلام، فَكُلٌّ يُسهِم بما يقدر عليه.
أما عامر بن فهيرة – مولى أبي بكر – فكان يرعى عليهما الغنم، ويسقيهما من لبنها، ويطعمهما من لحمها.
وضمانًا لسلامة الوصول؛ اتَّخذا عبدالله بن أريقط – من قريش – مرشدًا ودليلاً، وكان على خبرة بالطريق.
وكان للشباب دورٌ مهم للغاية، فهذا علي بن أبي طالب يكلِّفه الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – بأداء الودائع التي كانت عنده للناس، ولم يكن أحدٌ بمكة عنده شيء يَخشى عليه إلا وضَعَه عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لِمَا يَعلم من صدقه وأمانته، فمهما بلغت العداوة من قريش، يبقى حقهم في أخذ أماناتهم واجبًا شرعيًّا.
ولقد آتت تربيةُ رسول الله لصحابته أُكلَها في الوقت المناسب:
قال البراء: “أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: مصعبُ بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يُقرِئان الناسَ القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في عشرين راكبًا، ثم جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحِهم به، حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء”؛ رواه البخاري، فاستقبلوه استقبال الأبطال العظماء.
ولقد بلغت تضحية الصحابة في هذه الواقعة مبلغًا عظيمًا:
– تقول أم سلمة – وهي أول امرأة مهاجرة في الإسلام -: “لما أجمع أبو سلمة الخروجَ إلى المدينة، رَحَّل بعيرًا له، وحملني وحمل معي ابنَه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسُك غلبتَنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علامَ تُترك تسير بها في البلاد؟! فأخذوني، وغضبتْ عند ذلك بنو عبدالأسد، وأهوَوا إلى سلمة وقالوا: والله لا نترك ابنَنا عندها؛ إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني”، فمكثتْ سنة كاملة تبكي حتى أشفقوا من حالها، فخلَّوا سبيلها، وردُّوا عليها ابنها، فجمع الله شملَها بزوجها في المدينة.
ولما أراد صهيب الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثُر مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟! واللهِ لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: “أرأيتم إن جعلتُ لكم مالي، أتخلون سبيلي؟“، قالوا : نعم، قال: “فإني قد جعلت لكم مالي”، فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((ربح صهيب))، والقصة في “صحيح فقه السيرة“.
الخطبة الثانية
أخرج أبو نعيم في تاريخه: “أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث، و قال بعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرِّخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم: ابدؤوا برمضان، فقال عمر: بل بالمحرم؛ فإنه منصرَف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه“.
فالتأريخ بالهجرة إيذان بتشبث الأمة بتاريخها، واعتزازها بشخصيتها الإسلامية، وتميُّزها بمنهجها وحضارتها، بدل ما نراه اليوم من افتتان بعض مثقفينا بتقليد غير المسلمين، والتشبُّه بهم في تاريخهم وأعيادهم، وأزيائهم وثقافاتهم، ولو كان في التأريخ بتاريخهم خيرٌ لفعله عمر، فقد قال ابن كثير في “البداية والنهاية”: “جمع عمر الصحابة – رضي الله عنهم – فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرَّفون به حلول الدَّين وغير ذلك، فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس، فكره ذلك، وقال قائل: أرِّخوا بتاريخ الروم، فكره ذلك”، ورسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مَنْ تشبَّه بقومٍ، فهو منهم))؛ رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.
والهجرة – أيها المسلمون – أنواع، منها:
1- هجرة المعاصي وما يُعبد من دون الله: قال – تعالى -: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))؛ متفق عليه.
2- هجرة العصاة، ومجانبة مخالطتهم: قال الله – تعالى -: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وهو الذي لا عتاب فيه.
3- هجرة القلوب إلى الله – تعالى – والإخلاص في التوجه إليه في السر والعلانية: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ متفق عليه.
المصدر :الألوكة