بين الأدب والدين

السبت 14 ذوالحجة1434 الموافق19 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).

إبراهيم علي أبو الخشب 

بين الأدب والدين وشائج تُعتبر من أمتن الروابط، وأقوى الدعائم؛ وذلك لأن رسالة كليهما السمو بالإنسانية، والنهوض بها إلى المستوى اللائق، وليس هذا من الكلام المرسل على عواهنه، دون أن يعتمد على أساس من الواقع، أو دليل من التاريخ الصحيح؛ لأنه إذا كان الأدب قد حمَل لواء الثورة على العبودية في فرنسا زمنًا ما، وحفَّزها على التحرر والمطالبة بالحقوق التي سماها الكُتاب – أمثال: “فولتير، ومنتسكيو، ورسوبالحرية والإخاء والمساواة، فإن الدين كذلك لم يكن في وقت من الأوقات سوى معنًى أشمل لهذه الأمور كلها، وهذا هو السر في أن الله – سبحانه وتعالى – كان يبعث بالرسول على فترة من الرسل؛ ليأخذ بيد قومه من الضلال والعمى، والغواية والتخبُّط، والجهالة والطيش، فإذا هم يتطوَّرون إلى أحسن الأحوال، ويعودون فيما بين طرفة عين وانتباهتها ملائكةً للرحمة تمشي على الأرض.

 

وبعض الناس يُعرِّف الأدب بأنه الأخذ من كل فن بطرفٍ، وهو من الحدود التي لا يأباها الدين ولا يُنكرها، بل يدعو إليها في تعاليمه وأحكامه، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على النظر والاعتبار، والفكر والتأمُّل، والفقه والمعرفة لا في ناحية خاصة، ولا في فنٍّ بعينه، ولكن في كل ما يدخل تحت معاني الفقه وحقائق المعرفة، حتى ولو كان ذلك سحرًا وشعوذة، وقد ثبت أنه مدَح النصارى بأنهم أقرب مودة إلى المؤمنين، وعلَّل ذلك بأن منهم قِسيسين ورُهبانًا، وقال المفسرون في التعليق على هذا: إن العلم ينفع مهما كان نوعه وصفته، ولا يسوي بين عبادة العالم وعبادة الجاهل، وما أظن ذلك كله إلا دعوة صريحة إلى الأخذ من كل فن بطرف، أما مَن يرى أنه التهذيب والتحلي بجليل الخصال، وأكرم الشيم، فـ:

ليس الأديبُ أخا الروا 

ية للنوادر والغريبْ 

ولشعْر شيْخ المُحْدَثي 

ن أبي نُوَاسٍ أو حبيب 

بل ذو التفضُّل والمُرو 

ءَة والعَفاف هو الأديب 

اقرأ أيضا  الهجرة .. قصة بناء دولة النبي صلى الله عليه وسلم

 

فإنه يمشي مع النبوة في سَننٍ، ويُقرَن وإياها في قرن، ولعل من هذا المعين الحديث: ((أدَّبني ربي فأحسَن تأديبي))، وكان عمر – رضي الله عنه – لا يحفل من الشعر إلا بما يُحفِّز إلى مجد، ويُغري بحمدٍ، ويُحصِّل فضيلة، ويُباعد رذيلة، وكان يقول: “علِّموا أولادكم الرماية، وركوب الخيل، ورواية الشعر“.

ولولا سبيلٌ سنَّها الشعر ما درَى 

بُغاة العُلا من أين تُؤتَى المَكارمُ 

 

ونحن بعد هذا لا نشك في أن الأدب والدين يمتحان من قليب واحد، ويَهدفان إلى طريقة مُثلى، ويدعوان إلى كلمة سواء، والأدب إذا امتاز بسحر القول، وخلابة التعبير، وروعة الصياغة، وحُسن الأداء، وجودة المنطق – فإن هذه كانت بعض المعاني التي حملت كفار مكة على أن يصفوا الكتاب العزيز بكونه سحرًا، حتى لقد قال أحدهم: إنا لنعرف مواضع السجود منه كما نعرفها من القصيدة، وربما يَهدينا هذا إلى أن الدعوة إلى الدين ما لم يكن أهلها من اللسانة؛ بحيث يشرفون بأدبهم، ويُهيمنون بأسلوبهم، وتَلتفت الأمة إلى صوتهم – كانوا كحاطب ليلٍ، أو غثاء سيلٍ، ولم يبعث الله صاحب الرسالة أفصحَ أهله لسانًا، وأغدقهم بيانًا، وأبرعهم حُجة، وأقومهم مَحجة – إلا مراعيًا في ذلك أن من تمام آلتِها هذه الأمور؛ ولذا فإن موسى حينما أحسَّ بعجزه وقصور جهده، طلب منه – سبحانه – أن يشد عَضُده: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34].

 

ونعلم فيما نعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له شعراء يلتفون حوله، وينافحون عنه، ويُؤيدون كلمته، وروينا من حديثه لحسان بن ثابت الأنصاري: ((قل ورُوح القُدس يُؤيدك))، وكان الخلفاء من بعده يُجيزون على الشعر ويُقربون أهله.

اقرأ أيضا  إدريس عليه السلام

 

وفي الحق، إن أي واعظٍ يحاول أن يُرَغِّب في أمر، أو يُنفِّر من سواه، إذا لم يكن من هؤلاء الموهوبين قوةَ إفصاحٍ، وجمالَ تصويرٍ، ودِقةَ دبيبٍ إلى مسارب النفوس، ومجالي الأفئدة، وخلجات الإحساس، لا يحصل من سَعيه على طائل أو يعود بفائدة، ويمتاز الشعر من بين الأساليب الأدبية بنوعٍ غريب من التسلُّط على أعراف الضمائر، وأغلب الظن أن ذلك يرجع إلى ما يكون فيه من موسيقا، وهي تتساوق مع الفِطَر، وتُساير الطبائع، وتتهادى مع العواطف والوجدانات؛ ولهذا استُخدِم في إثارة الهِمم، وإلهاب الحفائظ، وإيقاد نيران العداوة والبغضاء، وحسبك أن تَستعرض في مُخَيلتك قصة هذا البيت:

قَيَّدوني غَللوني ضَربوا 

موضعَ العِفَّة مني بالعصا

 

لترى مدى ما وصلت إليه الحرب من إراقة الدماء، وتفريق الأهواء، وبذْر بذور الشحناء، وهل يبلغ القائل إذا ما أراد لقوم أن يعتبروا بحاله، وسوء مآله، إذا أسرف في الشهوات، ولبَّى داعي المَلذات – ما يبلغ أبو نواس في قوله:

ولقد نَهزت مع الغُواة بدَلْوهم 

وأسَمت سَرح اللهو حيث أسامُوا 

وطلَبت ما طلَب امرؤ بشبابه 

فإذا عصارة كلِّ ذاك أثامُ 

 

وقد دأبنا على أن نسمع من المبشرين والملاحدة مطعنَ أن الدين الإسلامي قام على الرهبة لا على الرغبة، والسيف لا الحُجة والمنطق، وإذا ذهبنا نتلمَّس دفعًا لهذه الشبهة، لم نسمع من الإجابة ما يشفي الغُلة، أو يُذهب حرارة الظمأ، ولكن حين يعرض لها “شوقي” في نهج البردة بالرد، نَستروح منه ما استروَح يعقوب من قميص يوسف لَما أُلقي على وجهه:

قالوا: غزوت ورُسل الله ما بُعثوا 

لقتْل نفسٍ ولا جاؤوا لسفْك دمِ 

جهلٌ وتضليل أحْلامٍ وَسفْسطة 

فتَحت بالسيف بعد الفتْح بالقلَم 

والشرُّ إن تَلقه بالخير ضِقت به 

ذرعًا وإن تلقه بالشر يَنحسمِ 

سلِ المسيحية الغرَّاء كم شَرِبت 

بالسيف من شهوات الظالم الغَلِمِ 

طريدة الشِّرك يُؤذيها ويُوسعها 

في كل حين قتالاً ساطع الحدَمِ 

لولا حُماة لها هبُّوا لنُصرتها 

بالسيف ما انتفَعت بالرِّفق والرُّحمِ 

عَلَّمتهم كلَّ شيء يَجهلون بهِ 

حتى القتال وما فيه من الذِّممِ 

دعوتهم لجهادٍ فيه سُؤدَدهم 

والحرب أُسُّ نظام الكون والأُمم 

لولاه لَم نَرَ للدولات في زمنٍ 

ما طال من عمدٍ أو قرَّ من دعَمِ 

اقرأ أيضا  التسامح وإذكاء الروح الإيجابية

 

وهي أبيات على قلتها توحي بمجلدات، وتُلهِم بآيات بيِّنات، وترد الدعوى ببرهان، لا يكفي في مثله ألف سبحان، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14]، ويُخيَّل إلي أن الآية: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]، لم تَقصد إلى اللطف والرفق، بقدر ما تَقصد إلى حلاوة المَبنى وطلاوة المعنى.

 

وبعدُ، فإنا نعرف لوزارة الأوقاف بواكير طلائع الزهر، سقاه الوسمي، وهبَّ عليه الهواء النَّدي، فإذا هو ينفح عطرًا، وينفث سحرًا، أولئك هم شباب من الخطباء، يُذكروننا بفجر الخلافة، ويُساقوننا بصبابه السُّلافة، إذا خطبوا خَلبوا وأجهزوا على ما طلبوا، فقهَروا وغلبوا، كأن ما يخطبون به إلهام، أو أماني أحلام، وما هو إلا سبائك الذهب، هي في اعتبارهم خُطب، وفي اعتباري دولة الأدب، رفَع الله بهم لواءَ دينه، وراية يقينه، إنه تعالى سميع مجيب الدعاء!

المصدر : الألوكة

Comments: 0

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.