خطة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تشريعه
الجمعة 13 ذوالحجة1434 الموافق18 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
خطة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تشريعه
في الشهر الذي يبتهج فيه العالم الإسلامي بذكرى مولد رسول الله محمد بن عبد الله – نرى أنه من الحق علينا أن نلتف حول هذا السراج المنير من كلية ناحية من نواحيه، لنلتمس الهدى من نوره، ونتلقى الدروس النافعة والعظات البالغة من سيرته وشمائله، ونستلهم وسائل النجاح والرشد من خططه، في حربه وسلمه، وفي تشريعه وقضائه، وفي كل ما سنه من الشئون العامة، فهو – صلى الله عليه وسلم – أسوة حسنة، وقدوة لا يضل من اهتدى به، مصداق قول الله سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾.
والناحية التي أخصها بالبحث فيها من شعب هذا النور المحمدي، هي خطته – صلى الله عليه وسلم – في تشريعه، وفي قضائه وإفتائه. فقد شرع – صلى الله عليه وسلم – أحكاما في وقائع عديدة، وقضى في خصومات كثيرة، وأفتى من استفتوه وأجاب من سألوه، وكان له في تشريعه وقضائه وإفتائه منهاج قويم يسير عليه وأساس متين يبني عليه، وهدف صالح يرمي إليه، وقبل أن أبين جملة هذا المنهاج، وأظهر هذه الأسس أذكر بالإجمال مقدمتين:-
الأولى: كانت حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من حين بعثته إلى حين وفاته فترتين متمايزتين؛ فالفترة الأولى: هي حياته بمكة وهي اثنتا عشرة سنة وستة أشهر بالتقريب من بعثته إلى هجرته. في هذه الفترة كان الإسلام في نشأته والمسلمون أفراداً قلائل مستضعفين، لم تتكون منهم أمة، ولم تكن لهم شئون ودولة وكان أكثر همّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأقصى جهوده في هذه الفترة موجها إلى الدعوة إلى توحيد الله. وهدم صروح الشرك والوثنية والقضاء على وأد البنات وإكراه الفتيات على البغاء. ونحو ذلك من منكر الأخلاق وسيء العادات فكانت هذه الفترة فترة وضع الأساس، ومقاومة مكايد أعداء الحق وأنصار الشرك، ولم تكن فترة تشريع عملي في بيع، أو رهن، أو مداينة، أو زواج أو طلاق، أو إرث، لأن التنظيم العملي بالقوانين المدنية والتجارية والجنائية وغيرها إنما يكون بعد وضع الأساس، وتدعيم العقيدة وتأمين الدعوة إلى الدين.
أما الفترة الثانية: وهي حياته – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة من حين هجرته إلى حين وفاته وهي عشر سنوات بالتقريب. فقد عز فيها الإسلام وقوي شأن المسلمين وتكونت منهم أمة، وصارت لهم شئون دولة، فاتجهت جهود رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى تشريع الأحكام، وسن القوانين التي تنظم علاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وعلاقة أفراد الأمة بغيرها من الأمم، في السلم وفي الحرب. وكانت هذه الفترة الثانية فترة التشريع العملي والتقنين، ومن أجل هذا يرى قارئ السور المكية مثل يونس والرعد والفرقان ويس، أن أكثرها في العقائد والأخلاق والقصص، ولا يجد فيها آيات في التشريع العملي، ويرى قارئ السورة المدنية مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور. أنها ملأى بآيات التشريع العملي في كل فرع من فروع التقنين. ولقد قال بعض أصحاب رسول الله: كنا بمكة إنما ندعى إلى عقيدة وخلق.
المقدمة الثانية: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا استفتى أو سئل أو عرضت عليه خصومة ليقضى فيها اتجه إلى الوحي الإلهي، فإذا أوحى إليه بحكم ما استفتي فيه أو سئل عنه أو عرض عليه من الخصومات، حكم به، كما يدل على هذا قوله سبحانه: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾، ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾، وإن لم يوح إليه بحكم، عرف أن الله ترك الأمر لاجتهاده، فاجتهد وأفتى أو قضى بما أداه إليه اجتهاده.
فإن أصاب أقره الله، وإن أخطأ رده إلى الصواب، وأوحى إليه بالحكم الحق، كما يتبين هذا من الحكم في أسرى بدر فإن المسلمين لما أسروا نيفاً وسبعين من المشركين وأراد بعض ذوي الأسرى أن يأخذوهم في مقابل فدية يعطونها المسلمين، وشاور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه فيما يفعل، وكان رأي أبي بكر قبول الفدية، ورأي عمر رفض الافتداء، ومال رسول الله إلى رأي أبي بكر وأخذ الفدية، فالله سبحانه بين له خطأ هذا الأخذ بقوله: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
وكان تشريع الرسول – صلى الله عليه وسلم – تارة تبييناً وتفصيلا لحكم شرعه الله مجملا في كتابه الكريم وتارة حكمًا في وقائع لم يرد نص على حكمها في الكتاب الكريم.
فمن النوع الأول: تبيينه إقامة الصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والربا، وغير ذلك مما ورد في القرآن حكمه مجملا وبينه الرسول بقوله أو عمله، فهذا تشريع تبييني، وقد خوله الله لرسوله بقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ والرسول في هذا التشريع التبييني إنما يصدر عن إلهام الله له. ولهذا قال الإمام الشافعي: “إذا بيَّن الرسول حكما شرعه الله فعن الله بيَّن“.
ومن الثاني: حكمه بتحريم لبس الحرير للرجال، وتحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها، وتحريم كل ذي ناب من الطيور أو السباع. وغير ذلك مما لم يرد في القرآن نص على حكمه.
خطة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تشريعه:
من استقرأ تشريع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العبادات أو المعاملات أو أي نوع من أنواع الأحكام، يتبين أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت له في تشريعه خطة قويمة تقوم على عدة أسس:
أولها: مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم، ومسايرة هذه المصالح في تطورها وتبدلها. فكان هدفه في تشريعه تحقيق مصالح الناس وحاجاتهم، بجلب النفع لهم أو دفع الضرر ورفع الحرج عنهم، وكان يبدل تشريعه إذا تبدلت المصلحة.
فمن الأدلة على أنه قصد بتشريعه جلب النفع أو دفع الضرر، تعليله أحكامه بما يرجع إلى جلب النفع أو دفع الضرر، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم“.
ولما نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه علل نهيه بقول: “أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه” ومنها أنه لما حرم ما حرم من العقود أو الأشياء استثنى أنواعا منها لحاجة الناس إليها. فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع المعدوم، ورخص في السلم، والسلم بيع مبيع آجل معدوم وقت البيع بثمن عاجل، ولكن الناس تعارفوه لحاجتهم إليه من غير أن يؤدي إلى نزاع، ولهذا رخص فيه الرسول وأباحه، ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الشيء بجنسه متفاضلا، ورخص في العرايا، والعرايا بيع الثمر الجاف بالرطب على النخل، فهذا بيع لا يخلو من تفاضل البدلين ولكن الناس تعارفوه لحاجتهم إليه من غير أن يؤدى إلى نزاع، فلهذا رخص فيه الرسول وأباحه. ولما قال رسول الله في مكة: لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها، قال له عمه العباس: إلا الاذخر يا رسول الله فقال: إلا الاذخر، لأنه نوع من الحطب لا يستغني عنه في عمل السقوف للبيوت. وفي السنن التشريعية أمثلة عديدة تدل في صراحة على أن الرسول ما قصد بأحكامه إلا تحقيق مصالح الناس.
ومن الأدلة على أنه ساير المصالح وغيّر تبعاً لتغير المصلحة أنه حرم بعض الأشياء حين كانت المصلحة في تحريمها ثم أباحها حين كانت المصلحة في إباحتها فقد نهى عن زيارة القبور ثم أباحها قال: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة” ونهى عن ادخار لحوم الأضاحي ثم أباحها وقال: “إنما نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادخروها” والدافة جموع وفدت على المدينة في أيام عيد الأضحية. فرأى الرسول المصلحة في أن يوسع المسلمون على ضيوفهم فحرم عليهم ادخار لحوم الأضاحي، فلما انصرفوا أباح لهم ادخارها.
وثانيها: التيسير والتخفيف واجتناب ما فيه المشقة والحرج. والشواهد على هذا من سنن الرسول عديدة. فقد ورد في صحاح السنة عن عائشة قالت:
“ما خُير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما” وقال – صلى الله عليه وسلم -:”لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة” وفي حجة الوداع سأله بعض المسلمين عدة أسئلة بشأن تقديم بعض المناسك وتأخيرها فقال بعضهم: رميت هذه الجمرة قبل هذه الجمرة وقال آخر غير هذه فكان جوابه لكل من سأله: لا بأس، لا بأس، وقال لمن نذر أن يصوم قائماً في الشمس: أتم صومك ولا تقم في الشمس: وقال لمن حلف على شيء ورأى غيره خيراً منه:
“احنث في يمينك وافعل الذي هو خير ثم كفر” وقال: “ليس من البر الصيام في السفر” وقال: “إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه” وفي حجة الوداع لما طاف هو وأصحابه طواف القدوم وسعوا بين الصفا والمروة أمر من لم يكن ساق الهدى أن يتحلل من إحرامه، ولما وجد من هؤلاء من يرغب في الإشفاق على نفسه وبقائه على إحرامه قال: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولولا أن معي الهدى لأحللت“.
وثالثها: التقليل من تشريع الأحكام، فلم يشرع رسول الله حكما لواقعة فرضية ولم يفتح لأصحابه باب السؤال عن حكم واقعة فرضية. بل كان تشريعه على قدر الحاجة، وفي الوقائع والخصومات التي وقعت. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وقال: “أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته” وقال: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها” لأن الله سبحانه قضت رحمته بأن جعل الأصل في الأشياء الإباحة بقوله عز شأنه. ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيْعَاً ﴾ وقوله: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ فما دام سبحانه لم يشرع حكما في شيء من الأشياء فحكمه الإباحة وهذا توسعة على الناس ويسر بهم. فالتقليل من التشريع فيه رحمة ويسر، ورفع الحرج عن المسلمين في عصورهم المختلفة، وبيآتهم المتباينة ليجدوا سعة في أن يسنوا ويقننوا ما يلائم أحوالهم ويحقق مصالحهم من غير أن يصادموا تشريعاً لله أو الرسول.
ورابعها: المشاورة والوقوف على آراء أولي الرأي من صحابته. ولهذا لما عرض أمر افتداء أسرى بدر سأل أبا بكر عن رأيه، وسأل عمر عن رأيه، وحكم بما رجح عنده، ولما نهى عن قطع أشجار مكة وحشائشها وقال له عمه العباس إلا الاذخر، أخذ برأيه. وقال إلا الاذخر، فكان يقف على آراء ذوي الرأي ولا يستبد بأمر لم يوح إليه بحكم فيه، وكانت هذه الروح الشورية تتجلى في أكثر تشريعه الحربي والدنيوي، وتتجلى فيما يشير به على صحابته، قال له علي بن أبي طالب: الأمر ينزل بنا ليس فيه نص في كتاب الله ولم تمض منك فينا سنة؟ فقال له: اجمعوا له العالمين ولا تقضوا فيه برأي واحد: وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى أن يكون التشريع للجماعة لا للفرد، ولهذا قال. ولا تقضوا فيه برأي واحد وإذا كان هو صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم الملحوظ برعاية الله في اجتهاده وتشريعه لم يستبد بالأمر. واستشار وأصحابه في أحكام بعض الوقائع. فغيره أولى بأن لا يستبد بالأمر. ولو سار المسلمون على هذا السنن القويم. سنن التشريع الجماعي ما وصل الاجتهاد إلى ما وصل إليه من الفوضى، وما بلى المسلمون بوقوف حركة التشريع وجموده، وسد باب الاجتهاد.
لعل إلمامة بالجزع ثانية يدب منها دبيب البرء في العلل |
المصدر: مجلة كنوز الفرقان؛ العددان: (الخامس والسادس)؛ السنة: (الثالثة)