بين النصيحة والنقد

الإثنين- 2 ذوالحجة1434 الموافق7 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

د. محمود عبدالجليل روزن 
الحمد لله المُكرِمِ بما لا توفِّيه المحامدُ، والحقيقِ بإفرادِ فرائدِ المقاصدِ، مُنزَّهةً عن قيودِ التقليدِ وجُمودِ العوائد، والمُرتجى في الكروب والشدائدِ، وأشهدُ ألا إله إلا هو إلهٌ واحدٌ، وأنَّ محمَّدًا عبده المجتبى ورسوله المصطفى خيرُ شافعٍ وشاهدٍ، يوم تبلى السرائرُ؛ فَمُسلْسَلٌ في الحدائد، ومحفودٌ في المنازل والمقاعِدِ
.

وبعد؛ فإنَّ الإنسانَ لما كُرِّمَ بالعقل شُرِّف بين الخلائق، ولمَّا عُلِّمَ البيانَ كُلِّفَ بإقامةِ العدل والميزانِ، فإن ذهبتَ تُقوِّمُ هذا المخلوقَ ضعيفًا: وجدتَ أنَّ المرء بأصغريه: القلب واللسان، فَبَينَ رجلٍ ناهيكَ عنهُ، وآخرَ ناهيكَ به، وما ذاكَ إلا لإخلاص القلب وصِدق اللسان، فشحيحٌ جارحٌ وكريمٌ ناصحٌ.

وإنَّك إنْ صابرتَ في حَظِارِ التاريخِ؛ مُنقِّبًا عن مناقبِ الكرامِ، ومعايبِ اللئامِ؛ فَلن تحتاجَ إلى إجهادِ الفِكرِ لاستنباطِ أنَّ الذِّكرَ الحَسَنَ لأفرادِ البشرِ؛ إنَّما هو بقدرِ نُصحهم للبشرِ، وأنَّ أسبقَهُم شَأْوًا، وأرفعهم شأنًا؛ هم الأنبياءُ الـمُصطفَوْنَ الأخيارُ، أنصحُ الخلق للخلق، وأقومُ الناس بالصدقِ في إقامة الحقِّ، فذلك ظاهرٌ بيِّنٌ.

وأدِرْ نَظْرةً إلى تُخومِ ممالك الحيوان، تجدْ هذا الأعجميَّ يبذلُ نفسه مقام الحارس لإخوانه؛ يُراقِبُ عن يقظةٍ، ويكمن في تحفُّز، فإذا استشعرَ الخطرَ أطلقَ صيحةَ النذير، فَاسْتَبَقَتْهُم والمُغيرُ، ففاتوا الطلبَ بالنَّجاءِ، وخاطرَ هو بنفسه من أجل الإبقاء على سِرَابِ سِربه، وآجالِ إِجْلِه. فإن كان ذلك مما يُمتدَحُ من شأن تلك الحيوانات العجماواتِ، ففيه إيماءٌ إلى أنَّ بقاء الكلِّ بمجموعِ ما يحمله أفراده من النُّصح لبعضهم بعضًا، والخوف عليهم، والشفقة بهم، وإن كان فيه من المُخاطرة ما فيه.

وإنَّ أحداثًا كبارًا تمرُّ بها أمَّتنا، استبشر معها الـمُخلصون، فراحوا مع البُحتريِّ يرددون:

وأمَّةٌ كان قبح الجور يُسخطها 

دهرًا فأصبح حسن العدل يُرضيها

غير أنَّ النَّجابةَ لا تقاسُ بِمُدَّة الحَمْلِ وحَجْم البطن، كما لا تُقاس شدَّةُ الحَدَثُ إلى طول الحصْرِ، وكَسجنٍ تصدَّعَ فاختلطُ سُجَّانُه بمساجينِه، فلا تعرفُ السانحَ من البارحِ، ولا القعيدَ من النَّاطِحِ، وصرتَ ترى من الفوضى ما لا يخفى على رقيبٍ، ولا يحارُ فيه فهمُ البصير الأريب.

إنِ ارتفع بالنُّصح صوتٌ تلقَّاه بالهرْجِ فئامٌ من الناعقينَ، وإن طالبَ بالتريثِّ حكيمٌ، سمِعَ ما في الخمرِ، فهل لهذا الليل من آخر؟ نعمْ؛ إن أطفأتَ عن المِرجلِ ما أُوقدَ عليه من نار العداوةِ والبغضاء فلن يلبث أن يخفتَ صوت غليانه، فيعلوَ عليه صوتُ العقل، ويميز الله الخائنين من الناصحين، والخبيثين من الطيبين. وإن كُنتَ مما أقول في شكٍّ فاسمع قول ربِّك: ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14]. فكيفَ إذا كان المنسيُّ ما به قوامُ الأمم وبقاء القرى؟ يقول تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17]، فلم يرهن بقاءهم بصلاحهم، وإنَّما بإصلاحهم، وبينهما بَوْنٌ شاسع.

اقرأ أيضا  السبيل إلى الحج المبرور

إنَّ تقدُّم بلادنا وازدهارها لا يكون بمجرَّد دستور يُكتبُ؛ وإن كان أعظمَ دساتيرِ الأرض رصفًا ووصفًا، وأحظاهم بالقبول والتوافُق، ولكنَّ التقدُّم يكون بمدى نجاح الأمة أفرادًا ومجموعًا في بعث الضمير النَّقدي الذي ماتَ ففقدت الأمَّةُ ريادتها للبشريَّة، ثم يُعادُ توطينه فيكون هو الدستور الحاكم على كلِّ فردٍ من داخله، ولن يكون ذلك إلا بإعلاء شأن التناصح والتناقد المبنيّ على إرادةِ الحقِّ، ودِقَّة التشخيص، وهذه طريقٌ طويلةٌ صعبةٌ وعرة، لا محيدَ عن طَرقِها وتمهيدها وإن كلَّفتنا الأموال والسنينَ الطِّوالَ؛ لأنَّ البديلَ أخطرُ مآلًا.

إنَّ النَّاصح على خَطَرٍ عظيمٍ، ولكنَّ تاركي التناصحِ فيما بينهم على خَطَرٍ أعظمَ، ولَأنْ تأخذ على يدِ أخيكَ خيرٌ من أن يأخذَه العدُوُّ من رأسهِ، ويُقضى الأمر الذي فيه تستفتيانِ، ولَأَنْ تكونَ منصوحًا في حُريَّةٍ خيرٌ من أن تكون ممدوحًا في سِجْنٍ، وإنَّ سجن الدُّنيا – وكُلُّها سجنٌ – لا يُتجاوزُ إلى نعيم الآخرةِ إلا بدليلٍ وحَادٍ، ويا حبَّذا الركبُ الكرامُ لا يتخلَّوْنَ عن ضعيفهم، فلا يُسلمونه لضعفه، ولا يتباطئون به، وإنَّما يحملونه على أن يتجاوز كبوته، فيسبقون جميعًا.

هذا توصيفٌ دقيقٌ لما نحتاجه الآن، يستوي في الحاجة إليه كلُّ إنسانٍ، وعلى رأسهم المنتسبون إلى قافلة الدَّعوة، وذلكَ أنَّ بعضَ مَنْ منَّ الله عليهم فنشأوا في طاعته يتَّخذون من مُخالفيهم في الفكر أعداءً – وإن كانوا مسلمين مثلهم – ولو أنصفنا من أنفسنا لقلنا: إننا نحن المُقصِّرون، فإنَّ أخواننا أحقُّ بدعوتنا من غير المسلمين؛ لأنَّهم من رأسِ المال، وغيرهم رِبحٌ، وفي وقت الأزمات؛ تصير المحافظة على رأس المال أولى من استهدافِ الربح. فبدلَ صرفِ الطَّاقات في الغُلَوَاءِ؛ يجبُ أن نُعيدَ توجيهَها في البناءِ، ولن يكون ذلك إلا من خلال نقد الذاتِ شكلًا ومضمونًا، ومن مُكوِّناتِ هذه الذَّاتِ إخوانُنا المختطَفون فكريًّا، وهؤلاء لا يصحُّ أن نُبادئهم البترَ وإن بادؤونا، ولا أنْ نقيمَ من أنفسنا حكَّامًا على سرائرهم وإن فعلوا، فلا شرعُنا الذي نُصاوِلُ من أجل إقامته يُبيحُ لنا ذلك، ولا نحنُ أهلٌ لذلكَ.

اقرأ أيضا  نهج الرسول في الدعوة إلى الله

وعلى الجانبِ الآخر؛ فإنَّ من أعجزِ العجزِ أن نمَلِّحَ الوجهَ القبيحَ ببعض البهرجِ البرَّاقِ، فنكتفي من الجَمال بالقشرةِ، فَرحينَ بـمُسميَّاتٍ فضفاضةٍ تُنسينا شرفَ الانتساب إلى الدَّاعين إلى الله على بصيرةٍ، وما أكثر الألقابَ والأوصافَ التي يخلعها الإعلامُ على بعضنا فيُغريهم بأنْ يُفسِّروا كُلِّيَّاتِ الدين تفسيراتٍ متعجِّلةً إمَّا بحسنِ نيَّةٍ طلبًا لجمع الشمل؛ فيُسيئون من حيث يظنون أنهم يُحسنون، وإمَّا عن شهوةٍ طلبًا للتصدُّر والترؤُّس؛ فيُسيئون مع سَبق الإصرار والترصُّد، فيُقالُ: كُنْ كُلَّكَ أو دَعْ كُلَّكَ! أإنْ تصدَّرْتَ عاهدتَّ على ضمانِ تفلُّتِ كلِّ مُتفلِّتٍ بِاسم الحُرِّيَّةِ، وإن تقهقرْتَ رجَعْتَ إلى حيثُ ألقتْ رحلَها أمُّ قشعمٍ؟! 

وإنَّ من الخَطَرِ – كذلك – أن نَقِفَ عند هَدْمِ القبيحِ، ولا نُشَيِّدَ المليحَ، ونسكبَ الدواءَ الفاسدَ، دون أن نَصِفَ الترياقَ الشافي، فنصيرَ كالـمُنبتِّ لا أرضًا قطعَ ولا ظهرًا أبقى، ونرضى بوصف النُّقَّاد إذ رأينا أنَّه وَصْفٌ لا يحتاجُ من المؤهِّلاتِ إلا أن يكون صاحبه ممَّن يُجيد السّبَّ والقذفَ واستكداد الصوتِ ورَفعَ العقيرةِ بالهُراءِ! وقد قيل وصدق القائل: أنْ تُشعل شمعةً واحدةً خيرٌ من أن تلعنَ الظلام ألف مرَّة.

إنَّ الله لم يَرْضَ من الرُّسُلِ ولا مِن أتباعهم الرَّبَّانيَّين بأقلَّ من البلاغِ المبين، ولم يُطالبهم بأكثرَ منه، فمَن جاء بالبلاغ المبين فقد أدَّى الأمانةَ وبلَّغ الرِّسالةَ وأقام الحُجَّةَ وَوَصَفَ المحجَّة. وإنَّ الله / قد فَطَرَ النَّاس – كلَّ النَّاس – على فِطْرةِ الإيمان، وأَخَذَ العهد عليهم بالتوحيدِ: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172]، فكُلُّ إنسانٍ فيه من هذه الفطرةِ نصيبٌ، غير أنَّ الشياطين اجتالتِ البعضَ فحرفتهم عنها: أحلَّت لهم الحرام، وحرَّمت عليهم الحلال، وزيَّنتْ لهم الباطلَ وقبَّحت الحقَّ. فإن وافقَ البلاغُ المبينُ انحرافًا يسيرًا لم يلبثْ أن يرُدَّه ويُقوِّمه، فإن خرج البلاغُ المبينُ عن حدِّه زادَ المنصوحَ مرضًا إلى مرضه، وإن جاء البلاغُ المبينُ على أكمل وجهه وأتمِّ وصفه؛ فلا يبعد في قدرة الله أن يُلين أشدَّ القلوب قسوةً وأمعنها جفوةً. فآل الأمرُ كلُّه -بعد توفيق الله – إلى الناصحِ نفسِه: إن وُفِّقَ كان كالغيثِ حيث وقعَ نفعَ، لم يَشِذَّ عن ذلك قفرٌ ولا بلقعٌ.

اقرأ أيضا  الميل إلى حسن الظن بالناس

من أجل رسم الطريق وتجليته – بإذن الله – كان هذا الكتاب، وفيه ثلاثة أبواب:

الباب الأوَّلفصولٌ بين النصيحة والنقد؛ وفيه وقفاتٌ مهمةٌ عن معنى كلٍّ، والفرق بينهما، وعن منزلة النصيحة من الدين، وعلاقتها بكُبريات شُعَبِهِ؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وبيان سبق الإسلام إلى تربية ما يُعرف اليوم في الأدبيات العلمية والفلسفية بـ(الضمير النقديّ) للشعوب، وأهمية النقد الذاتي وعلاقته بالتوبة النصوح، وكيف تكون النصيحة وافيةً شكلًا ومضمونًا، وكيف أنَّ السمع والطاعةَ في الإسلامِ مبنيَّان على النصيحة لا على التقليد والانقياد الأعمى، ومَنْ هُنَّ ضرائرُ النَّصيحةِ اللاتي لا يَزَلْنَ بها حسدًا يُقَبِّحْنَ وجهها، وينتحلْنَ صورتها، وغير ذلك كثيرٌ.

الباب الثانيوفيه تشخيصٌ لِصُوَرٍ مرفوضة من النقد، تناولتُ فيه أشكال الانحرافِ بالنقد عن منهاجه الموصوف وطريقه المرصوف، وكيف أنَّ النقد أداةٌ للهدمِ كما هو أداةٌ للبناءِ، وإنَّما يتحدَّد ذلك حسب مكان الاستخدام وطريقته.

وأمَّا الباب الثالثفهو تناوُلٌ لطيفٌ لحديثِ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن مرآة المؤمن»، فيه إبحارٌ شائقٌ، واستشفافٌ رائقٌ – بإذن الله – لدُرَرِه الأبكار، ومَبانيه العِذابِ، ومعانيه العُرُبِ الأتراب.

وقد اقتصرتُ في تخريج الأحاديث؛ فإن كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيتُ بالعزو إليه، وإن كان في غيرهما ذكرتُ التخريج مختصرًا من كُتب الإمام الألباني -، ولم أُطل النَّفَسَ إلا فيما يحتاج ذلك. 

فَدُونَك هذه الوُريقاتِ؛ فإنَّها مُفعمَةٌ بالنُّصحِ، مُذلَّلة القطوفِ، دانيةُ الجَنَى، فإن وَافَتْكَ منها مُلْحَةٌ؛ فلا تنسَ أخاك بدعوةٍ بظهر الغيب مِنْحةً، وإن وجدتَ منها ما يستحقُّ ادِّراكًا بالصَوبِ أو سترًا للعَيبِ فكُنْ خيرَ آخذٍ، والله وليُّ التوفيقِ والإنجاح، وهو أهل الإخلاص والإصلاح.

المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.