في خلق الإنسان
الإثنين 23 ذوالحجة1434 الموافق28 تشرين الأول / أكتوبر.2013 وكالة معراج للأنباء (مينا).
محمد محمود مصطفى
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].
يا إخْوةَ الإسْلامِ:
هذه الآيةُ تتكلَّمُ عن المادَّة التي خُلِق منها الإنسانُ، وعن أطوارِ خَلقِه في رَحِم أمِّه، وعن أطوارِ خلقِه وحياتِه بَعدَ خروجِه من الرحمِ.
والقرآنُ عندما يتكلَّمُ عن المادَّةِ التي خُلِقَ الإنسانُ منها يُعبِّرُ عنها أحيانًا بالماءِ، فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54].
وتارةً بالتَّرابِ، فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الحج: 5].
وتارةً يُعبِّرُ عنها بالطينِ، فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12].
وتارةً يَصِفُ هذا الطينَ بأنَّه لَازِبٌ، فقال: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11].
وتَارةً يُعبِّر عنها بالصَّلْصالِ، فيقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26].
ثُمَّ تارةً يُعبِّر عنها بالأرضِ فيقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].
وتارةً يُعبِّر عنها بالنُّطفَةِ: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77].
وتارةً يُعبِّر عنها بالماءِ الدَّافقِ؛ فيقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾ [الطارق: 6، 7].
وتارةً يُعبِّر عنها بالعلقِ: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 2].
كل هذه الآياتِ تتكلَّم عَنِ المادةِ التي خُلِقَ منها الإنسانُ ولا تَعارُضَ ولا تَضارُبَ فيما بيْنها؛ فالماءُ هو أصلُ الإنسان الأوَّل، والتَّرابُ هو الأصلُ الثاني، وإذا أُضيفَا إلى بعضِهما واخْتلطَا صارَا طِينًا، وإذا ضُرِب في بعضِه صار حمأً مسنونًا، وإذا تُرِك حتى يَجفَّ صار صَلصالاً.
مِن أجلِ هذا كان الماءُ – وهو الأصلُ الأوَّلُ للإنسانِ – الأصل في الطهارةِ، فإنْ تَعذَّر وجودُه جُعِل الترابُ – وهو الأصلُ الثاني للإنسانِ – وسيلةً للطهارةِ.
وإذا كان اللهُ – سبحانه وتعالى – قد أخبَرَنا بأنَّ الإنسانَ خُلِقَ مِن طينٍ، أو مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، أو طِينٍ كالصَّلصالِ، أو مِن الأرضِ فهذا هو ما دلَّ عليه العلمُ الحديثُ مِن أنَّ النُّطفةَ في كلٍّ مِن الذَّكرِ والأُنثى، التي يتكوَّن منها الجنينُ هي وليدةُ عَمليَّةِ التغذيةِ التي يَتغذَّى بها الإنسانُ ومَنشؤُها الترابُ.
فالترابُ أَخْرجَ النباتَ وأكَلَ منه الحيوانُ والإنسانُ، وكما يأكلُ الإنسانُ النباتَ الخارجَ مِن الأرضِ، فإنَّه يأكلُ أيضًا لحومَ الأنعامِ، ثم يتحوَّل الطعامُ بعد أكلِه إلى دمٍّ، والدَّمُ يتحوَّلُ بعضٌ منه إلى نُطفةٍ، ومِن النُّطفةِ يتكوَّنُ الجنينُ.
وقال بعضُ علمائِنا: إنَّ آدَمَ هو الذي خُلِق من الترابِ والماءِ والطينِ، أمَّا بَنُوهُ فقد خُلِقُوا من نُطفة قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
أمَّا عن أطوارِ خَلْقه في رحِم أُمِّه، فاعرف أولاً حجمَ الرحمِ كما قال الأطباءُ: إنَّ طولُه 7سم، وعرضُه 5سم، وسمكُه 5ر2سم، وفي هذا الرَّحمِ الصغيرِ الحجمِ يَنمو الجنينُ وتتمُّ فيه الصورةُ الكاملةُ للإنسانِ، كما قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 6]!
تَدخلُ النطفةُ الرحمَ، والتي هي مجموعةُ الخلايا الحيَّة التي تَصدرُ مِن الرجلِ، فتعومُ وتسبحُ في السائلِ الموجودِ بالرحمِ ثم تتسابق فيما بينها؛ لتنالَ خلية الأنثى الواحدةِ، وإذا اخترَق أحدُ هذه الحيواناتِ بويضةَ الأنثى امتزج، بها وهذه أوَّل عمليةِ لتكوينِ الجنينِ[1].
تَتحوَّلُ هذه النُّطفةُ بعدَ أربعين يومًا إلى عَلقةٍ، والعلقة: هي مجموعةُ الخلايا التي تَنقسمُ إليها البويضةُ بعدَ تلقيحها، فيظهرُ على سَطحِها بروزاتُ تصلُها بالرَّحِمِ فتعلقُ به؛ مِن أجْلِ هذا سمَّاها القرآنُ: علقةً.
وبعد أربعين يومًا تتحوَّلُ العلقةُ إلى مُضغةٍ، وقد سمَّاها القرآن مُضغةً لشدَّةِ الشَّبَه بينها وبيْن اللحمِ الممضوغ، وهنا يبدأُ دورُ التكوينِ وتظهرُ آثارُ العظامِ، وتظهرُ العَضلاتُ.
ويصوِّرُ الحقُّ – سبحانه وتعالى – هذه المعاني فيقول: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [الإنسان: 2] أي: ماء الرجلِ، وماء المرأةِ إذا اخْتلَطا ببعضهما سُمِّيا أمشاجًا.
ويقولُ – سبحانه وتعالى – ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ *أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾ [الشورى: 49 – 50]، ويقولُ – أيضًا -: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾ [القيامة: 36 – 39].
يُقرِّرُ القرآنُ هنا قضيةَ جنس المولودِ سواءٌ أكانَ ذَكرًا أو أُنثى، فالمُحقِّقُ لذلك هو اللهُ أولاً.
ثانيًا: أنَّ الله جعَل هذا الخَلقَ من ماءِ الرجلِ وماءِ الأُنثى.
ثالثًا: أنَّ المني الذي يُمنى هو ماءُ الرجلِ، فالسائلُ المنويُّ الذي يخرج مِن الرَّجلِ يحملُ صبغاتٍ أُنثويَّة وذَكريَّة معًا، فإذا كان الحيوانُ المنويُّ الواحدُ الذي يَدخُلُ البويضة يحوي صبغاتٍ ذَكريَّة كان الجنينُ ذَكرًا، فالضميرُ الذي في قولِه – سبحانه وتعالى -: ﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ﴾ [القيامة: 39]. راجعٌ إلى ماءِ الرجلِ.
ثُمَّ انظُر إلى العنايةِ التي تُلاحظُ في الرَّحمِ؛ قال تعالى: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ [الزمر: 6].
وفي ذلك معجزةٌ عِلميَّةٌ أخبرَ اللهُ بها؛ فالجنينُ له ثلاثةُ أغشيةٍ سمَّاها القرآنُ ظلماتٍ، مِنها الغشاءُ المنباريُّ، وهذه الأغشيةُ لا تَظهَر إلاَّ بالتشريحِ الدقيقِ، وتَظهر وكأنَّها غشاءٌ واحدٌ للعينِ المُجرَّدةِ يُسمِّيه العامَّةُ: “الخلاص“[2].
ويقولُ الرَّسولُ – عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ أَحدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثُمَّ يكونُ في ذلك علقةً مِثلَ ذلك، ثُم يكونُ في ذلك مُضغةً مِثلَ ذلك، ثُم يُرسِلُ اللهُ تعالى المَلَكَ فيَنفخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤمرُ بأَربعِ كلماتٍ: بِكَتْب رِزقه، وأجَله وعمَله، وشقيٌّ أو سعيدٌ)).
ثُمَّ انظرْ إلى الإبداعِ في خَلْقِ هذا الإنسانِ؛ قال تعالى: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 1 – 4].
نُسوِّيَ بَنانَه؛ أي: أصابعَه يُزيِّنُها اللهُ يومَ القيامةِ، وانظر لماذا عبَّر عنها فقط دونَ أعضاءِ الجِسمِ كالعَينِ واليدِ والأُذنِ؛ لأنَّ هذه الأعضاءَ متشابهةٌ في كثيرٍ من الناسِ، أمَّا الأصابِع، أمَّا الإبْهام، أمَّا البَصمة فلا تشابه ولا تقارب، وتلك هي مُعجزةُ القرآنِ مُعجزةُ اللهِ ربِّ العالَمين.
هذه النُّطفةُ التي تَتحوَّلُ إلى علَقةٍ، ثم إلى مضغةٍ، إنْ شاءَ اللهُ لها البقاءَ استقرَّتْ في الرَّحمِ، وإنْ لم يشأْ لها البقاءَ قَذَفها الرَّحِمُ، فالتي قدَّر اللهُ لها البَقاءَ وكمال الخَلقِ سمَّاها القرآنُ الكريمُ “مُضغةً مُخلَّقةً “، والتي لم يُقدِّرْ لها البقاءَ سمَّاها “مُضغةً غيرَ مُخلَّقةٍ”، والمُخلَّقةُ تَقرُّ في الأرحامِ إلى أجل مُسمَّى هو أجلِ الولادةِ، ثُمَّ بعدَ ذلك يُخرجُكم طفلاً.
يَخرُجُ الطفلُ إلى الحياةِ بعدَ أنْ خلَقه الله فسوَّاه في أحسنِ صورةٍ وفي أحسنِ تقويمٍ، وعلى أَحسنِ حالٍ، وقدْ نسَّقه الله ذلك التنسيقَ البديعَ في عالمَه الظاهريِّ والباطنيِّ؛ ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].
ففي عالمَه الظاهريِّ جعَل الله مِن أعضائِه ومَلامحِه هيئةً كريمةً، فليس هناك يدٌ بأطولَ مِن الأُخرى، ولا سَاقٌ بأطول مِن الثانية، ولا عينٌ بأوسعَ من الأُخرى، ولا أذنٌ بأعرَض مِن الأُخرى ولا قَدمٌ بأطول من الأُخرى؛ ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
وفي عالَمِه الداخليِّ تَجدُ تنسيقًا أعظمَ من التنسيقِ الخارجيِّ، تَجدُ جهازًا للتَّنفُسِ، وجهازًا للهضمِ، وجهازًا للدَّم، وجهازًا للغِذاءِ، وجهازًا للفضَلاتِ، كلُّ هذه الأجهزةِ من مَعدةٍ وأحشاءٍ وأمعاءٍ تَعملُ وتَتآخَى في أداءِ وظيفتِها؛فمَن الذي ألَّف بينها؟ مَن الذي وحَّد هدفَها ورسَم لها طريقَها؟ ذلك هو اللهُ ربُّ العالمين.
ثُم انْظرْ إلى عالَم الإنسانِ المعنويِّ بعد أنْ منحه اللهُ القُوى المُختلِفةَ، والغرائزَ المُتباينةَ، والقُدراتِ المُتصارِعةَ، ولكنَّ اللهَ – سبحانه وتعالى – نسَّقها، وجعَل الإنسانَ مُسيطِرًا عليها.
فاعْرف نفسَكَ مِن أينَ جئتَ؟ ولماذا خُلِقتَ؟ فمَن عرَف نفسَه عرَف ربَّه، ومن عرَف ربَّه أحبَّه، ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
وأمَّا عن أطوارِ حياتِه بعدَ خُروجِه مِن الرَّحمِ، فهو أولاً يَخرجُ ولا يَعلمُ شيئًا؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
يَقولُ حُجَّةُ الإسلامِ الغزاليُّ: “أوَّل ما يُخلقُ في الإنسانِ حاسةُ اللمسِ، فيدركُ بها أجناسَ الموجوداتِ؛ كالحرارةِ والبرودة، ثُم يَخلقُ اللهُ له بعدَ ذلك حاسةَ البصرِ، فيُدركُ بها الألوانَ والأشكالَ، ثم يَنفخُ فيه السَّمعَ، فيسمعُ الأصواتِ والنَّغماتِ، ثم يَخلقُ له الذَّوقَ، فيعرفُ طعمَ المذاقِ، ثُم ينتقلُ بعد ذلك مِن عالَمِ المحسوسِ فيخلقُ فيه التميُّيزَ وهو قريبٌ مِن سَبعِ سنين، وهذا طورٌ آخرٌ مِن طورِ وجودِه، ثم يَنتقلُ إلى طورٍ آخَرَ، فيخلقُ اللهُ له العقلَ فيُدركُ الواجباتِ والجائزاتِ والمستحيلاتِ“[3].
بعدَ الخروجِ مِن الرَّحمِ يَمنحُ اللهُ الإنسانَ القُدرةَ والقوَّةَ؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الروم: 54].
ومنَّا مَن يصلُ إلى الضعف الثاني، ومنَّا مَن تقفُ به الرحلةُ فلا يصلُ إليه؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ﴾ – بعد بُلوغِ الأشُدِّ – ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ – إلى الضعْف الثاني – ﴿لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5].
وإذا كان الإنسانُ قد خُلِق على أَحسنِ صُورةٍ وفي أحسنِ تقويمٍ، وكرَّمه اللهُ على سائرِ المخلوقاتِ، إلا أنَّه يَميلُ إلى المُتعِ الجسَديَّة، ويَنسى المُتعَ الروحيَّةَ، والشاعرُ العربيُّ يقولُ:
وَفِي قَبْضِ كَفِّ الطِّفْلِ عِنْدَ وِلاَدِهِ دَلِيْلٌ عَلَى الحِرْصِ المُرَكَّبِ فِي الحَيِّ وفِي بَسْطِهَا عِنْدَ المَمَاتِ إِشَارَةٌ أَلَا فانْظُرُوا أَنِّي خَرَجْتُ بِلَا شَيِّ |
ويُعبِّر ربُّ العزة عن هذا الجحودِ فيقولُ – سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ [العاديات: 6]، وخيرُ شاهدٍ على ذلك الإنسانُ نفسُه؛ ﴿ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾ [العاديات: 7]؛ لأنَّه يحبُّ متاعَ الدنيا المادي؛ ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8].
وإذا أصابَه البلاءُ أو الضرُّ لجَأ إلى اللهِ: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﴾ [يونس: 12].
ومِن الميولِ المُسيطرةِ على الإنسانِ حبُّه لكلِّ ما يُشبِعُ رَغباتِه؛ بيَّن اللهُ ذلك بقوله: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [آل عمران: 14]، ويقولُ – سبحانه وتعالى – ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]، وقال – سبحانه وتعالى – ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8].
وبعدَ أنْ تكلَّمَنا عن أطوارِ الجنينِ وعن أطوارِ الحياةِ، نسألُ أنفسَنا لماذا خُلِقنا؟ لم يَخلقِ اللهُ – سبحانه وتعالى – شيئًا عبثًا، لقد خلَق الأرضَ وجعَلها مسرحًا لإنْباتِ الزَّرعِ، وأَنبتَ الزرعَ؛ ليأكلَ منه الإنسانُ والحيوانُ؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 53، 54]، وخلَق الحيوانَ والأنعامَ؛ ليتمتَّعَ بها الإنسانُ؛ ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]، وخلَق الإنسانَ لهدفٍ هو العبادةُ؛ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 – 58].
[1] “رُوح الدين الإسلامي” عفيف طبارة.
[2] “رُوح الدين الإسلامي” عفيف طبارة.
[3] “المُنقِذ من الضَّلال“.
المصدر : الألوكة